كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

جلجامش ملحمة الرافدين الخالدة: دراسة شاملة مع النصوص الكاملة وإعداد درامي لفراس السواح

نبيل سحنون

يناقش فراس في كتابه هذا النص ملحمة جلجامش، وهي قصيدة بابلية تحكي قصة جلجامش، ملك أوروك في السومرية و يكشف عن أبعاده الفلسفية و الأخلاقية. وتنقسم الملحمة إلى ثلاثة أجزاء: قصة جلجامش، وقصة أنكيدو، وقصة الطوفان.
تبدأ القصة بمقدمة جلجامش، نصف إله ثلثيه إله وثلثه إنسان. إنه حاكم مستبد، وأهل أوروك يصلون إلى الآلهة من أجل الإغاثة. خلقت الآلهة إنكيدو، وهو رجل متوحش قوي مثل جلجامش، ليتحداه. يتقاتل إنكيدو وجلجامش، لكن في النهاية يصبحان أصدقاء ويشرعان في سلسلة من المغامرات معًا.
تتضمن إحدى مغامراتهم رحلة إلى غابة الأرز لقتل الوحش هومبابا الذي يحرس الغابة. كما أنهم يقتلون ثور السماء، الذي ترسله الإلهة عشتار لمعاقبة جلجامش لأنه رفض تقدمها.
كعقوبة لقتل ثور السماء، حكمت الآلهة على إنكيدو بالإعدام. يشعر جلجامش بصدمة شديدة بسبب موت صديقه، فينطلق في رحلة لاكتشاف سر الخلود، حتى يتمكن من منع موته وإعادة إنكيدو إلى الحياة.
يسافر جلجامش إلى أقاصي الأرض، متحديًا العديد من التحديات على طول الطريق، بحثًا عن أوتنابيشتيم الخالد، وهو الإنسان الوحيد الذي نجا من الطوفان العظيم. يروي أوتنابيشتيم لجلجامش قصة الطوفان وكيف أصبح هو وزوجته خالدين.
يتعلم جلجامش أن سر الخلود هو نبات ينمو في قاع البحر، يمكنه أن يعيد الشباب لمن يأكله. ومع ذلك، يسرق الثعبان النبات، ويدرك جلجامش أن الخلود ليس له.
وتنتهي الملحمة بعودة جلجامش إلى أوروك، حيث يصبح حاكماً حكيماً وعادلاً، وتزدهر المدينة تحت قيادته. قصة جلجامش هي قصة كلاسيكية عن الصداقة والحب وسعي الإنسان إلى الخلود.
◼️ ما هي المعاني الملحمة ورسالتها الفلسفية والأخلاقية :
يقول فراس السواح:
« إذا اعتبرنا النتاج الفكري والأدبي مرآة لحركة المجتمع، فإن جلجامش هو أول فرد في التاريخ، ومطلع الألف الثاني قبل الميلاد هو الوقت الذي حدد تمايز الفرد عن الجماعة، وظهور الشخصيات التي تفعل في الجماعة وتؤثر في منحى تطورها بدل أن تكون انعكاسًا لحركتها. فقبل ملحمة جلجامش، لا نعثر في أدبيات الشرق الأدنى القديم (وهي أول أدبيات مدونة في التاريخ) على ملامح واضحة للفرد. فالنصوص، جلها، تتعامل مع الشخصيات الإلهية الطاغية التي صنعت الكون وخلقت الإنسان وبنت له مدنه وعلمته وأسست له تقاليده الحضارية، وهو في كل ذلك، الجانب السلبي المنفعل المتلقي. فإذا عثرنا على الفرد لم نستطع رسم ملامحه الواضحة أو نحدد سماته المستقلة، سواء عن حركة الجماعة أم عن إرادة الآلهة التي تمسك بخيوط مقاديره ومصائره. فجأة ينتصب جلجامش، كأول شخصية تعلن عن حضورها في استقلال عن الجماعة وعن آلهتها، معلنًا ابتداء عصر الإنسان الذي يرث الأرض، ويشق عباب الزمن الآتي كابن بار للإله، يطمح إلى الجلوس عن يمينه، لا كعبد مسلوب واقع في دارة الميلاد والموت المفرغة، شأن بقية الأحياء. إن اكتشاف حدود الكون السحيقة، اليوم، واكتناه أسرار الذرة وخفايا البيولوجيا الحية. والهبوط على سطح الكواكب، وما إلى ذلك من فتوح معرفية، هي تتمة للأوديسة الجلجامشية.
وجلجامش الفرد لم يؤسس لفردية فوضوية خارجة عن الكل، ساعية وراء أهدافها وغاياتها المستقلة والمتضاربة مع غايات الجماعة والبحث الإنساني المشترك، بل لقد جعل من نفسه النموذج الذي يمكن لأية شخصية في الجماعة أن تتشكل وفقه وتنسج على منواله، ليغدو المجتمع فريقًا من الأحرار لا حيوانًا بآلاف العيون.
