كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

المشتى- حكايات قرية.. الفصل 6 والأخير

عدنان بدر حلو- فينكس

المدرسة
المدارس في منطقتنا قديمة جدا، بالمقارنة مع المناطق الريفية الأخرى في سورية... وهي تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر عندما بدأت الدول الإستعمارية الغربية تتدخل في الشؤون الداخلية للدولة العثمانية التي كانت تسمى "الرجل المريض"! فأعلنت أكثر من دولة "حمايتها" لهذه الطائفة أو تلك من الأقليات الدينية في سورية ولبنان. (ادعت فرنسا حماية الموارنة، وروسيا القيصرية حماية الأرثوذكس، وبريطانيا حماية الدروز ثم رعت الأخيرة هي والولايات المتحدة نشر الدعوة البروتستانتية) وراحت إرساليات تلك الدول وبعثاتها التبشيرية تفتح المدارس في المناطق التي تقطنها هذه الأقليات..
لذلك ارتبط نشوء المدارس في مشتى الحلو- كما في غيرها من القرى والمدن السورية واللبنانية- بنشاط المبشرين الغربيين في المنطقة الذي بلغ ذروته في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقد اتصل وجهاء البلدة مع المرسلين الأمريكان في طرابلس (القس أوسكار هاردن والدكتور صموئيل جسب والدكتور كلهون) وطلبوا منهم أن يفتحوا لهم مدرسة ويديروها حسب نظام مدارسهم. (وكان المرسلون المذكورون قد افتتحوا مدرسة في صافيتا).
بالفعل تم افتتاح المدرسة الإنجيلية الأمريكية في المشتى عام 1880 وكانت عبارة عن غرفتين في الجهة الخارجية من دار بيت الحلو (بيت الخوري مروان الحلو حاليا). وتولى التعليم فيها المعلم اللبناني قاسم أبو غانم (للصبيان) وزوجته المعلمة شمس ابنة الشيخ حسين أبو غانم (للبنات). وكان المعلم قاسم درزيا متنصرا، فيما بقيت زوجته درزية، ومع ذلك كان الزوجان يقضيان فصل الصيف في بلدتهما كفرنبرخ في الشوف بلبنان.
وعن طريق المدرسة نشطت البعثة البروتستانتية الأمريكية، وكان من بين أول الذين انضموا إليها الشقيقان أنيس (والد القسيس جبرا) ونسيم الحلو (والد ميليا زوجة جبرا الحلو). وقد أصبح الأخير واحدا من كبار قسس الطائفة الإنجيلية في لبنان وهو أول عربي يتولى إدارة المدرسة الأمريكية المشهورة في صيدا، وله الكثير من الكتب والأناشيد والترانيم في الإرث الديني والثقافي للطائفة المذكورة، ومنها مذكراته الهامة التي كان لي شرف تدقيقها وإعدادها ونشرها قبل عدة سنوات.
كما قامت هذه البعثة التبشيرية بأخذ بعض الأولاد الأيتام إلى مدرسة داخلية تابعة لها في رأس المتن بلبنان، ومنهم حنا وعيسى النقولا – والد نقولا الحلو وعمه- (وقد تخرج الأخير مهندسا من الجامعة الأمريكية ثم أكمل اختصاصه في جامعة إم آي تي وهي إحدى أهم جامعات العالم في الولايات المتحدة وعاد أستاذا في الجامعة الأمريكية ببيروت). وبالمصادفة كان معهما في الميتم والد زوجتي عادل يعقوب من راشيا الفخار...
وقد جاء إلى المشتى في أيامنا واعظان بروتستانتيان هما المعلم مطانيوس والمعلم سليمان رزق من جديدة عرطوز. سكن الأخير في الرويسة ببيت عمتي عفيفة، وكان يدعو الجميع كبارا وصغارا إلى مدرسة الأحد للصلاة في بيته، كما يقيم سهرات للغرض نفسه، حيث يغني أناشيد دينية ويعزف على العود. وبما أنني كنت أطرش بعض الشيء- وهذا ما اكتشفته على كبر – فإنني لم أكن ألتقط كلمات الأغاني التي يرددونها وراءه فأكتفي بفتح فمي وإغلاقه مدعيا المشاركة في الغناء.
وقد تبعه دينيا كل من جبرا المرشد ومطانيوس القاموع وجميل الصباغ وغيرهم، لكن كثيرين كانوا يعتقدون أنه عميل للمكتب الثاني –المخابرات آنذاك- وربما كان الأمر مجرد دعاية مضادة له من قبل شيوعيي الضيعة!
