كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

د. عبد الله حنا: الحجاب يعود إلى سورية منتصرا في الربع الأخير من القرن العشرين

تأخرت الدعوة إلى السفور في بلاد الشام مقارنة مع مصر مدة ثلاثة عقود. ولم يشهد الشارع الدمشقي سفور النساء وإن كان بصورة محدودة إلا في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين. ولم تكن نادرة كما ذكرت الصحف حالة تلطيخ وجه المرأة السافرة بمواد كيماوية تشوه وجهها. ولم يبدأ السفور يحتل مواقع في أوساط الفتيات المتعلمات إلا في أوخر أربعينيات القرن العشرين. وسنة بعد أخرى أصبح السفور السمة الغالبة لمعظم الفتيات المتعلمات في خمسينيات القرن العشرين. ومع ذلك كان الحجاب المعروف بـ"الملاية" يغطي مساحة واسعة من الشارع النسائي. وعندما قامت الجمهورية العربية المتحدة عام 1958 واخذت الفتيات المصريات السافرات يتوافدن بأعداد كبيرة لزيارة سورية ساد نوع من الاستهجان في الأوساط المدينية المحافظة على لباس المصريات. ولم يحتل السفور موقعا واسعا في أوساط الفتيات المسلمات السنيات إلا في ستنيات القرن المنصرم. واصبح السفور في سبعينيات ذلك القرن الظاهرة الواضحة في المدارس والجامعات.
ومع بدء الانكسارات في صفوف النهضة العربية وبداية بروز أزمة الحركة الوطنية العربية عاد الحجاب يطلّ برأسه من جديد في المدارس والجامعات. ولكن مقاومة الحكم البعثي للحجاب خلق حالة من التوتر هنا وهناك كان من السهل التغلب عليها في بداية الأمر. ومع ذلك كانت موجة ارتداء الحجاب تكتسح مواقع جديدة. وهذا ما حمل القائمين على سرايا الدفاع بقيادة رفعت الأسد إلى استخدام القوة لمنع الحجاب. فنزلت إلى الشوارع الرئيسية في دمشق مجموعات من فتيات "سرايا الدفاع" وأخذن يطْلبْنَ من الفتيات المتحجمات رفع غطاء الرأس عن شعرهنّ. ولكن القيادة وبتوجيه سريع ومباشر من رئيس الجمورية حافظ الأسد أوقف هذه الحملة الرعناء المتهوّرة والمعبِّرة عن سلوكية ذات طبيعة انكشارية. ولا حاجة إلى القول أن حزب البعث العربي الاشتراكي العلماني كان منذ تأسيسه من انصار السفور ولكنه لم يفكر بطبيعته المدنية النهضوية في استخدام القوة لمنع الحجاب.
وكما في مصر أخذ الحجاب في سورية ينتصر تدريجيا على السفور ليس بوسائل القمع بل نتيجة عوامل كثيرة.
وأذكر أنني كنت في شتاء عام 1981 في جولة دراسية ميدانية في مديرية مالية دمشق. وقد لفت نظري في ذلك الحين أن الموظفات السنيات المتقدمات في العمر كنَّ سفورا في حين أن معظم الموظفات الشابات السنيات كنَّ يلبسن "الحجاب الشرعي", بعكس ما كان عليه الأمر في خمسينيات القرن العشرين حيث كانت الفتيات تخرُجن سافرات والمتقدمات في السن لا يزلن يلبسن "الملاية".
عندما كنت في تسعينيات القرن العشرين التقي بمعارفي من ذوي الميول الليبرالية كانوا يتحدثون بمرارة عن إرتداء بناتهم الحجاب الشرعي طواعية واحيان دون إرادة الأهل. ومضى زمن كانت البنت في العائلات المنفتحة ترتدي الحجاب الشرعي وأمها تسير إلى جانبها سافرة. وبعد مدة تطول أو تقصر تلبس الأم الحجاب الشرعي طوعا او تحت ضغط المجتمع. والضغط هنا معنوي ولم تجر في سورية, حسب علمنا, حادثة عنف واحدة لإجبار الفتاة على ارتداء الحجاب الشرعي. وعند انتقال الفتاة من السفور إلى الحجاب كانت تجري لها حفلة ابتهاج بهداية الله لها.
واذكر أن أحد اصدقائي في بلدتنا ديرعطية رجاني أن اتحدث مع ابنته لإقناعها بعدم ارتداء الحجاب. ولجوء الصديق إليّ مرده أن ابنته كانت معجبة بالمحاضرات التي كنت القيها في المركز الثقافي, وبسبب هذه الدالّة يمكنني, حسب رأيه, أن أقنعها بالبقاء على السفور كأختها التي اعلنت انها لن ترتدي الحجاب. وطبعا لم أقم بالمهمة واقنعت الوالدين بتركها تتصرف حسب قناعتها, لأن ظاهرة الحجاب المنتشرة في تسعينيات القرن العشرين لها دوافعها الكثيرة وحديث الإقناع لا يجدي نفعاً.
ولا شك ان الحجاب يعود على الفتاة بمكاسب منها نظرة المجتمع المتدين إليها نظرة تقدير واحترام, وإرتفاع فرص الزواج او التوظف، إضافة إلى أن الحجاب وسيلة من وسائل حماية الفتاة من التحرش والوقاية من عاديات الزمن. والحجاب من هذا المنظور سلاح تحافظ به الفتاة أو المرأة على امنها من جهة، وهو أداة لحرية حركتها ودفع الظنون عنها من جهة أخرى.
وحسب علمي لا تزال دراسة اسباب اختيار المرأة طواعية أو تحت ضغوط اجتماعية ارتداء الحجاب شبه معدومة. ومن وسائل البحث للوصول إلى نتائج في هذا الميدان تخصيص نساء محجبات ومؤهلات علميا للقيام بدراسات ميدانية في هذا الشأن.
ورب قائل يقول إن نشاط الداعيات كالقبيسيات وغيرهنّ وتأثير الفضائيات الدينية وغيرها هي السبب في انتصار الحجاب على السفور. ومع الاعتراف بأهمية هذه الوسائل الدعائية وغيرها فإن لشيوع الحجاب اسباب أخرى متعلقة بالمرحلة التي يمرّ بها العالم العربي وكذلك الاسلامي.