كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

“المصالحة”.. على طريقة عاصي الرحباني

تمّام بركات- فينكس

 حسمت “جورية” أمرها، وهربت خطيفة مع “سعد الفران”، وهكذا لم تكن من نصيب لا “الشيخ نصري-نصري شمس الدين”، ولا “أبو صالح-وديع الصافي”، وذلك بعد أن أوقعتهما معا في حبها؛ التنافس عليها بينهما، كان البداية في خصام ينشب بينهما، يُعبر عن ضراوته “الشيخ نصري بقوله: “خلصت الأيام ما خلصت العداوة رح بيصيروا عشرين سنة”.
السبب القديم للخلاف يأتي في معرض محاولة التوفيق بين الخصمين، وهي محاولة يؤديها الكورس غناءً، كجزء من المحاورة الغنائية، التي يشكلها هذا المقطع المسرحي الغنائي؛ الكورس سوف يواسيهما معا “الله نجاكم من جورية”، فكما يبدو من وصفها، هي فتاة ساذجة وربما لعوب، ولو أن أحدهما قد تزوجها، لقامت بفعل الهرب ذاته.قد تكون صورة ‏‏‏٣‏ أشخاص‏ و‏نص‏‏
بعد تلك الحادثة القديمة، يتصالح الخصمان، لكن الخلاف الجديد لا يلبث أن يقع بينهما لسبب آخر، وهو التنافس بالغناء، يشرح ذلك أبو صالح “صرنا نغني صار يغني ويجب معو بنت اختو”، وهذا ما يبرره “الشيخ نصري” بأن خصمه أيضا يستعين بأبناء أخته، الذين سرعان ما يؤكدون أنهم لا يساعدونه في الجانب الفني، وإنما فقط يذكرونه، لأنه صار ينسى بعض الكلمات، وهذا ليس فيه ملامة، مقابل الخصم الذي يغني مع ابنة أخته، اثنان ضد واحد، ومن هي ابنة أخته؟ إنها فيروز، التي يصفونها بأنها تقول “مخمس مردود”، أي أن ردودها ومواويلها تعادل بقوتها الصفعة التي تشترك فيها الأصابع الخمسة جميعها، هذه المناوشة وتراشق الاتهامات، يُسعر الخلاف الفني الغنائي من جديد، فنستمع إلى موالين من كل منهما يجعل المستمع يقول: ليت لو كل الخلافات بين البشر على هذه الطريقة.
ثم تأتي (حنّة-السيدة فيروز) ابنة أخت الشيخ نصري، لتتحول من شاهد نفي إلى شاهد إثبات، فبعد أن كانت سببا للخلاف، لأنها تشارك خالها في السجالات الغنائية، ها هي تستهل وصولها، بالإعراب عن رغبتها بتحقيق المصالحة، فتوجه موالاً إلى أبي صالح خصمها هي وخالها، تخبره فيه: “يابو صالح أنا جاي تَ صالح”، فيكون لها ما أرادت، يجيبها أبو صالح “ع راسي وعيوني أنت بتموني”.
الصراع الدرامي ينتهي، وتتآلف الأصوات جميعها فتقدم سلسلة من روائع الأغاني، يبدؤونها بـ: “باب البوابة ببابين”، وينتقلون بعدها إلى “عَ بوابكم كل يوم برمي بنفسجة”، وتأتي بعدها “غنينا رقصنا وسهرنا/ عَ جناح الغنية طرنا”، الاستهلال الأخير سيكون تمهيدا مؤاتياً للموضوع الذي تنجح الكلمات مع اللحن، بجعله جزء طبيعي من الحب، والذي هو الموضوع الرئيسي للعمل ككل، الموضوع الذي يطل بلطف في الأغنية الدرامية وهو الوطن، على هذا النحو “بعيوني وطني بعيوني”، لتصل بعد ذلك للأغنية الشهيرة”تراب عينطورة”.
يحار المستمع كيف يمكن لُصناع ذلك العمل، أن يجمعوا هذه التوليفة المبهرة، من اللحن والشعر والأصوات، فيصنعون عملا لم يزل يُسمع في كل صباح إلى اليوم، في البيت والسيارات والطرقات والمقاهي وأماكن العمل.
القيّم في هذه الأغنية الدرامية، والتي ترجع إلى عشرات سنين خلت، أنها حوارية غنائية مسرحية، فهي تنتمي بذلك، إلى المسرحين الشعري والغنائي بآن، ليس بطريقة مستوردة تتأثر بالمسرح الغربي، بل على طريقة أرياف المنطقة، التي كثيرا ما كانت تقضي لياليها بسهرة، يتنافس فيها مطربان أو أكثر إما بالعتابا أو بالزجل، ويتحلق العديد من الجيران والأهالي حول ذلك السجال الغنائي، في أزمنة ما قبل التلفزيون والفضائيات ومواقع التواصل وغيرها من أساليب تفريق الناس، وهذا هو المسرح الذي يقدمه الكبير عاصي الرحباني، ينطوي على كل مقومات الأصالة.
العجيب في الأمر، أن مدارس وأكاديميات المسرح في بلداننا، لا تنظر إلى هذه التجربة، مع أنها الأكثر نجاحا في الوصول إلى الجمهور، والأكثر تأثيرا به، والخالدة على مر الأيام، وينشغلون عن هذا الأنموذج الرفيع، بتقديم نماذج غريبة، مستوردة، لم تنجح لا في تشكيل تيار فني له حضوره، ولا في الوصول إلى الناس!.
الملمح الأهم في مقطع المصالحة على منهج عاصي الرحباني، هو أنه لا يتعالى على الجمهور، بل يحترمه ويسعى إلى إرضائه، وهو يعرف أن ذلك ليس سهلا؛ توليفة الأصوات الثلاثة التي سترافقه في رحلته الفنية، تقترب أو تكاد تحقق الكمال، إن كل صوت بمفرده يستطيع أن ينهض بأغنية جيدة، وهي معا مجتمعة تشكل هارموني؛ وديع الصوت الجبلي العميق بدفئه، ونصري شمس الدين بصوته الدافئ والأليف، تقابلهما حدة صوت فيروز، التي تعدّل من رخامة الصوتين وتبرز الفروق الجمالية بينهما في آن، مع أنها بمفردها، فحدث ولا حرج.
كيف يصل الفن إلى هذه الإبداعات؟ هل لأن وديع الصافي كانت لديه واسطة؟ أم هل لأن نصري كان قريب أحدهم، أو لعل فيروز قد جاءت بتوصية! على طريقة “تلفون صغير من صوت كبير”، هل الاحتمالات الثلاثة واردة؟ معاذ الفن وحاشا الإبداع.
لقد عرفنا كل منهم ووصل إلى قلوبنا بجهوده وفنه وإبداعه يكفي أن نذكر أن نصري شمس الدين، عندما انضم إليهم، فإنه كان قد وقف في اختبار، لمعرفة إمكانياته ومستواه الفني، أمام لجنة من مستوى بديع، تتألف من ثلاثة من عمالقة الفن: عاصي الرحباني، حليم الرومي وفيلمون وهبي، ومن كالفنان بالفن يفهم.