وهو بتطوره الشخصي من الفردية الفوضوية إلى الفردية الجماعية المنظمة، ومن الاهتمام بالمصير الخاص إلى العناية بالمصير الإنساني، إنما يحدد المسار الذي يحرر الأفراد ويربطهم في آن معًا، في مسيرة الإنسانية الكبرى نحو معرفة الذات ومعرفة الكون وخلافة الله: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. قرآن كريم.
ولسوف نتابع في هذه الدراسة مراحل تطور شخصية جلجامش، كما رأيناها، ونرفع الأستار تدريجيًّا عن المعنى الخبيء لملحمة جلجامش كما فهمناه. وأقول المعنى الخبيء؛ لأن التفسيرات التي طُرحت منذ مطلع هذا القرن، لم تلتقِ حول الرسالة الحقيقية التي أرادت الملحمة توصيلها، ولأننا بحثنا عن هذا المعنى المستتر خلف ظاهر النص.
(١) الطور الأول
(١-١) الفردية، والحرية المطلقة
كان جلجامش، الفرد الحر الوحيد في مجتمع من العبيد، كان ملكًا مطلق السلطان، أقوى الرجال جسدًا وأكثرهم ملاحة وذكاء، مفعمًا بالحيوية والنشاط الدائب لا تهدأ حركته ليل نهار. ولعل هذا التفوق الجسدي هو ما دعا إلى الاعتقاد بالجانب الإلهي في شخصيته، والعودة بنسبه إلى الإلهة ننسون.
لم يكن الملك الشاب يعرف ماذا يفعل بحريته المطلقة وتكوينه الخارق الذي كان سببًا في وحدته وعزلته عن بقية الناس. بحث عن جلائل الأعمال يرضي بها طاقته المتوثبة وجنانه القلق، فبنى سور أوروك أعجوبة عصره، وعمَّر وأشاد فلم يقنع ولم يرضَ. طغى وبغى، لا طغيان الأحمق ولا بغي الجاهل الفرِح بالسلطان، بل طغيان قدرة متفوقة لم تعرِف بعدُ سُبل التفريغ، وبغيُ ذكاء يلهج بالسؤال عن المعنى في كل ما حوله. كان فوق أخلاق الجماعة وشرعتها وقيمها، فلم يعرف ماذا يفعل بموقعه المتميز هذا. ضاجع نساء أوروك، وتسلط على شباب المدينة يسيرهم في الخدمة العسكرية القاسية وشتى أنواع الأعمال، يوقظهم كل صباح على قرع الطبول، فلم يهدأ له خاطر ولم يركن جنان.
هذا، ورغم أن الملحمة بأسلوبها المختزل لا تومئ مباشرةً إلى الأسباب المحركة لسلوك جلجامش، ولا تضع على لسانه تساؤلات واضحة، فإن تساؤلاته تنطق من وراء السطور. لقد وصف سكان أوروك مليكهم بالحكمة وهم يعددون مظالمه أمام الآلهة:
لا يترك جلجامش ابنًا لأبيه.
ماضٍ في مظالمه ليل نهار.
وهو الراعي لأوروك المنيعة.
هو راعينا القوي الوسيم الحكيم.
وسلوك الرجل الحكيم، إن شذ، ما شذ عن طيش أو هوى، بل عن بحث وتساؤل ومحاولة فهم وكشف. ولعلنا واجدون في هذه المرحلة الأولى من تطور جلجامش، البذور الأولى لأهم التساؤلات التي توضحت في المراحل التالية: هل أنا حر وإلى أي مدى؟ ماذا أفعل بالحرية، وما هو موضوعها؟ ما معنى الحياة في هذا الزمان الضيق الذي يجري بنا نحو خاتمة سريعة؟
رفع أهل أوروك عقيرتهم بالشكوى إلى الآلهة مع قمع جلجامش. فاستجاب الآلهة بأن مضوا إلى الإلهة الأم آرورو، التي ظهرت في نصوص أسطورية أخرى كخالقة للجنس البشري، وطلبوا إليها أن تخلق لجلجامش ندًّا يعادله قوةً وجبروتًا وقلبًا صاخبًا لا يهدأ، فيدخلان في منافسة دائمة ويرخي جلجامش قبضته عن أهل المدينة. استحضرت آرورو في خاطرها صور كبير الأرباب آنو، ليحمل خلقها الجديد بعض سماته، ثم أخذت بكفها قبضة من طين رمتها في الفلاة، فكان منها إنكيدو، الرجل الوحش، المشعر الجسد، الغزيز شعر الرأس:
لا يعرف الناس ولا البلدان.
يرعى الكلأ مع الغزلان.
يرد الماء مع الحيوان.
ومع البهيمة يفرح قلبه عند الماء.
