كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

أنقذوا الدراما!

في الدراما السورية أصبح من النادر أن ترى عملاً فنياً يقدم فائدة ومتعة وقيمة عالية وجودة، وأصبحنا (واتحدث عن نفسي) أبحث عن أي قيمة ضمن أي عمل من الممكن ان يقدمها مهما كان نوعها في وسط هذا الابتزال الجارف الذي نعيشه بواقعنا الدرامي والذي يزداد للاسف دون اي توقف او رادع لدرجة أن المشاهد بات يشعر أنه منتمي للرديء ولا مانع لديه في متابعته، لا بل في التهليل له والدفاع عنه! وهو من جملة ما ابتلينا فيه مؤخرا بسبب الجهل وتكريس واقع وثقافة (كلو عادي!) ووصلنا لحافة.. الانتحار الذوقي!
.
ومع غياب النقد والثقافة النقدية في الاعمال الدرامية، لم يعد هناك رادع يمكن أن يردع أي شركة انتاج من تحويل بوصلتها من الربح التجاري الى المحتوى الهادف رغم اتفاق الجميع على انحدار الدراما السورية، وعوضا عن أن نبحث عن حلول كضخ دماء جديدة في الكتابة والتمثيل والاخراج والرقابة.. الخ، لا زلنا نسير بسرعة نحو الهاوية، وطالما أن الجمهور مبسوط.. فالأمور عال العال مهما كانت درجة ردائة محتوى العمل المقدم.
.
ولن ادخل في هذه التفاصيل التي اعتدت كتابتها كل سنة مع كل موسم مسلسلات، لكن سأتوقف عند ما هو ايجابي، وإن كان من المندور البسيط وجوده لكن يجب ان نركز عليه عسى ان يكون بداية العودة.
.
في مسلسل (تاج) غابت القصة والحوارات والحبكات الدرامية كالعادة ,وكان الشط والمط سيد الموقف، لكن هناك ايجابية في هذا المسلسل وهي استعراض خقبة هامة في تاريخ سوريا في صراعه مع المستعمر الفرنسي بشكل صحيح واقعي لا كما كنا نراه في مسلسلات البيئة الشامية التي اهانت البيئة الدمشقية وحطت من كرامة المرأة وحولتها الى خادمة في المنزل ومربية اطفال ومجردة من كل حقوقها ونكرة في المجتمع!
.
في مسلسل تاج الذي رصد الحياة الحقيقية في حقبة الاستعمار الفرنسي رأينا المرأة السورية كما هي في الحقيقة، رأينا الطالبة والطبيبة والمربية والفدائية والسياسية والخادمة والمعلمة وربة الاسرة والمناضلة والرسامة والشاعرة.. الخ
.
لدينا دائما ما نقوله عندما نتحدث عن ضرر مسلسلات البيئة الشامية والموضة التي سارت بها ليس على سبيل تلطيخ سمعة المرأة فحسب، بل ايضا لجعل الصراعات مع المستعمر الفرنسي من باب الخيال العلمي وغياب المادة التاريخية التوثيقية، والاعتماد على بطولات وهمية غير موجودة، كل ما ذكر خرب عقول الجميع بأن اعطاهم فكرة خاطئة عن حقبة تعد من أهم الحقب في سوريا وتاريخها الحديث.
.
وهنا نرى أهمية الدور الذي تلعبه الدراما في ثقافة المتابع عبر ما تركز عليه من معلومات، ما يحسب لمسلسل تاج أنه قدم عمل اخراجي رائع، وقدم صورة نضالية هامة جدا في حقبة الثلاثينات والاربعينات عكست الواقع السياسي السوري وقتها دون زيادة واكشن وحركات بطولية مملة.. العمل وثق احداث يجب ان لا تنسى، بطولة شهداء المجلس النيابي.. النضال الثوري في الجامعات ودور جامعة دمشق في القضاء على الاحتلال الفرنسي, اهمية اعضاء مجلس البرلمان وتواصلهم مع الشعب، وحدة الشعب في نضاله للتحرر من الاستعمار، بطولات شباب سوريا وتضحياتهم.. الخ
.
في أكبر مكان للانتاج في العالم، في هولييود بامريكا. نرى أهمية الاعمال التوثيقية والوطنية، ومقدار البذخ في عملية انتاجها ورعايتها واخراجها بأفضل صورة للشعب والمشاهدين. لنأحذ بعض الأمثلة لندرك أهمية تلك الاعمال:
.
فيلم pearl harbor 2002.. هذا الفيلم انتج في الالفية الجديدة وهو يرصد قصة الهجوم الوحشي الياباني على ميناء pearl harbor الامريكي في الحرب العالمية الجديدة، القائمين على العمل ارادوا في هذا الفيلم توثيق ما يسمى الوحشية اليابانية كي يبرر ما قاموا به لاحقا حول قصف اليابان بالقنابل الذرية وابادة مدينتين كاملتين. النص الامريكي في فيلم pearl harbor لم يتجن على اليابانيين اطلاقا، هو فقط عرض الجانب الوحشي منهم للشعب الامريكي لتوثيق هذه الحادثة التي غيرت مجرى الحرب بالكامل.
