كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

فرج الله الحلو الرمز العربي الشيوعي يسقط شهيدا في أقبية المباحث السراجية

د. عبد الله حنا- فينكس:

فرج الله الحلو الرمز العربي الشيوعي
يسقط شهيدا في أقبية المباحث السراجية
حزيران 1959
ولد فرج الله عام 1906، في قرية حصرايل، من أعمال جبيل، لأبوين فلاحين فقيرين، وذاق مرارة ويلات الجوع أثناء "السفر برلك". وبعد انتهاء الحرب تعلم في مدارس جبل لبنان. وفي أواخر عام 1930 اتفق مع فريد مسوح مدير الكلية الإنجيلية في حمص على أن ينام ويأكل في كليته مقابل أن يكون معلماً للغة العربية في صفوفها الابتدائية، وتلميذاً يحضّر للبكالوريا في قسمها الأول باللغتين العربية والفرنسية. وقد تأثر فرج الله الحلو بكتابات مجلة المقتطف المصرية ومؤلفات سلامة موسى. وفي الكلية الوطنية تعرّف على ناصر الدين حدّة أحد الوجوه المؤسسة للحزب الشيوعي، الذي أخذ بيده إلى طريق النضال في سبيل تحرير الكادحين والدعوة للاشتراكية. وعند عودته إلى لبنان اتصل بفؤاد الشمالي أمين عام الحزب الشيوعي آنذاك، وأصبح عضواً نشيطاً في الحزب.
زار الاتحاد السوفيتي للدراسة ومكث فيه من تموز 1933 إلى حزيران 1934 وكانت حصيلة تلك الزيارة كتاباً نُشر في عام 1937 تحت عنوان: "إنسانية جديدة تبني عالماً جديداً"، ضمّنه مشاهداته وانطباعاته عن بلد الاشتراكية الأول. لقد سعى فرج الله لتبيان أن الاشتراكية ليست وليدة مجتمع معين أو بلد واحد بل هي بنت التاريخ العالمي، أسهمت وتسهم في وضع أسسها جميع الشعوب. ونتوقف لقراءة الفقرة التالية ذات المغزى العميق في هذه السنوات العجاف، كتب فرج الله:
"ليست الماركسية بنت لينين ولا ربيبة روسيا القيصرية بل هي بنت التاريخ البشري وربيبة الإنسانية بأجمعها...".
لقد أراد فرج الله الحلو من نشر كتابه تبيان أن طرق النضال لبناء "إنسانية جديدة" ليست واحدة، بل هي متنوعة يبدعها عقل الإنسان المتطلع إلى الحرية.
***
في خريف 1934 توجه فرج الله الحلو إلى حلب لبناء تنظيم شيوعي في عاصمة الشمال وقد استمرت مهمة فرج الله فيها حتى مطلع عام 1936. عمل فرج الله بأناة وصبر على تأسيس حزب شيوعي في حلب في ظروف صعبة.
وعندما كان كاتب هذه الأسطر يقوم في نيسان من عام 1988 بالدراسات الميدانية في حلب للكتابة عن الحركة النقابية والعمالية في سورية، التقى باثنين من الذين تعرفوا على فرج الله الحلو في حلب. وكان فرج الله قد نظّمهم مع عدد من الشباب اليافعين في الحزب الشيوعي. ثمّ قام بإيفاد القادرين منهم إلى الدراسة الحزبية في موسكو. وتبدو خطة فرج الله واضحة في سعيه لبناء منظمة شيوعية عربية يكون المسلمون لحمتها وسداها. يتبين ذلك واضحاً في أحاديث من التقيت بهم وفي نوعية الشباب الذين أوفدهم فرج الله للدراسة الحزبية في موسكو وكلّهم من العرب السنة. ومن هنا يبدو واضحا أن فرج الله الحلو وضع اللبنات الأولى في بناء الحزب الشيوعي في حلب.
غادر فرج الله الحلو حلب في مطلع 1936. ومع النهوض الوطني الجماهيري في آذار 1936 انتقل فرج الله إلى دمشق، وأسهم في النشاط الوطني فاعتقلته السلطات وأبعدته إلى بيروت.