هذه الصورة التي أعطاها النص عن إنكيدو في أولى مراحل حياته، يستحضر إلى الذهن صورة الإنسان البدائي قبل دخوله عصر التحضر. ونلاحظ هنا أن النص قد استخدم في وصف إنكيدو الكلمة الأكادية «لا للو» التي ترجمناها أحيانًا ﺑ «الرجل الوحش» أو «رجل البداءة»، بينما يشير معناها الأصلي إلى الإنسان الأول، أو الجيل الأول من البشر في حالتهم البدائية الشبيهة بحالة الحيوان. نقرأ في أحد النصوص الأكادية، على سبيل المثال، وهو النص المعروف باسم «لهار وأشنان»:
بشر (لا للو) تلك الأيام
لم يعرفوا أكل الخبز،
ولم يعرفوا لبس الثياب،
هاموا على وجوههم بأردية من جلد،
أكلوا الكلأ بأفواههم كالأنعام.
وشربوا الماء من الجداول.١
والإلهة الأم تخلق إنكيدو من قبضة من طين، كما خلقت من قبل الإنسان الأول «لا للو» في أحد نصوص التكوين البابلية:
«أنت الرحم الأم،
يا خالقة الجنس البشري،
اخلقي الإنسان ليحمل العبء،
ويأخذ عن الإلهة عناء العمل.»
فتحت ننتو فمها وقالت:
«لن يكون لي أن أنجز ذلك وحدي
ولكن بمعونة إنكي سوف يخلق الإنسان،
فليعطني إنكي طينًا أعجنه.»٢
وبعد ذلك يسير إنكيدو على خطى الإنسان الأول في انتقاله من حياة البراري إلى حياة الرعي ثم إلى الحضارة المستقرة. فعندما سمع جلجامش بخبر إنكيدو بعث إليه بكاهنة حب من معبد عشتار لتقوده إلى أوروك. ورغم أن هدفه من إحضار إنكيدو لا يتضح منذ البداية، إلا أن تفسير ننسون لأحلام ابنها، فيما بعد، يدل على رغبة جلجامش في الحصول على ندٍّ وصديق:
«معنى ذلك، رفيق عتيٌّ، يعين الصديق عند الضيق
أقوى من الفلاة، ذو بأس عظيم،
متين العزم كشهاب آنو الثاقب.»
فتح جلجامش فمه، وقال لأمه:
«فليبتسم لي حظ عظيم
وأحظى برفيق.»
عند مورد الماء، كشفت المرأة عن مفاتنها لإنكيدو. حركت فيه الرغبة الهاجعة، فاعتزل أقرانه من الحيوان وانضم إليها يروي نفسه من جسدها ستة أيام وسبع ليال متواصلة. ثم قام عنها يبغي اللحاق بأترابه، فثقلت قدماه ونفر منه رفاق الأمس الذين تشمموا منه رائحة الإنسان. لقد غير الاتصال بعالم البشر، عن طريق الكاهنة، إنكيدو تغييرًا عميقًا فودع حياة البرية واكتسب الحكمة والمعرفة من الكاهنة التي تابعت بعد ذلك تعليمه والأخذ بيده نحو عالم الحضارة تدريجيًّا. فكما كانت المرأة بالنسبة للإنسان الأول سببًا في استقراره في الأرض وتوديع حياة التنقل والصيد وإنشاء المستقرات الزراعية الثابتة، وهي الخطوة العملاقة الأولى نحو الحضارة، كذلك كانت الكاهنة بالنسبة لإنكيدو.٣ فالعلاقة بين الاثنين، هنا، ليست علاقة رجل معين بامرأة معينة، بل هي تكرار وتذكر لدور المرأة القديم في مجتمعات اﻟ «لا للو» الأولى.
قادت الكاهنة إنكيدو إلى مناطق الرعاة، وعلمته أكل الخبز ولبس الثياب وتعطير الجسم وشرب الجعة. وأخذت تحدثه عن جلجامش العظيم الظاهر فوق جميع الرجال كثور وحشي، وعن حياته اللاهية في أوروك، المدينة التي تضج بالحياة وتعيش في عيد بهيج دائم. تاق إنكيدو إلى الاجتماع بجلجامش، فقد كان مثله تواقًا إلى صديق:
وقعت كلماتها في نفسه، لما تكلمت، حسنًا،
كلنا يبغي صاحبًا يفهم سريرته.
في مناطق الرعاة، وجد إنكيدو مضمونًا لحريته ومعنى. فإنكيدو في براريه كان مُطلق الحرية كجلجامش، ولكن حريته لم تكن مستمدة من سلطته المطلقة على بقية الناس، بل من حياة الطبيعة التي لا تعرف أخلاق الحضارة وشرائع التجمعات البشرية. وعندما واجه الآخرين لأول مرة، لم يرَ في قوته الخارقة وسيلة للتسلط عليهم، بل لقد سخرها لصالح الجماعة؛ إذ راح يحرس قطعان الماشية ويطارد الأسود ليكفي الرعاة شرها. ثم عرف من شخصٍ غريبٍ عن سلوك جلجامش المشين، وكيف يأتي العروس قبل زوجها في الليلة الأولى:
لدى سماع كلمات الرجل،
غدا وجه إنكيدو شاحبًا.