.
يمكن اعتبار فيلم years of slave 12 من أبرز الافلام الامريكية التي انتجت في 2013 وترصد حقبة العبودية في امريكا في أواخر الثمانينات من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، تعتبر هذه الحقبة الاخطر في تاريخ امريكا الحديث والبعض كان يظن أن الولايات المتحدة ستنهار على خلفية الصراعات العبودية التي عمت في كل امريكا.
وجد صناع الدراما انه من المفيد ان تجسد تلك الحقبة بحذافيرها كما حدثت بدون زيادة او نقص كي تعرض لجميع الامريكيين حقبة هامة من حقب بلادهم المهمة، والفيلم رائع لدرجة انه نال الاوسكار!
وتمعنوا بهذه الجملة التي وردت في الحوار على لسان بطل الفيلم (يوحي لنا الموت وحده أخيرا، بل متأخرا، أن السلام يجب أن يحل بين شبان لا فرق بينهم سوى لون البشرة!)
قارنوا بين هذا العمق في الحوار وبين حوارات مسلسلاتنا المملة بغير اي قيمة فعلية تقدم للجمهور الا اثارة عواطف فارغة لا تنتمي الى واقع الانسان النفسي!
.
على صعيدي الشخصي يمكن ان اعتبر فيلم north country من أهم الافلام في تاريخ هولييود نظرا لما يحمله من قيمة توثيقية تاريخية لدور المرأة في الغرب وفي امريكا تحديدا.
الفيلم انتج في عام 2005، والقصة تتحدث عن معاناة المرأة في حقبة مطلع القرن الماضي في امريكا كونها محرومة من اغلب حقوقها مقارنة بالرجل، بل هي محرومة حتى من تدخين سيغارة في الشارع او المقاهي ومن حقوق التدريس في الجامعة والانتخاب وما الى ذلك ,ولكن الفيلم سلط الضوء على ولادة قانون جديد بصدد تجريم الاعتداء على المرأة وخاصة في مقر عملها، وذلك عبر استعراض حياة عدة نساء عاملات، إن توثيق النضال المرير للمرأة للحصول على حقوقها عبر اعمال درامية هام للغاية لبقاء تلك التجارب حية أمام الجميع في المستقبل، فهي ترمز لحقب هامة وخطيرة في مراحل التطور الحضاري للمجتمعات ويجب ان تقدم دون أي تزييف أو مبالغة.
.
ونعود..
طبعا هناك الكثير من الافلام والاعمال الدرامية التوثيقية لحقب وتاريخ وصراع ونضال ,مما يؤكد دور الدراما الهام جدا في صناعة المستقبل والحاضر، وكم يعتبر سلاحا هاما في معركة الوعي والفكر. وللاسف، كغيره من الاسلحة السلمية، نحن رمينا هذا السلاح للشركات التجارية ونحن في مرحلة تعتبر من أمس الحاجة الاستفادة من أي سلاح لعودة بناء الانسان والوطن.
.
إن تقييم العمل الفني الدرامي يبدأ بالفكرة والنص، كي تصل بشكلها الصحيح يجب ان تصدر عن كاتب مثقف ومسلح بالعلوم الاجتماعية والفلسفة وعلم النفس، كي نشهد حوارات جميلة عميقة وقوية..
انظروا لروعة هذه الجملة الواردة في فيلم the godfather وما تضمنته من حكمة حقيقية جدا :
“Keep your friends close, but your enemies closer”
ابق اصدقاءك قريبين لكن ابقي اعداك اقرب!
.
واختم..
من الجميل ان نرى أي شيء ايجابي يقدم، وان نثني عليه، وأن نحلم ان نشهد تغيير حقيقي في واقع الدراما، ولن يبدأ هذا التغيير إلا عندما يتبوء المشاهد دوره الرقابي النقدي، وأن لا يكون مساعد على انتشار الابتزال الفني، وان يرفض الرديء ويطالب بالجيد، له ولاولاده ولكل من هو قادم، هي معركة فكرية يجب أن تبدأ لاستئصال كل رديء وزراعة الوعي في عقل المشاهد.
.
كم هو جميل رؤية عمل درامي يوثق ويعيدنا لزمن جميل يمجد النضال السوري ووحدة الشعب بأطيافه كاملة وننشد دون أن نشعر مع كل مقطع انشودة قصيدة العبقري عمر أبو ريشة..
.
في سـبيل المجد و الأوطان نحيا ونبيد
كلـنـا ذو هـمـة ..... شمـاء جبـار عنـيـد
لا تطيـق السادة الأحرار أطواق الحديـد
إن عيـش الذل والإرهاق أولى بالعبـيد
لا نهـاب الـزمـن ... إن سـقـانـا المـحـن

فـي سـبيـل الـوطـن .. كـم قتيـل شـهيـد

صفحات الفيسبوك