كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

دبلوماسية الأربعين

العباس السوداني- فينكس 

يمكننا أن نصف زيارة الاربعين بكونها فعالية اجتماعية شعائرية أسست لمفهومٍ جديدٍ متطورٍ أكثر من المفاهيم الثقافية السائدة كالعولمة، وصراع الحضارات وغيرها.. ويمكن أن نصطلح عليه "تلاقح الحضارات"، والذي بدوره يؤدي الى تجانسٍ بين المتباينات العرقية والإثنية والثقافية، على اساس المشترك الانساني، ولعل هذه الدبلوماسية افلحت ومازالت تفلح اكثر بأن تثبت كيوننتها كمستوىً متقدمٍ من ادوات تحقيق السلام.

ففي القرن التاسع عشر عرف Sir Ernest Satow الدبلوماسية على انها السلوك السلمي للعلاقات بين الدول. واذا ماتابعنا وضع العراق بعد العام ٢٠٠٣ فلعلنا نجد ان اهم (فعالية اجتماعية) أثرت في مستوى العلاقات الدولية للعراق هي زيارة الاربعين، ففي العالم الجديد يعتبرُ التأثير على الشعوب تأثيراً على صانع القرار، والتأثرُ الفكري أوقع ادوات التأثير، واما التأثر الفكري بدوره فيأتي بطريقين، وضحهما العالم Sigmund Freud في تحليله لاجتماعية العقل البشري، وهما التأثُر الواعي والتأثر اللاواعي، والتأثرُ اللاواعي هو التأثر الفكري الذي يقوم على اساس الممارسات الفعلية التي تبني الانطباعات الفكرية، وهنا يكمن دور زيارة الاربعين المهم، وهذا ما يمكن توضيحه بالآتي:

اولاً: الموكب والعلاقات الدولية

يمكننا تعريف الموكب على انه مؤسسة مصغرة غير ربحية والتي تقدم خدمةً معينةً للزائر المشارك في هذه الفعالية الشعائرية، واذا وصلنا الى فهمٍ مناسبٍ لقاعدة التأثير المذكورة سلفاً نستطيع ان نستنتج أن هذه المؤسسات المنتشرة على طول طريق الزائرين المتجه الى كربلاء، هي احدى اهم ادوات الممارسات الفعلية للتأثير المباشر في الزائر الاجنبي والذي -أقصد الأثر- يتطور شيئاً فشيئاً ليكون سبباً في ارساء مبادئٍ جديدةٍ للتعاون بين دولته وبين العراق بعنوانه عاصمةً لهذه الفعالية. فمثلاً اذا حاولنا دراسة علاقة العراق مع باكستان والتي تعتبر من الدول النووية المتقدمة سنجدها علاقة تذبذبية بدأت منذ العام ١٩٤٧ حيث كان العراق اول دولة عربية تعترف بباكستان المستقلة من الهند. ثم عضوية كليهما في حلف بغداد وصولاً الى موقف العراق من الحرب الهندية الباكستانية ١٩٧١ ثم توتر العلاقة بعد طرد السفير العراقي في ١٩٧٣ و زيادة التوتر في ١٩٩١ وصولاً الى العلاقات الجديدة بعد عام ٢٠٠٣ وازدياد مساعي تطويرها في السنين الماضية ولاسيما منذ ٢٠٢١ والزيارات المتبادلة بين مسؤولي الدولتين الى يومنا هذا. الا ان العلاقة يمكن ان توضح بثيمتين اساسيتين وهما:

ثيمة أمنية والتي قد تتفاوت اهميتها من ضرفٍ وزمنٍ الى اخر

وثيمة اجتماعية وقد تكون ابرز عناصرها زيارة الاربعين، ففي عام ٢٠٢٣ وبعد استقبال رئيس الجمهورية العراقي عبداللطيف رشيد لوزير الداخلية الباكستاني رانا ثناء الله خان، جرى الحديث عن استقبال ١٠٠ الف زائر باكستاني خلال زيارة الاربعين. وهنا يكمن التأثير الثقافي لزيارة الاربعين وتبرز الاهمية المشتركة في توطيد العلاقة بين الدولتين. 

من جانبٍ اخر اذا ماتناولنا العلاقات العراقية الخليجية مثالاً، فقد نرى ان مشتركات (الامن، الاقتصاد، الحضارة) هي أبرز محددات هذه العلاقة، وتندرج زيارة الاربعين ضمن الثيمة الاجتماعية الحضارية رغم تفاوت تأثيرها بين دولةٍ واخرى، فقد تكونُ مؤثرةً في البحرين والكويت مثلاً أكثر من سواها، لكن خط التأثير البياني يُقرأ بأنه في طور التصاعد لاسيما بعد المناخ السياسي الجديد مع السعودية. من جانبٍ اخر ينطبق المبدأ نفسه على على اغلب الدول الاخرى التي يشارك مواطنوها في هذه الفعالية كدول اسيا الوسطى والدول الافريقية وغيرها.  وعوداً على بدء هنا يكمن دور الموكب (بتعريفه العام كواجهة خدمة) وما سواه من واجهات الخدمة في التأثير بالاجانب الذين سيأثرون في الرأي العام في دولهم والذي ينعكس تأثيراً على رأي صانع القرار وان كان ذلك التأثير متفاوتاً بين دولةٍ و أخرى.