وازداد عزمًا على لقاء جلجامش، فتقوده المرأة إلى المدينة، فقد غدا الآن جاهزًا لدخول حاضرة الكون: أوروك. وفي تلك الأثناء، كان جلجامش يرى أحلامًا عصية المعنى عن شهاب ثاقب ينقض عليه من السماء، وفأس عجيبة مطروحة في أسواق أوروك، فسَّرَتها أمه ننسون بأنها بُشرى بحصوله على صديق، ند له، يأتي من أعماق البراري الوحشية.
أحدث وصول إنكيدو إلى أوروك ضجة كبيرة. كان الجميع في الشوارع والساحات يتقاطرون إلى معبد عشتار لحضور احتفال طقس الزواج المقدس، وعندما ظهر إنكيدو احتشد الناس حوله لا يصدقون ما تراه أعينهم. كان ندًّا لجلجامش في كل شيء يسير شاقًّا نحو طريقه نحو المعبد كما الآلهة تسير، وأطلق الجميع صيحات الفرح:
لقد ظهر رجل جبار،
للبطل الكامل الوسامة،
لجلجامش شبيه الآلهة،
قد ظهر الآن ندٌّ.
لم يكن استبشار أهل أوروك بظهور إنكيدو ناجمًا عن توقعهم لصراع دائم بين الجبارين يصرف جلجامش عن مظالمه (كما تقول معظم التفسيرات)، بل عن توقعهم لتنافس عادل بين بطلين متفوقين في كل شيء، من شأنه تحييد طاقة جلجامش بطاقة معادلة لها.
بلغ احتفال الزواج المقدس ذروته بوصول جلجامش إلى بوابة المعبد. وهنا تقدم إليه إنكيدو وسد في وجهه الطريق، فالتحم الجباران في مصارعة عنيفة كانت الغلبة فيها لجلجامش الذي ما إن أوقع إنكيدو أرضًا وتمكن منه، حتى هدأت سورة غضبه وتركه ماضيًا في طريقه، غير أن إنكيدو ناداه بكلمات وقعت في نفسه حسنًا، وكانت فاتحة صداقة ومحبة دائمة بين الطرفين.
(٢) الطور الثاني
(٢-١) الالتزام
صحَّت توقعات أهل أوروك وتحققت أمانيهم. لقد غيَّرت صداقة إنكيدو جلجامش تغييرًا جذريًّا، ونمت بين الطرفين محبة عميقة غيَّرت مجرى حياتهما معًا وصارت مضرب المثل على مر العصور.
وهنا أود التوقف قليلًا عند شكل ومضمون هذه العلاقة. فلقد اتجه بعض الدارسين المحدثين إلى القول بوجود علاقة جنسية بين جلجامش وإنكيدو، وأن تلك العلاقة هي التي حولت أنظار جلجامش عن أهل أوروك؛ إذ وجدت طاقته الجنسية الفياضة طاقة أخرى معادلة لها، فحيدت كلٌّ منهما الأخرى، واستراحوا من اعتداءات جلجامش المستمرة على نسائهم.٤ وقد استند هؤلاء، في جملة ما استندوا، إلى الحلمين اللذين رآهما جلجامش عن مقدم إنكيدو:
(٢-٢) الحلم الأول
كانت السموات حاشدة بالنجوم،
وكشهاب آنو الثاقب، واحد منها انقض عليَّ.
رُمتُ رفعه فثقل عليَّ،
حاولت إبعاده فصعب عليَّ،
وبينما رفاقي يقبلون قدميه
ملتُ عليه كما أميل على امرأة،
وضعته عند قدميك،
فجعلتِه بنفسك لي ندًّا.
(٢-٣) الحلم الثاني
في أوروك المنيعة فأس مطروحة، تجمعوا عليها،
تحلق أهل أوروك حولها،
أحاط أهل أوروك بها،
تدافع الناس إليها،
وضعتها عند قدميك،
ملت عليها كما أميل على امرأة،
فجعلتها بنفسك لي ندًّا.
في الحلمين، ينجذب جلجامش إلى إنكيدو كما ينجذب إلى امرأة، ويميل عليه كما يميل على امرأة. وإنكيدو يقع عليه من السماء كشهاب ثاقب، ويلتصق به فلا يستطيع إبعاده. ومن ناحية أخرى، فإن إشارات النص التي يمكن توظيفها لصالح هذا التفسير لا تقف عند هذا الحد، بل تتعداه إلى التلاعب بالكلمات ذات الظلال التي تستحضر إلى الذهن معاني غير معناها المباشر. ففي تشبيه إنكيدو بالفأس، يتلاعب كاتب النص بكلمتين: الأولى «خاصينو» وهي الفأس باللغة الأكادية، والثانية «أسينو» وهي البغي المذكر. وفي تشبيهه بالشهاب الثاقب، يتلاعب بكلمتين أخريين هما «كيصرو» أي الحجر النيزكي و«كيزرو» أي الشاب ذو الشعر المجعد، وهو الشعر الاصطناعي الذي كان يلبسه العاهرون الذكور. وهذه الكلمة الأخيرة أيضًا تستدعي إلى الذهن، كلمة «كيزيرتو»، أي البغِي المؤنثة.٥
وفي الواقع، فإنه رغم استبعادنا للعلاقة الجنسية بين الطرفين، فإن تفسيرنا سوف يعتمد على التشبيهات الجنسية الواضحة في الحلمين، فيؤكد عليها وينطلق منها.