قبل افتتاح تلك المدرسة كان ثمة شكل بدائي من التعليم حيث كان هناك معلمون يعلمون الأولاد الحروف الهجائية وبعض الصلوات لينتقلوا بعدها إلى تعليمهم مزامير داود التي تقسم إلى سبعة أجزاء يعتبر الولد "ختم العلم" عندما يكون قد أنجزها ويقيم له الأهل حفل تخرج يوزعون فيه الحلوى على المعلم وتلامذته.
ومن المعلمين المعروفين في تلك الفترة المبكرة معلم من بلدة السودا التابعة لطرطوس اسمه نجيب القرا. ثم المعلم سلوم موسى الذي كان يعلم التلاميذ في دكان له على مقربة من ساحة البلدة، وبعده كان هناك معلم آخر اسمه إسبر عبدوش كان يعلم الطلاب في منزله الذي يقع في أعلى حارة الملزق.
استمرت المدرسة الأمريكية حتى عام 1947 حيث أغلقت أبوابها وكانت في الأقبية القائمة حتى الآن والمعروفة باسم معمل غصن العجي. وآخر مدرس فيها كان الأستاذ سامي جبرين من نبع كركر.
وقد نقل عن القس هاردن قوله إنه ذاهب إلى المشتى لافتتاح مدرستين.. وعندما سئل عن كيفية ذلك أجاب: أنا متأكد من أن الرهبان اليسوعيين سوف يتبعونني ليفتتحوا مدرسة لهم هناك بمجرد أن يعلموا أنني افتتحت مدرستي. وهكذا كان، فقد سارع الرهبان اليسوعيون إلى افتتاح مدرسة في بيت سركيس عام 1886، انتقلت فيما بعد إلى كفرون سعادة، واستمرت هناك على شكل دير يتضمن مدرسة (داخلية وخارجية) للبنات تعلمت فيها معظم أمهاتنا. وعندما كانت والدتي طالبة صغيرة هناك فاتحتها الريسة بأن تنضم إلى سلك الرهبنة، فكان جوابها: "أنا حلوة، أمي بدها تجوزني، بس خيتي سارة بشعة بدها تعملا راهبة"... ومن حكايات نزول صبايا المشتى على بيت سعادة للدراسة أن سامية امرأة الخال أيوب كانت تنتظرهن لتسخرهن بالعجين، وعندما تكون عندها فريدة تقول لها: يا عيني يا فريدة تسلميلي عهالشغل وهالديات الحلوين، مو متل هالدبة مريانا القسطو مبارح حرتلي هالعجين حر. وفي اليوم التالي يكون دور مريانا القسطو فتقلب سامية الحديث رأسا على عقب.
أما المدرسة الروسية التي كان لها مبنى خاص بها هو المالية حاليا، فقد أسستها بعثة قيصرية روسية تحمل اسم "اللجنة الإمبراطورية الفلسطينية" (وهي بعثة تبشيرية أرثوذكسية أسست مئات المدارس في بلاد الشام واستخدمت اسم فلسطين لما له من وحي مقدس لدى المواطنين الأرثوذكس الروس. وقد استعادت هذه اللجنة نشاطها في روسيا بعد وصول بوتين إلى الحكم). وقد شرع ببنائها عام 1890 وأنجز عام 1896 ويفصلها عن سوق الدلبة منزل عائلة المرحوم مخائيل جبران الذي تشكل قنطرته معلما مميزا من معالم المشتى. وكان من أبرز معلمي تلك المدرسة المعلم داهود الحلو (والد الأستاذ عيسى الحلو).. وأذكر في هذا المجال نقلا عن الوالد، أنه عندما كان مسؤولا في الحزب الشيوعي في المشتى منتصف الأربعينيات، جاءه المعلم داهود وحدثه عن رواتب له متبقية في ذمة روسيا التي توقفت عن الإنفاق على المدرسة بعد الثورة البلشفية، وطلب منه التدخل لدى القيصر لتحصيلها!
وقد أغلقت تلك المدرسة أبوابها خلال الحرب العالمية الأولى مع تخلي الدولة الروسية (السوفييتية بعد ثورة 1917) عن دورها الديني القيصري، لتتولى حكومة الانتداب الفرنسي رعايتها مع احتلال قواتها لسورية، عام 1920. وظلت قائمة كمدرسة حكومية إلى أن تم بناء الثانوية التي تحولت إلى المجمع المدرسي القائم حاليا.