ثانياً: الافعى السوداء و نفق النور

في العام ٢٠٠٣ وبعد سقوط النظام البائد في العراق اشتهر وصف (الثعبان الاسود) الذي تبنته بعض شخصيات الادارة الامريكية المتابعين للشأن العراقية في تعبيرٍ عن الزيارة الاربعينية، ولعل هذا الوصف كما عبر عنه باحثون وقارئون للمشهد آنذاك يعبر عن فهم العالم لقوة هذه الفعالية ومستوى تأثيرها كون الثعبان الاسود من اشد انواع الثعابين فتكاً وقوةً، حتى ان في بدايات انطلاقها بعد العام ٢٠٠٣ حاول الكثير تصوير هذه الفعالية على انها فعالية ذات ارتباطات سياسية واجندة خاصة. في المقابل وصف احد المفكرين هذه الفعالية بعبارة "نفق النور"، وكلا الوصفين يعبران عن حالةٍ صوريةً هندسية يصفها المهندسون بـ Top view والتي تعني صورة حية علوية، فكما أن كل الطرق تتجه الى روما فصفوف الزوار والطرق جميعها تتجه الى عاصمة واحدة هي كربلاء، واختلف التعبير باختلاف الأيدلوجيات الفكرية او الدينية او السياسية. بعد مضي ٢٠ عام على سقوط النظام البائد وبعد ان تغير الوضع السياسي والاجتماعي في العراق، ولا سيما في ضل وجود الارادة العالمية الجديدة لأن يصبح العراق بيئةً مستقرةً مما قد يخدم مصالح دول العالم المتعددة، بكونه طريقاً للنقل التجاري الدولي من جانب، ورابطاً بين دول الشرق والغرب وفق المنظار الجيوسياسي من جانبٍ اخر، وبلداً يتميز بأهميته الاقتصادية والحضارية من جانبٍ ثالث. ومن ثم ما اثبتته هذه الفعالية بكونها فعالية انسانية لا ترتبط سياسياً بفكرٍ او جهة، وهي عابرة حتى للمفهوم الديني والمذهبي، فيمكننا الاستنتاج هنا ان حتى الفلسفة الضدية التي عُرفت بالثعبان الاسود بدأت تتطور لان تتحول بدورها الى فلسفة نفق النور. وفي هذا الصدد أثبتت هذه الفعالية مقبوليتها ضمن النطاق الدولي وليس الاقليمي فحسب، وزالت عنها الشبهات الأولية مما قد يزيد في مستوى تأثيرها الدبلوماسي الاجتماعي لأن تكون ثيمةً للاطمئنان والاستقرار، لا سيما وان فعاليةً بمثل هذا الحجم أصبحت عنصراً أساساً لتصدير العراق القوي الذي استطاع ان يحافظ على امنها وان يوفر الغطاء الامني واللوجستي والتنسيقي لها.

ثالثاً: التبادل الثقافي والاقتصادي

رغم ان هذه الفعالية و ادوات الخدمة فيها هي ادوات غير ربحية، توفر للزائر عموماً متطلباته بشكلٍ مجاني، الا ان لزيارة الاربعين تأثيراً اقتصادياً أكبر واهم ضمن اطار الفهم العلمي للمعنى الاقتصادي، فمثلاً في مقالٍ منشورٍ لغرفة تجارة النجف الاشرف في السادس من اب العام الحالي، عبروا عن ان الزيارة الاربعينية تعتبر من اهم الفعاليات لتنشيط الدورة الاقتصادية في العراق، لا سيما وان المنتجات التي يستخدمها اصحاب المواكب والقائمين بخدمة الزوار اغلبها منتجات محلية الصنع مما يؤدي الى زيادة مستوى الانتاج الغذائي، كذلك الامر ينعكس على المواد الزراعية المستهلكة والتي تؤدي الى زيادة مستوى الطلب خلال شهري محرم وصفر مما يدعو الى الدفع باتجاه اهتمامٍ اكبر لزراعة المحاصيل الزراعية وغيرها، من جانبٍ اخر يعتبر تطور التبادل التجاري بين البلدان عنصراً اساسياً لتنشيط الحراك الاقتصادي وتقوية الدينار العراقي والذي سيتم التعامل به من اكثر من ٥،٠٠٠،٠٠٠ مليون اجنبي وافد للعراق خلال هذه الزيارة. اضافةً لكل ما سلف، فللتبادل التجاري تأثيرٌ ثقافيٌ ايضاً، فهو عنصر اساسي بتصدير السلع الفلكلورية العراقية ومواد التأثير الاجتماعي العراقي كالطعام والزي العراقي للاجانب مما يوفر اداةً نادرةً لتوضيح اسلوب العيش الاجتماعي العراقي للاخرين، والذي يؤدي بدوره الى انفتاح العراق اكثر واستقطاب الاجانب للتعرف على العراق ويساهم في بناء الاواصر العلاقاتية الاجتماعية بين المجتمعات المختلفة وزيادة انفتاح البيئة العراقية على الخارج والتي كانت منغلقةً لاكثر من ٤ عقود من الزمن في القرن الماضي، وهذا يساهم بشكلٍ كبير في رفع امكانية العراق في تقوية وتعضيد مستوى فاعليته وتأثيره في الشؤون الخارجية كمتفاعلٍ أساسيٍ مع هذه البلدان.