في المؤتمر الثاني للحزب الشيوعي في سورية ولبنان انتخب فرج الحلو وخالد بكداش أمينين عامين للحزب الشيوعي السوري اللبناني الموحد. واستمر فرج الله الحلو إلى جانب خالد بكداش في قيادة الحزب الشيوعي. وبعد نجاح خالد بكداش في المجلس النيابي السوري عام 1954، انتقلت القيادة من بيروت إلى دمشق. وبالإضافة إلى المشاركة في قيادة الحزب الشيوعي السوري اللبناني تولى فرج الله الحلو رئاسة تحرير جريدة "النور" عام 1956 خلفاً لظهير عبد الصمد، كما ذكر دانيال نعمة في "دفتر ذاكرته". وبعد قيام الجمهورية العربية المتحدة أخذ فرج الله الحلو على عاتقه قيادة الحزب الشيوعي السوري المثخن بالجراح، بعد الحملة المخابراتية الشعواء، وزج الآلاف من الشيوعيين وأصدقائهم في السجون.
في لقاء بتاريخ 20/1/2005 مع الدكتور في الكيمياء مصطفى أبا زيد، وهو من مواليد درعا عام 1935، ذكر أنه كان طالبا في كلية العلوم بالجامعة السورية عندما بدأت حملة الاعتقالات ضد الشيوعيين وأنصارهم في مطلع عام 1959، فتوارى عن الأنظار خشية اعتقاله. استأجر مصطفى غرفة متواضعة في البساتين إلى الشرق من باب شرقي وكانت مأوى لأقربائه وأصدقائه من الشيوعيين المختبئين. ثم استأجر غرفة بصفته طالباً جامعياً في بستان البختيار على طريق كفرسوسة إلى الجنوب الغربي من دمشق. الغرفة، التي استأجرها في قبو من بناية حديثة من ثلاثة طوابق بعضها غير مسكون. وأخذ يتردد على مصطفى ويبيت عنده أحيانا احد الكوادر السرية في الحزب الشيوعي صبحي الحبل المعروف بـ"أبو فارس".
أبو فارس هذا كان من "زكرتية" الحزب ومن عائلة حمصية شيوعية مشهود لها بالأمانة. عندما كان فرج الله يهيئ لقيادة العمل السري بعيداً عن المشبوه به رفيق رضا، في وقت بدا واضحاً فيه أن المباحث السلطانية تحضّر للهجوم على الحزب الشيوعي، اختار "أبو فارس" في جهازه السري الضروري لتنقله والاتصال بمن يلزم. نقطة الضعف في هذا الاختيار أن رفيق رضا، الذي تولى بين عامي (1954 – 1958) قيادة منظمة دمشق، كان يعرف الجميع ولديه خبرة في العمل السري. ولهذا فإن منظمة الحزب في دمشق كانت مكشوفة من عميل المباحث الجديد رفيق رضا.
زار فرج الله غرفة مصطفى أبا زيد السرّية وأعجب بها كونها محمية من الوجهة الأمنية. وطلب فرج الله من مصطفى، وكان معروفاً عنده باسم "أبو فياض"، أن يسمح لأبي فارس بالمبيت عنده ويتعاونا سوية. ارتكب أبو فارس خطأ "فنياً" في تحركه السري ولقائه مع أحد الشيوعيين من بيت الحلاق. فقد كان يلتقي به عند تقاطع المجتهد وهو قادم على دراجته العادية من طريق كفرسوسة. وهكذا عرف هذا الشيوعي من بيت الحلاق أن أبا فارس ساكن في تلك الجهات. وأثناء تبادل الأحاديث بين الاثنين على قارعة الطريق تحدث "الزكرتي" أبو فارس ومن باب "العنترية" أنه يسكن في بناية حديثة غير مسكونة بالكامل. وبعد مدة اعتقل ابن الحلاق وتحت التعذيب أقرّ بأن أبا فارس يسكن في بناية حديثة غير مسكونة بالكامل. قدّر رفيق رضا أن أبا فارس هو صلة الوصل مع من يقود بقايا الشيوعيين غير المعتقلين. وبدأ البحث الجنوني عن هذه البناية وغرفة القبو فيها . واعتُقل أبو فارس، ومعه مصطفى، بعد أن خاض أبو فارس في الغرفة معركة دامية بالأيدي مع المهاجمين. في أقبية المباحث صمد، في البدء، أبو فارس ولم يَبُحْ ببنت شفة. ولكن شراسة التعذيب ونفخ البطن بالهواء عن طريق الشرج جعلت أبا فارس وهو في شبه غيبوبة يعترف عن المكان السري، الذي يقيم فيه فرج الله.