وكانت قد أنشئت إلى جانب مدرسة الصبيان الروسية مدرسة للبنات (كملحق بكنيسة مار الياس.. سقفها هو باحة الكنيسة) وتم افتتاحها في مطلع القرن العشرين بإدارة المعلمة ملكة جرجس من دير عطية (قريبة المطران أبي فانيوس) التي جاءت بها الإرسالية الروسية لتأسيس مدرسة البنات في المشتى، بعد أن كانت قد أوفدت من قبل الكنيسة للدراسة في روسيا. ثم تولت إدارة المدرسة من بعدها ابنتها المعلمة رشا جرجس التي تزوجت فيما بعد من حنا عبود الحلو وأنجبت منه ثلاثة أولاد رزق الله وفريدة ووداد، وبعد وفاته تزوجها يوسف نجيب الحلو ورزق منها بولدين ميخائيل وعدنان.
أنا والمدرسة:
بالنسبة لي كانت مدرسة الأمريكان هي أول مدرسة دخلتها في حياتي. وكان ذلك عام 1946. أذكر أنني دخلتها أنا ومفيد الحلو في يوم واحد وجلسنا على مقعد واحد. كان المعلم آنذاك هو سامي جبرين من نبع كركر. وقد هاجر إلى البرازيل ثم عاد وتزوج نجلا ابنة العم جبرا الحلو.
كانت الصفوف كلها في قبوين منفتحين على بعضهما، الطلاب الصغار في المقاعد الأولى والكبار في المقاعد الخلفية. وكانت الدراسة مختلطة. أذكر من بين الكبار في تلك السنة: أنجلينا السلهب وأديل الجبرا ونجوى ابنة خالي وديع، وشاب وشقيقته من بيت طعمة من بيت شباط... إضافة إلى الشباب المتقدمين علينا وبنات جيلهم.
وأذكر أنني في اليوم الأول بكيت. وعندما سئلت عن السبب قلت: "بدي شخ". فضحك الجميع وعلموني آنذاك أنه في متل هذه الحال يجب أن أرفع إصبعي وأقول للمعلم: دستور. وكانت تلك الكلمة أول ما دخل في رأسي من "علم".. والطريف أن كل المنطقة المجاورة لغبيط أم حدو (فوق مقهى رأس النبع) والتي كان الطلاب يقضون فيها حاجتاهم صارت تسمى "الدستور" تيمنا بتلك الكلمة.
مع مرور عدة أسابيع بدأت الشتوية واشتد البرد دون أن يكون لدينا أية احتياطات للتدفئة داخل الصف.. وكانت هناك وسيلة وحيدة، هي أن يجد كل واحد منا صحنا معدنيا يثقب أطرافه ثلاثة ثقوب متقابلة يمرر فيها أسلاكا مجدولة مع بعضها البعض لتنتهي من جهة اليد بدائرة تستخدم كمقبض.
كنا نشعل الفحم والحطب في ذلك الصحن ونلوح به في الهواء بشكل دائري فيلتهب بقوة.. ثم نتدفأ عليه حتى داخل الصف.
وفي إحدى المرات ارتطم "منقل " يوسف الفارس الحلو مع منقل آخر وسقط الجمر على ظهره فأحرقه.. وحمله التلاميذ إلى بيته، فسارعت والدته جميلة اليازجي إلى فتح صندوق قديم وأخذت من كيس فيه بعض التراب ثم همت برشه على مواضع الحروق.. وعندما سألها العم يوسف النجيب عن طبيعة هذا الدواء، أجابته أنه تراب من قبر أبيها!
فصرخ في وجهها قائلا:
يحرق تراب بيك.. شو بيك مار جرجس!
لم نمض في تلك المدرسة سوى عام واحد، فقد أقفلت أبوابها ورحلت في نهايته. (في الحقيقة لا أعلم سببا لذلك. وإن كان تاريخه يتطابق مع استقلال سورية. لكن هذا غير كاف لأن مدارس أمريكية أخرى بقيت في سورية لسنوات طويلة لاحقة، من أهمها المعهد العلمي في حلب).
وهكذا انتقلنا في العام التالي إلى "مدرسة الحكومة" ودخلنا الصف الأول، فقد اعتبروا أننا أكملنا صف الأحداث في المدرسة الأمريكية.. وكان دخول الصفوف يتم بعد قرع الجرس والتجمع في الباحة أمام باب المدرسة والانتظام في أرتال تدخل تباعا نحو الغرف المخصصة لكل صف... وكان أول معلم لنا في ذلك الصف هو المعلم فريد بشور (أبو كمال (الذي كان يسكن في البداية في حارة بيت الدبس، قبل أن يشتري بيته المعروف في أعلى الملزق.