رابعاً: الأربعين وخليجي ٢٥

تعتبر بطولة كأس الخليج العربي ٢٥ التي استضافها العراق في محافظة البصرة عام ٢٠٢٣، من الفعاليات ذات الفارقة والتي أثرت كثيراً في الرأي العام الاقليمي والخليجي على وجه الخصوص، بعد ان تميز العراقيون بحفاوة استقبالهم وترحابهم للضيوف الاجانب الذين دخلوا العراق لحضور مباريات البطولة. ولعلنا لا نجافي الحقيقة اذا قلنا ان السمات المجتمعية العراقية التي رافقت هذه الفعالية الرياضية قد استُلهمت من طيات زيارة الاربعين، والتي على طول ٢٠ عام كانت دورةً تدريبية واسعةً وكبيرةً للفرد العراق لمفاهيم الايثار والعطاء والكرم وحسن الاستقبال. ولعل بعض الباحثين يشيرون ان هذه الصفات هي صفاتٌ غريزيةً لدى العراقي وهي انعكاسٌ لقيم العروبة والوطنية التي تميز بها ابناء هذه الجغرافية منذ عصور، الا ان الواقع يشير الى وجود علاقةٍ استباقيةً بين المفهومين، فإن كان السؤال هل القيم المجتمعية هي من أعطت للاربعينية وهجها أم ان الاربعينية هي من طورت وحسنت القيم المجتمعية العالية؟ فهنا حريٌ بنا أن ندرس التأريخ شيئاً فشيئاً، والدارس للتأريخ يرى ان هذه القيم هي قيم غريزية موجودة في روحية المجتمع العراقي وهذا فصلٌ لا يمكن انكاره، ولكن الاربعينية تأريخياً ومنذ بداية شيوعها بعد استشهاد الامام الحسين وازدياد وقعها بعد اشارة الامام الحسن العسكري لذلك بدأت هذه الفعالية بتشكيل نسق جديدٍ متطورٍ لمجتمعاتٍ قد عانت ما عانت من الانحطاط الخلقي والقيمي نتيجة الاستعمار وتوالي الحروب وتأثير المستعمرين على مر التأريخ منذ الدولة الاموية وصولاً الى العراق الحدث بعد سقوط الامبراطورية العثمانية ثم حقبة البحث وصولاً الى العراق الديموقراطي بعد ٢٠٠٣. وباستعراضنا صفحات التأريخ نجد ان الاربعينية هي المشكل والمحفز الاساسي لهذه القيم العالية. واذا ما تابعنا ذلك بدقة نرى ان هذا الدور المهم لا يمكن ان يتحقق الا بفعاليةٍ كبيرةٍ مهمةٍ كهذه الفعالية والتي أرست هذه القيم المجتمعية المهمة وعضدتها وطورتها والتي تعبتر -هذه القيم- بدورها احدى ادواة بناء السلام وتعايش الشعوب وانفتاحها على بعضها واتاحة المجال للتعاون القائم على ثقافة الثقة القِيمية بين الامم وهذا يوضح لنا الدور الدبلوماسي الذي يمكن ان تلعبه الاربعينية في هذا الجانب.