تشف هذه التشبيهات عن تقاليد أدبية بقيت راسخة في الحضارات الشرقية إلى العصر العربي، حيث نجد المتصوفة المسلمين لا يجدون في التعبير عن أرقى حب يعاينه الإنسان في داخله، أفضل من ألفاظ العشق والهوى. وهم إذ يشبهون الله بمحبوبة يُرام وصالها إنما يؤكدون على الانتقال من الشكل الأدنى للحب، وهو حب الجمال المادي، إلى الشكل الأعلى له وهو حب الحقائق الكبرى. يقول ابن عربي في كتابه فصوص الحكم: «فإذا شاهد الرجل الحق في المرأة، كان شهودًا في منفعل، وإذا شاهده في نفسه — من حيث ظهور المرأة عنه — شاهده في فاعل، وإذا شاهده في نفسه من غير استحضار صورة منه تكون عنه، كان شهوده في منفعل عن الحق بلا واسطة. فشهوده للحق في المرأة أتم وأكمل، لأنه يشاهد الحق من حيث هو فاعل منفعل … فلهذا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء لكمال شهود الحق فيهن؛ إذ لا يشاهد الحق مجردًا عن المواد أبدًا، فإن الله بالذات غني عن العالمين. وإذا كان الأمر من هذا الوجه ممتنعًا، ولم تكن الشهادة إلا في مادة، فشهود الحق في النساء أعظم الشهود وأكمله.»٦
إن توكيد الحلمين على انجذاب جلجامش إلى إنكيدو كانجذابه إلى النساء، وتفسير ننسون الذي يتنبأ بصداقة مقبلة لا تنفصم بين الطرفين، إن هو إلا توكيد على الارتقاء من الحب الأدنى إلى الحب الأعلى، ولجم طاقة الليبيدو العارمة التي كان يفيض بها الجباران، وحرَّفها عن مسارها الأعمى لتوجيهها نحو أهداف نبيلة.٧
لقد وصف الفيلسوف اليوناني أفلاطون هذين النوعين من الحب وفرَّق بينهما، عندما قال في محاورة المأدبة، بأن النوع الأول متعلق بأفروديت-بابنديموس، وهو لا يترك أي أثر إيجابي، سواء على المحب أم على المحبوب؛ لأنه متجه نحو الجمال الظاهري دون تعلق بموضوع له محدد. فلا عجب، إن اتجه الواقع تحت تأثيره إلى أكثر النساء أو الغلمان حماقة لما يملكونه من جمال خادع، والتنقل بينهم لا يبغي سوى الجماع العابر. أما النوع الثاني، فمتعلق بأفردويت-أورانيوس، وهو يدفع كلًّا من المحب والمحبوب إلى تطوير نفسه والارتقاء بفضائله من جهة، وإلى الاهتمام بفضائل الآخر وتطويره في أمور العقل والحكمة.
إن الأمثلة على هذا النوع من الحب الأفلاطوني بين رجلين عظيمين، ليست نادرة في تاريخ الحضارة البشرية، ولعل أروع مثال عليه، تلك الصداقة الشهيرة التي ربطت بين المتصوف الإسلامي المعروف جلال الدين الرومي، وهو واحد من الشخصيات الروحية العظمى في ثقافة الشرق، ومتصوف آخر اسمه شمس التبريزي. عندما التقى شمسًا، كان جلال الدين قد بلغ مكانة رفيعة في العالم الإسلامي، وطبقت شهرته الآفاق كقطب ديني وصوفي. أما شمس الدين فكان درويشًا جوالًا يتمتع بشخصية طاغية مهيمنة ذات كبرياء روحي عظيم، جعلته يبدو دومًا كالأسد الجسور والشمس المحرقة (على حد تعبير بعض من وصفه). ترك موطنه في تبريز وراح يتجول في بقاع العالم الإسلامي بحثًا عن شيخ مرشد، مسلطًا لسانه بالنقد اللاذع على كل من عاصره من أهل التصوف، إلى أن التقى بجلال الدين في موطنه الجديد قونية. كان اللقاء الأول الذي تم في أحد طرقات المدينة فاتحة صداقة خالدة بين الرجلين، حين استوقف شمس جواد جلال الدين وطرح عليه سؤالًا جريئًا يسبر به غوره، فأجابه عليه جلال الدين بجرأة ووضوح ومباشرة، فعرف شمس أنه قد وجد ضالته التي يبحث عنها. ثم سار الاثنان معًا إلى مكان اجتماعهما الأول الذي استمر ستة شهور كاملة، انقطع خلالها جلال الدين عن حلقة تلاميذه ومريديه وعن دروسه الدينية، وتفرغ للحوار مع شمس التبريزي.