ولم تمض سوى أيام قليلة حتى اكتشفنا ذلك الاختلاف الكبير بين مظهر المعلم فريد وبين طبيعته. فلم يكن جسمه المتكرش وشارباه المعقوصان إلى فوق (وكان شديد العناية بهما) وصوته الجهوري القوي، يوحي بما لديه من روح ودودة وقلب طيب.
أكثر ما كان يعلمنا الخط.. كان يدخل إلى الصف ويكتب على اللوح قولا مأثورا أو بيتا من الشعر. وكانت جميعها تحض على احترام المعلم ومحبته:
العلم في الصغر كالنقش في الحجر
من علمني حرفا صرت له عبدا
قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا
ليس الجمال بأثواب تزيننا إن الجمال جمال العلم والأدب
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وكان يطلب منا نسخ ذلك الخط عشرات المرات، في الوقت الذي يرسل فيه أحد التلاميذ إلى بيته ليحضر له من عند زوجته العمة أم كمال شيئا للفطور. وهو على الأغلب عروس او "قضوضة" برغيف تنور كامل، يقضمه بتلذذ وعلى مهل فيما هو جالس إلى الطاولة الموضوعة فوق منبر. وآخر ما يفعله هو إلقاء نظرة على دفاترنا وكتابة كلمة" شوهد " أو "حسن خطك"، بينما نحن ننتظر بفارغ الصبر أن يقرع الجرس لنتقافز فوق المقاعد من أجل الوصول بأسرع ما يمكن إلى الأنبوب في سوق الدلبة الذي نتدافع نحوه كقطيع الغنم أو الماعز المتدافع نحو الماء. ثم نعود إلى باحة المدرسة للعب. وكانت تحصل مشاجرات كثيرة في تلك الباحة لكنها تختصر بتدخل التلاميذ الكبار أو المعلمين، ليجري استئنافها عندما نغادر المدرسة عصرا. وكان أهم مسرح للمقاتلة والمغالبة زاروب ضيق وراء بيت إسبر التامر أمام بيت حفيظة وبيت نورية، عمة الدكتور رفعت. وبعد ذلك يفترق أولاد الرويسة وأولاد حارة بيت الياس عند البلاطة وهم يتراشقون بالحجارة، ليعودوا في صباح اليوم التالي إلى المدرسة وكأن شيئا لم يكن. لكننا كنا في بعض الأحيان نتقاطع، وعلامة ذلك لمس الإصبع الصغير ليد الواحد مع الإصبع الصغير للآخر.. أما المصالحة فعلامتها تلامس السبابتين. وإذا اضطر المتقاطعان للتحادث دون مصالحة فكانا يحدثان شخصا ثالثا يتناقل الكلام بينهما. أما إذا اضطرا للكلام دون أن يكون هناك ثالث فيكفي أن يذكر الواحد كلمة "قلو" قبل كل جملة يوجهها للآخر، باعتبار وجود ثالث وهمي ينقل الكلام بين الإثنين.
وكان أولاد الملزق وحارة الرويسة يمرون خلال الأيام الباردة على دكان العم غابيوس الحداد في أول الطلعة باتجاه الساحة ليحصلوا على بعض الدفء المنبعث من الكور. ويقومون بالمقابل بمساعدته في النفخ بالمنفاخ الجلدي الكبير.
قضيت في مدرسة الحكومة الابتدائية خمس سنوات متوالية، مر علينا فيها عدد من المعلمين أذكر منهم:
حنا ديبة، من وادي المجاور (خال رفيقنا سركيس سركيس) ويسكن كفرون سعادة (في بيت حميه عبد الله الروفائيل).
ميشيل مطانيوس الخوري، وكان معتل الصحة بصورة شبه دائمة، ورغم هزاله كان من أكفأ المعلمين رغم أنه كان شديد القسوة على الطلاب.