خامساً: الأربعين والتكنلوجيا الحديثة

بعد التطور التقني والرقمي الهائل الذي يشهده الكوكب عموماً، في العام ٢٠١٦ عبّر رئيس المنتدى الاقتصادي العالمي (دافوس) Klaus Martin Schwab ان العالم حالياً يعيش ضمن ما يدعى الثورة الصناعية الرابعة، والتي تتميز بدمج التقنيات التي تطمس الخطوط الفاصلة بين المجالات المادية والرقمية والبايلوجية، والتي تعتمد بحضور التكنلوجيا الناشئة في الكثير من المجالات كالروبوتات والذكاء الاصطناعي وتقنيات النانو وغيرها. وقد يتجه بعض المنظرين الى اطلاق مصطلح الثورة الصناعية الخامسة على المستقبل القريب والذي سيسود فيه الذكاء الاصطناعي بعد تطوره وشيوعه أكثر فأكثر، والذي سيصبح مستقبلاً جزءاً مهماً من حركة المجتمعات السياسية والاجتماعية والثقافية بل حتى ضمن حياة الافراد. وللاعتبارات التي تقدمت في وصف فعالية الاربعين، يمكننا الاستنتاج انه سيكون لهذه الفعالية والذكاء الاصطناعي تفاعلاتٍ كثيرةٍ مستقبلاً. فعند سؤالي للذكاء الاصطناعي (وتحديداً: محرك chatgpt 3 من شركة openai)، ماهي اكبر مسيرة دينية واحدة في العالم؟ كانت الاجابة (واقتبس منها): أكبر مسيرة دينية في العالم هي مسيرة الأربعينية، أو زيارة الأربعين، التي يقوم بها ملايين الشيعة من جميع أنحاء العالم إلى كربلاء في العراق. يحتشد المشاركون في هذه المسيرة سيراً على الأقدام لإحياء ذكرى مرور أربعين يوماً على استشهاد الإمام الحسين. في السنوات الأخيرة، قدر عدد المشاركين في هذه المسيرة بحوالي 20 إلى 30 مليون شخص، ما يجعلها أكبر تجمع بشري سنوي في العالم.

ولما أنه من الواضح ان هذه الفعالية تنال اهتمام الاعلام العالمي بشكلٍ كبير، فيقدر عدد القنوات الاعلامية المحلية والاجنبية المشاركة في تغطيتها بحوالي ١٥٠٠ قناة، وعدد وكالات الانباء والصحف العالمية بأكثر من ٨٠٠ وكالة وصحيفة بما فيها وكالات عالمية كرويترز وفرانس برنس وشينخوا وصحف عالمية كنيويورك تايمز وواشنطن بوست وغيرها. فهنا يمكننا فهم الارتباط الوثيق لهذه الفعالية بالرأي الدولي والاعلام التكنلوجي المتقدم.

وعوداً على بدء، فقد سألنا الذكاء الاصطناعي ثانياً الاتي: كيف يمكن ان نستثمر الذكاء الاصطناعي في تسويق الزيارة الاربعينية، وزيادة تأثيرها الاقليمي والدولي على مستوى العالم؟

وقد كانت الاجابة كالآتي:

١- جمع وتحليل البيانات ثم التنبؤ والتخطيط عن طريق الاستفادة من الخوارزميات لتقدير اعداد الزوار في السنوات القادمة والتخطيط للموارد والتجهيزات اللازمة. 

اقول: في محاورةٍ اجريتها مع الشيخ احمد سلمان التونسي، وصف الاربعينية بانها الفعالية الوحيدة في العالم التي تشهد ارتفاعاً تدريجياً مستمراً كأنها خطٌ بيانيٌ صاعد بشكل منتظم، وهنا ينسجم رأي الذكاء الاصطناعي مع الرأي المطروح

٢- تخصيص المحتوى والتسويق الدقيق للوصول الى الجماهير المحتملة بطرق اكثر فعالية

٣- تطوير تطبيقات وخدمات ذكية للزوار كتطبيقات الموبايل الذكية وروبوتات الدردشة والمساعدين الافتراضيين

٤- تحسين التجربة الرقمية للزوار

٥- ادارة الحشود وتحسين الامن عن طريق تحليل حركة الحشود والتعرف على الانماط السلوكية

٦- التفاعل الاجتماعي والمجتمعي عن طريق منصات تواصل ذكية لتعزيز الوعي والتعاطف

٧- رصد وسائل الاعلام والاستجابة الفورية

٨- تعزيز التعاون الدولي والاقليمي

٩- التحليلات الاقتصادية والاجتماعية

١٠- تعزيز تجربة مابعد الزيارة عن طريق متابعة الزوار بعد الزيارة وخلق مجتمع افتراضي يسمح للزائرين مشاركة تجربتهم لغرض الاستقطاب.

وكل هذا قد يؤدي الى زيادة مستوى تأثر دبلوماسية الاربعين التي ستساهم اكثر في تعزيز الحوار والتفاهم الثقافي، والتأثر في صناعة السياسات، وتطوير البنية التحتية الاقليمية كطرق النقل المهمة، وتسليط الضوء على القضايا الانسانية وغيرها.