ويحكي من قام على خدمتهما في تلك الأثناء أن الصديقين كانا في حديث دائم لم يلههما عنه طعام أو شراب أو حاجة من حاجات الدنيا، عاكفان على الحوار أطراف الليل وآناء النهار. وعندما انتهت عزلتهما، راح المتطرفون من تلاميذ جلال الدين يدسون الدسائس على شمس الدين ملقين عليه اللوم في إهمال شيخهم لالتزاماته الاجتماعية، الأمر الذي حدا بشمس الدين إلى ترك قونية بعد مدة والعودة إلى تجواله في الأقطار. ولكن جلال الدين أرسل خلفه الرسل تبحث عنه في كل مكان إلى أن عثروا عليه أخيرًا في دمشق التي حل فيها حديثًا وعادوا به إلى قونية.
غير أن المقام لم يطل به هناك؛ إذ لقي حتفه قتلًا على يد بعض أتباع الشيخ، فراح جلال الدين ينظم شعر العشق الصوفي في شمس التبريزي إلى آخر أيامه. ولم يكن مؤلَفه الكبير المعروف ﺑ «المثنوي»، والذي يضم ثلاثين ألف بيت من الشعر، لينجز إلا بدافع ذلك الحب الكبير. وها هو بعد موت صديقه ينشد وحلقة الصوفية تدور على إيقاع الدفوف:
لست وحيدًا أغني: شمس الدين وشمس الدين،
بل ها هو الحجل في التلال يغني،
والبلابل تصدح في البساتين،
وسموات تدور وتدور.
شمس الدين منجم جواهر،
شمس الدين نهار وليل،
شمس الدين بحر لا متناهٍ،
شمس الدين نفس عيسى،
وجنَّات يوسف، شمس الدين.
ونقرأ له أيضًا:
من قال بأن خالد الحياة قد مات؟
من قال إن شمس الأمل قد أفَلت؟
إنه لعدو الشمس، صعد إلى الأسطح،
وعصب عينيه ثم راح يقول،
ها هي الشمس قد أفَلت.
لقد كان جلال الدين مهيأً لتجربة وجدانية عظمى، كان مصباح زيت نقي امتلأ بالزيت وأُحكمت فيه الفتيلة، ولم يكن ليعوزه سوى شرارة حتى يشتعل. وما كان شمس الدين سوى تلك الشرارة. غير أن النور الذي انبعث من المصباح ما برح يزداد قوة على قوة، وشمس الدين فراشة تدور حوله وتدور، إلى أن تهاوت على ذلك النور مضحية بحياتها.٨
كذلك كان شأن إنكيدو بالنسبة إلى جلجامش ودوره في حياته.
لقد كان تأثير صداقة إنكيدو على جلجامش حاسمًا، والحب الذي نشأ بينهما قد أخذ بتوجيه طاقته المتخبطة نحو أهداف نبيلة. لم يعد جلجامش الفرد الحر الوحيد بين جماعة من المسلوبين؛ إذ ظهر أمامه الآن رجل حر آخر، تعلم من تعامله معه كيف يحترم حريات الآخرين جميعًا، وأدرك أن الحرية الفردية لا معنى لها إن لم تتعاون مع حريات أولئك الآخرين وتتحدد من خلالها. ومع تلاشي أحلام الحرية المطلقة، أتى وعي مسألة الموت والتفكر فيه. نقرأ في النص السومري:
في مدينتي يموت الرجل كسير القلب،
يفنى الرجل حزين الفؤاد.
أنظر من فوق السور
فأرى الأجسام الميتة طافية في النهر،
وأراني سأغدو مثلها حقًّا؛
فالإنسان مهما علا، فلن يبلغ السماء طولًا،
ومهما اتسع، فلن يغطي الأرض عرضًا.
وفي النص البابلي:
من ترى يا صديقي يرقى إلى السماء،
الآلهة هم الخالدون في مرتفع شمَش،
أما البشر فأيامهم معدودة على هذه الأرض،
وقبض الريح كل ما يفعلون.
وهنا، تبدو نظرة جلجامش إلى الموت نظرة متأمل يبحث عن معنى الحياة القصيرة التي يعيشها الإنسان في هذه الدنيا الفانية. إنه مدرك للشرط الإنساني قابل به، باحث من خلاله عن جدوى للفعل وعن مضمون للحرية، فيجده في الأعمال الجليلة التي تخلِّد اسم صاحبها وتترك له اسمًا باقيًا على مر الأزمان. نقرأ في النص السومري:
سأدخل أرض الأحياء وأخلد لنفسي اسمًا هناك،
ففي الأماكن التي رفعت فيها الأسماء سأرفع اسمي،
وفي الأماكن التي لم ترفع فيها الأسماء سأرفع اسم الآلهة.