وديع خوري، كان أصغر المعلمين سنا وقد كنت في الصف الرابع عندما تعين في المدرسة. وأصبحنا أصدقاء جدا فيما بعد. وبذهني صورة للمشتى اتذكرها باستمرار، فقد زرت الضيعة شتاء في اواخر السنوات الأخيرة لي في سوريا (منتصف الستينات) ودعاني أنا والصديق العزيز المرحوم جرجي الزكزك على الفطور صباح يوم الشعنينة وكان الفطور على طاولة صغيرة فوق سطح بيتهم المطل على دار الكنيسة، والطقس الربيعي يملأ الجو بعبيره المسكر، فيما كان الناس يقودون أطفالهم إلى الصلاة وهم – أي الأطفال – يرتدون أحلى ثيابهم بألوان بيضاء أو فاتحة والشعانين بورودها الجميلة في ايديهم. بالفعل كانت الطبيعة كلها مهرجان فرح ما أزال اتذكره وأعيشه بكل ما فيه من حيوية.
سميح عطية، من عيون الوادي. الذي صار محاميا معروفا في دمشق ثم وزيرا للمواصلات. وكان شديد القسوة يمسك الطالب المعاقب بسوالفه ويؤرجحه مرددا "هذه أرجوحة الأبطال". وما أنقذني من عقوباته هو أنني كنت قويا في الحساب.
نعيم الياس أو المقدسي، من عيون الوادي أيضا، هاجر لاحقا إلى فنزويلا، وكان معه شقيقه فريد الطالب المتقدم علينا بصف واحد. وقد عدت والتقيت بفريد صدفة بعد سنوات طويلة خلال السنة الأولى من الحرب اللبنانية وكان طبيبا في مستشفى الجامعة الأمريكية فكأنما التقيت بأخ عزيز جدا. لقد كان هو والأستاذ نعيم من أطيب من مر على مدرستنا من طلاب وأساتذة.
ناجي بشور، من صافيتا كان مديرا للمدرسة وما أزال أذكر الفلق الذي أكلته منه بسبب المشاجرة مع ابن العم مخاييل البوسف.
شحادة بشور، من صافيتا أيضا.
أما التلاميذ فما أزال أذكر معظمهم، وخاصة من كنا ننتقل وإياهم من صف لآخر ومنهم:
كرم العطا (نصار) ورياض الديبو (نصار) وميشيل الزكزك ونقولا عيد وابراهيم الجميل ومخاييل الصباغ وسركيس سركيس وحبيب الداهود السركيس، ونبيل نحاس (طنوس) وأسعد السلوم ورفيق بيطار وعيسى بيطار وجمال ابن المعلم فريد وجميل داهود المتري ووجيه العبدوش وعفيف المخول (الياس) من مشتى التحتاني ومزيد اسماعيل من بسدقين ومعين أسعد من الجنين وأمين محمد من سبه. وغيرهم بالطبع. وما أزال أستغرب كيف كان الأخيرون يأتون من قراهم البعيدة كل يوم صباحا وهم أولاد صغار، وتحت كل الظروف المناخية الصعبة!
عندما وصلنا إلى الصف الخامس شعرنا باننا صرنا الكبار في المدرسة وكأننا في صف التخرج من الجامعة. وكم فرحنا عندما طلبوا لتقديم فحص السرتفيكا إخراجات قيد وصورا شمسية صورنا إياها المعلم زخور أمام الحائط الغربي للكنيسة التحتانية، وسبب الفرح هو أننا سنسافر إلى صافيتا لتقديم الامتحان هناك- كنت قد سافرت من المشتى مرة واحدة قبل ذلك مع الأهل ولم أكن قد دخلت المدرسة بعد فركبنا البوسطة إلى تلكلخ ومن هناك بالقطار إلى حلب.
لكننا أصبنا بخيبة أمل كبيرة عندما أبلغونا قرب نهاية العام الدراسي أن الامتحانات من تلك السنة وصاعدا سوف تكون في المشتى نفسها. وعندما عدت إلى البيت مكتئبا بسبب هذه الكارثة التي حرمتنا من سفرة بالبوسطة، وعدني والدي بأن يرسلني في الصيف إلى حلب لعند عمي عبود إذا نجحت في الشهادة!
وبالفعل وفى الوالد بوعده وأرسلني مع منيف المخول من مشتى التحتاني الذي عمل في البريد لاحقا وكان آنذاك يخدم عسكريته في حلب. فأمضيت قرابة الشهر هناك. وأخذني عمي عبود إلى عند مصور أرمني صديق له اسمه آرشو فصورني أول صورة هوية كهربائية في حياتي. وقد ضاعت نسخها الستة، لكنني اكتشفت فيما بعد أن خالتي سارة كانت تحتفظ بواحدة منها أرسلها لي ولدها عدنان بعد وفاتها.