كان مصطفى أبا زيد معتقلاً في إحدى غرف قبو المباحث، ولم يتعرض للتعذيب. فقد قال رفيق رضا لجلادي المباحث: هذا شيوعي صغير لا يعرف شيئاً ولا تضيّعوا الوقت معه. عليكم بانتزاع الاعتراف من أبي فارس.
خالد الزقيق (أبو الحاج) أحد الشيوعيين البسطاء والذي عمل كادرا في الحزب، تحت إمرة رفيق رضا سرعان ما انهار تحت تأثير رفيق رضا وباح بكل ما يعرف. ولسبب ما اقترح رفيق رضا على المباحث تشغيله آذناً في قبوهم. الروح الإنسانية الطيبة الكامنة في أعماق خالد الزقيق دفعته لإخبار مصطفى أبا زيد المعتقل في قبو المباحث بعملية التعذيب الممارسة تجاه أبو فارس. ويبدو أن الزقيق كان في سرّه معجباً بهذا الصمود. وعندما اعترف أبو فارس جاء الزقيق حزيناً وأخبر مصطفى بما شاهد وسمع.
بعد اعتراف أبو فارس تمكن قطيع المباحث من اعتقال فرج الله الحلو وتعذيبه بصورة وحشية وهو صامد في وجه جلاديه إلى أن فارق الحياة في أواخر حزيران 1959. وما قام به الجلادون معروف من تذويب جثته بالأسيد حتى تضيع معالم الجريمة. وباستشهاد فرج الله الحلو سارت المخابرات السراجية، نسبة إلى عبد الحميد السراج وزير الداخلية في عهد الوحدة بين سورية ومصر برئاسة جمال عبد الناصر - (ذات التراث السلطاني المملوكي – العثماني) في خطى سريعة لإبادة مؤسسات المجتمع المدني في سورية، وقتل روح الكفاح وتشويه الكرامة العربية، التي يتحلى بها شعبنا.
ومما يبعث على الأسى أن فرج الله الحلو الوطني العربي، والقائد الشيوعي المثالي المتواضع والمثقف "التقي النقي الطاهر العلم"، والمعروف بأنه من دعاة العروبة الإنسانية والوحدة العربية الديمقراطية المناهضة للاستعمار، يُقتل من قبل برابرة يزعمون أنهم يدافعون عن "القومية العربية"! ولكن فرج الله الحلو تحدّاهم بهدوئه وصموده وعزيمته، التي لا تلين. وذهب شهيد مبادئه وأفكاره ومُثله، وقضى متمسّكاً بأحلامه في تحرير الإنسان من الاستغلال وبناء وطن حر وشعب سعيد.
لقد أسهم فرج الله الحلو في خلق تيار ثوري في المشرق العربي من خلال كتاباته الفكرية والسياسية في جريدة "صوت الشعب" ومجلة الطريق والجرائد والنشرات السرية للحزب الشيوعي في سورية ولبنان. وباستشهاده البطولي قدّم للحركة الثورية العربية معيناً لا ينضب من روح الصمود والعمل الدؤوب لبناء مجتمع عربي لا أثر فيه للاستغلال والاضطهاد والاستعباد .
رجا كاتب هذه الأسطر من يوسف خطار الحلو أن يزوده بما يعرف من معلومات تلقي الأضواء على نشاط فرج الله، فأجاب برسالة مفصلة ختمها بالفقرة التالية:
"إن استشهاد فرج الله على الأرض التي تلَقّى عليها ألف باء الشيوعية في حمص سنة 1931، يؤكد، أنه كتب تاريخه بالدم لا على رمل الطريق، بل على الحور العتيق، في بساتين حلب وغوطة دمشق وأشجار حمص".