وفي النص البابلي:
سأمضي أمامك،
ولينادني صوتك: أنْ تقدَّم ولا تخف،
فإذا سقطت أصنع لنفسي شهرة:
لقد سقط جلجامش،
صرعه حواوا الرهيب.
(وإذا نجحت)
سأقطع أشجار الأرز،
وأنقش لنفسي اسمًا خالدًا.
والأفعال المجيدة التي ينوي جلجامش إتيانها لتخليد اسمه هي في نفس الوقت التزام أخلاقي. والصراع المرتقب مع وحش الغابة هو أيضًا صراع مع قوى الشر:
في الغابة، هناك يعيش حواوا الرهيب،
هيا، أنا وأنت، نقتله،
هيا نمسح الشر كله عن وجه الأرض.
وأيضًا:
فإلى اليوم الذي به أعود،
إلى أن أصل غابة الأرز،
إلى أن أقتل خمبابا الرهيب،
فأمحو عن الأرض كل شر يكرهه شمش،
صلِّ من أجلي عند شمش.
وهنا تبدأ مسيرة الرجلين الكبرى لتحقيق الإنجازات الباهرة برعاية إله الشمس شمش، رب العقل والصحو والقيم الذكَرية المتعلقة بالفتح والإنجاز والسيطرة والتسامي على الطبيعة، في مقابل القيم الأمومية التي تمثلها عشتار ربة الطبيعة، التي تدعو إلى كل ما هو غريزي منسجم مع حركة الطبيعة، لا سامٍ عليها ولا متنكر لها. لقد دُعيت سيدة الطبيعة، في كل ثقافات العالم القديم بالأم الكبرى للكون. وفي الثقافات التي لم تحفل بها على مستوى الفكر الشرعي السائد، كالثقافة العربية، فقد أدرك المتصوفون الإسقاطات الرمزية التي كانت الأم الكبرى محلًّا له. وهذا هو محيي الدين بن عربي يلخص في مقطع مبدع من فتوحاته المكية (ج٤/ ١٥٠ ) نظرة الإنسان إلى الطبيعة الأم المنفعلة في مقابل الأب الخالق الفاعل فيقول: «وليست إلا الطبيعة في هذه الدار فإنها محل الانفعال … لأنها للحق بمنزلة الأنثى للذكر، ففيها يظهر التكوين، أعني تكوين ما سوى الله. فللطبيعة القبول … فهي الأم العالية الكبرى للعالم.»
في مغامرتهما الأولى، يتقدم البطلان بأنظار الإله شمش نحو غابة الأرز البعيدة لقطع أشجارها وقتل حارسها (الكائن المخيف الذي يعينه لحمايتها الإله إنليل رب الغضب والعاصفة المدمرة) واقتحام مقام عشتار المقدس ومقر عرشها. وهذه أول سابقة في تاريخ البشر يضع فيها الإنسان إرادته في مقابل إرادة الآلهة، ويمتحن قوته تجاهها. لقد كان عبد خوفه من المجهول، يرى في كل ما حوله ظاهرة مقدسة تخفي وراءها قوى إلهية أو شيطانية طاغية، أما الآن ومع ابتداء الأوديسة الجلجامشية، فقد تم تحييد الطبيعة وإعطاؤها ماهية مادية منفعلة قابلة لاقتحام عقل الإنسان وفهمه وتحليله. لقد اكتشف العقل، وإلى الأبد، تميزه عن المادة وفاعليته فيها، وهو لن يرى بعد الآن فيما حوله سرًّا مستغلقًا، بل سرًّا مؤجلًا. فمنذ البدء، عصى آدم ربه في سبيل المعرفة المحرمة على بقية الأحياء، فوضع بذلك للبشرية هدفها الذي ستبقى ساعية إليه. وهو إذ تلقى غفران ربه بعد ذلك: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ. قرآن كريم، إنما تلقى بركته للسير فيما اختطه لنفسه، وفيما خلقه الله له. وعندما هبط الابن من السماء فصار بشرًا، ثم صعد لاتخاذ مكانه عن يمين الأب، فقد أعلن عن الماهية الإلهية للإنسان، وكشف له عن مكانه المهيأ، بعد خلافته للأرض.
يغادر جلجامش أوروك بصحبة إنكيدو، بعد حصوله على بركة شيوخ المدينة ممن خرجوا لتوديعه. فجلجامش الآن لم يعد ذلك الحاكم الباطش الذي يرهبه الناس ويخشون بأسه، بل الحاكم العادل المحبوب الذي يحزن الشعب لغيابه ويدعو له بعودة سريعة سالمة. ويستغرق وصف رحلتهما اللوح الرابع من النص ومعظم اللوح الخامس، حيث تظهر كل عواطف البطلين الإنسانية، من إقدام وتردد، وشجاعة وخوف، ويقين وشك. وعندما يقتحمان البوابة المسحورة ويصلان أعماق الغابة يصطدمان بحارسها الذي استيقظ على صوت فأس جلجامش يقطع شجر الأرز، وتنشب بين الطرفين معركة سريعة يقوم في نهايتها البطلان بقطع رأس خمبابا وتقديمه قربانًا للآلهة.