ذكريات المدرسة الابتدائية كثيرة وجميلة... أهمها بالتأكيد هو التنزيهة، حيث كنا نقوم بما يشبه المظاهرة عندما يكون الطقس جميلا في مطلع الربيع، ونحن نهتف في باحة المدرسة:
هيها هيها عالتنزيه
هشو هشو قومو مشو... (وكان قائد هذه التظاهرات في معظم الأحيان الدكتور عيد عيد).
فيوافق المعلمون على مطلبنا ويأخذوننا إما إلى مغارة الضوايات أو جبل المشتى أو إلى البيادر في القشعات. وأحيانا كثيرة كنا نتفق مع رفاق المدرسة على تنزيهات غير مدرسية في أيام العطل. وأجملها على الإطلاق تنزيهة المرفع حيث نلتقي في يوم أحد وقد حمل كل منا من الحلويات التي يصنعها أهله في ذلك العيد: الكنافة والبرمه والقراص مبسبسة وغير ذلك، وتكون هذه التنزيهة إلى جبل المشتى أو إلى الدقارات أوالسهيلات فوق بيتنا.
كما تظل في الذاكرة الأسابيع الأخيرة من السنة الدراسية عندما يبدأ الحر، ويصبح بإمكاننا الهرب من المدرسة للسباحة في غبيط أم حدو خلف المدرسة فوق مقهى الغبيط الحالي.
بعض من ذكريات الأستاذ دانيال:
يتناول الأستاذ دانيال نعمة في مذكراته مرحلة هامة من مراحل التعليم في المشتى نوردها هنا مقتبسة من كتابه "أوراق وذكريات". إذ يقول:
دخلت المدرسة مبكرا، في البدء كنا في المدرسة الأمريكية، وكان مديرها جميل المارديني، وكان قسيسا، ثم أصبح معلمنا جبرا أنيس الحلو، والمعلم اليان السليم من الكفرون، وعبد الله شحود منها أيضا. وانتقلت المدرسة من خان جبرا الحلو إلى بيت ليون الخليل ثم إلى بيت عازار إبراهيم إلى القبوين اللذين تسكن أحدهما منذ وفاة زوجها أختي ماريا أم طوني.
وكان يشرف على هذه المدرسة مدرس مشهور من طرابلس الياس أبو رستم زوج الخالة وجيهة ابنة عم الوالدة وبنت جرجس الخوري. في عام 1933 أو عام 1934 تركت المدرسة ا
الثانويات:
بالنسبة للمدارس الثانوية تم افتتاح أول مدرسة ثانوية عام 1949 في بيت السيد حنا السليمان وقد أسسها ولده الأستاذ دانيال نعمة بالتعاون مع الأستاذ حنا الياس المعلوف من عيون الوادي وسميت ثانوية ابن خلدون وقد انتقلت بعد ذلك إلى بيت إسبر التامر الحلو ثم إلى بيت مخاييل الشاهين.
الثانوية الثانية هي ثانوية حزور وقد أسسها الحزب السوري القومي عام 1951 في بيت المعلم داود الحلو (أول طريق المهيري) لتنتقل بعد عامين إلى بيتنا (التلة) وقد أغلقتها الدولة عام 1955 بعد اغتيال عدنان المالكي وملاحقة القوميين السوريين المتهمين بتلك العملية.
بالإضافة لهاتين الثانويتين افتتحت بعدهما (في الفترة نفسها تقريبا) ثانويتان أخريان: الأولى في كفرون سعادة من قبل الخوري بولس سعادة، والثانية في عيون الوادي من قبل الأستاذ لطيف سلوم.
أما المجمع المدرسي الحالي فكانت بدايته في أوائل الستينات عندما قام عدد من المغتربين بمبادرة من المهندس سمير العجي بحملة تبرعات لبناء مدرسة رسمية تليق بالمشتى ونهضتها العلمية والثقافية.. فقامت مدرسة التجهيز التي تطورت فيما بعد حتى صارت مجمعا مدرسيا كبيرا.
وبعد أن قضيت ثلاث سنوات في ثانوية حزور، انتقلت بعد إغلاقها إلى ثانوية ابن خلدون في صف الكفاءة. وبعدها انتقلنا إلى حلب حيث التحقت بالمعهد العربي الإسلامي لمدة ثلاث سنوات.
وهكذا انتهت سنوات الولدنة في المشتى التي طرأ عليها الكثير من التغيير في السنوات اللاحقة حتى غدت مدينة بكل معنى الكلمة.