عاد جلجامش إلى أوروك بعد أن طبقت شهرته وإنكيدو الآفاق، فغسل أسلحته واستحم وأسدل شعر رأسه على كتفيه، ولبس ثيابه الملكية، ووضع التاج على رأسه، فرأته الإلهة عشتار وقد جللته هيبة النصر فوقعت في حبه، وعرضت عليه الزواج منها معددة الخيرات التي ستغدقها عليه إن قبل. وهنا تظهر ثقة جلجامش الإنسانية بنفسه في أقوى أشكالها؛ إذ لا يكتفي برفض عرض إلهة العشق الجنسي، بل شرع أيضًا في تعداد مثالبها وخياناتها لعشاقها. وهو في ذلك إنما يؤكد مرة أخرى على تركه للشكل الأدنى من الحب وانتقاله إلى شكله الأعلى. فتثور ثائرة الإلهة وتعرج إلى السماء تطلب من أبيها الانتقام ممن أهانها، فتسأله أن يعطيها ثور السماء لتقتل به جلجامش. وعندما يُسلم آنو إلى يديها قياد الثور بعد تردد، تدفع به إلى أوروك يعيث في المدينة فسادًا ويقتل في طريقه مئات الناس. ولكن جلجامش وإنكيدو ما لبثا أن تصديا له، وبعد مواجهة قصيرة استطاع إنكيدو تقييد حركة الثور بينما طعنه جلجامش طعنة قاتلة، ثم انتزعا قلبه وقدماه قربانًا للإله شمش. عند هذا الحد يبلغ الحنق بعشتار أقصى درجاته، فتصعد أسوار أوروك صارخة مولولة تصب لعناتها على جلجامش:
صعدت إلى الذروة وصبت لعناتها:
ويل لجلجامش، قد مرغني بالتراب من قتل ثور السماء.
وهنا تنال عشتار الإهانة الثانية. فمنذ قليل وجه إليه جلجامش إهانة أدبية صبها في كلمات منمقة، أما إنكيدو رجل البراري الذي لا يعرف صياغة الكلمات فقد انتزع، لسماعه صراخ عشتار ووعيدها، فخذ الثور القتيل ورماه في وجهها ورد على تهديدها بتهديد أعنف:
لو استطعت بك إمساكًا؛
لنالك مثل ما ناله،
ولربطت أحشاءه إلى خصرك.
ونحن في تاريخ البشرية كلها لا نعثر على موقف شبيه بهذا الموقف الذي يبلغ فيه الإنسان حدًّا من الثقة بنفسه، يتجاوز معه كل حدود فاصلة بين عالم البشر وعالم الآلهة. لقد جُرحت الإلهة أفروديت، بعد ذلك بألف عام عند أسوار طروادة، عندما لبست عدة الحرب ونزلت متنكرة لمساعدة جيش هيلين المخطوفة، ولكنها لم تنل من الإهانة والتمريغ بالتراب ما نالته عشتار على يد بشر فانٍ. فملحمة جلجامش تؤرخ لظهور الفرد في مسيرة الحضارة البشرية، وتكون الشخصية الإنسانية التي تؤمن بنفسها قدر إيمانها بالآلهة.
ومن ناحية أخرى، فإن موقف جلجامش وإنكيدو من الإلهة عشتار، قد سُجل في زمن بلغ فيه الصراع الديني بين الديانة الأمومية القديمة والديانة الذكرية الجديدة أوجَه. فملحمة جلجامش من أولها إلى آخرها، هي ملحمة الذكر الفاتح الذي يبني ويشيد واضعًا بصمته على الطبيعة، خارجًا من أحضانها إلى الأبد، بعد أن استسلم لها عشرات الألوف من السنين. وتشكل الملحمة، مع أسطورة التكوين البابلية (التي وضعت في نفس الوقت تقريبًا، عند منقلب الألف الثاني ق.م.) نقطة علام بارزة في ترسيخ القيم الذكرية للمجتمع البطريركي المتقدم على أنقاض المجتمع الأمومي. لقد دعا النص البابلي القديم معبد إيانا بمعبد آنو، رغم أن هذا المعبد كان مكرسًا للإلهة عشتار منذ ظهور مدينة أوروك، أما نص الملحمة الأخير فيدعوه بمعبد آنو وعشتار. وهذا التحول في التسمية يشير إلى حصول استقرارٍ في الصراع بعد أن تم إنزال الإلهة الأم إلى المرتبة الثانية، ولم تعد تشكل مصدر خوف وقلق للآلهة الذكور الذين استقروا على عروشهم دون منازع.». 

الملتقى العربي للدراسات الفلسفية