كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

د. عبد الله حنا: ضوء في الآراء المختلفة حول الاختلاط بين النساء والرجال

مستقاة من جولاتنا الميدانية في الارياف السورية عامي 1984 و 1985

كانت إمكانية سماع رأي الفلاحات أثناء جولاتنا الميدانية 1984 و 1985 لكتابة تاريخ الفلاحين تختلف من منطقة إلى أخرى حسب المسح التالي الذي عاينته في منتصف ثمانينيات القرن العشرين، أي قبل إنتشار ظاهرة التدين المتزمت المنْغَلِق على نفسه والمتأثر بالفضائيات الدينية وفقهائها. وفيما يلي عرض ما توصلنا إليه:
- المناطق السنية ذات الاستقرار القديم من العهد العثماني يصعب عموما سماع رأي النساء فيها. وتقع هذه المناطق عموما إلى الغرب من الطريق الواصل بين حلب ودمشق.
- المناطق السنية الحديثة العهد بالاستقرار، المنتقلة من البداوة إلى العمل الزراعي - الرعوي. وفيها يجري الاستماع إلى رأي النساء بسهولة ويُسر. هذا في زمن الجولات الميدانية قبل انتشار ظاهرة التدين المنوّه عنها. وتمتد هذه المناطق إلى الغرب من خط دمشق حلب حتى البادية. كما تشمل حوض الفرات وكذلك منطقة المرج إلى الشرق من قرى غوطة دمشق، التي كانت نساؤها متمسكة بالحجاب.
- المناطق البدوية الخالصة، ولا يجد الباحث أي صعوبة في الحديث مع "البدويات". ولا بدّ من الإشارة أن حياة البداوة كانت قد انتهت أثناء الجولة الميدانية، وانتقل افرادها إلى حياة الاستقرار رغم احتفاظهم بمعظم أخلاق البداوة وعاداتها.
- مناطق العلويين والدروز والإسماعليين والمسيحيين، لا توجد اية صعوبة في الحديث مع الفلاحات.
***
أثناء جولاتنا الميداني في قرى غوطة دمشق وقرى المرج إلى الشرق منها كان دليلنا للوصول الى ما نريد فلاح من مسرابا في قلب الغوطة، حيث لا مجال للقاء بالنساء بعكس قرى المرج ذات الجذور البدوية  وبعد دراسة نماذج متعددة من قرى المنطقتين ألقينا عصا التسيار في قرية حزرما وهي من اقطاع آل العابد في المرج..
***
ظهر آل العابد في حي الميدان إلى الجنوب من دمشق، واهتموا بتجارة الحبوب والمواشي. وبعد أن ازدادت ثروتهم، انتقل كبراؤهم من الميدان، الحي الشعبي، إلى سوق ساروجة الحي الأرستقراطي في منتصف القرن التاسع عشر. وبرز من الأسرة "هولو العابد"، الذي ، جمع الثروة عن طريق الوظيفة العالية – وتلك الثروة أوصلته عام 1878 إلى عضوية المجلس الاداري للولاية، ثم لرئاسة المجلس الإداري لولاية الشام. ولم يكتف "هولو باشا" بشراء الأراضي، أو بالأصح الاستيلاء عليها، بل سعى لتعليم أولاده.
درس ابنه عزت العابد في بيروت فتعلم اللغة الفرنسية، التي كان قلة من المثقفين يتقنونها.
بعد تخرجه عمل عزت العابد رئيسا لقلم المخابرات التركية والعربية في دمشق عاصمة الولاية. وعن هذه الوظيفة تعرّف عليه السلطان عبد الحميد فاستدعاه إلى قصره في استنبول. وهناك استفاد عزت العابد من موقع عائلته ومن اجادته للغة الفرنسية، ومن طموح السلطان عبد الحميد في الدعوة إلى الجامعة الاسلامية ووضعها في خدمة مطامحه وسياسته، فتوصل أن يصبح كاتم أسرار السلطان عبد الحميد وسكرتيره الخاص وحاز على لقب باشا. وعن هذا الطريق تمكن من جمع ثروات هائلة وأخذ عمولات من الشركات الأجنبية الساعية إلى توظيف رأسمالها في الدولة العثمانية.

من لائحة المشمولين بالاصلاح الزراعي يتبين أن آل العابد ملكوا قرى أو جزءا من قرى (حزرما، محمدية، حوش الصالحية، بيت نايم، الزريقية، الفريقة، ميدعا). وقد اخترنا في جولتنا الميدانية لدراسة تاريخ الفلاحين والمسألة الزراعية، قرية حزرما المملوكة من آل العابد لمقارنة طرق الاستثمار الاقطاعي مع قرية خرابو المملوكة من آل العظم.
***
في حزرما التقينا بعد ظهر 15 / 12 / 1984 الفلاح محمد محمود هارون مواليد 1930 سألناه عن كيفية تملك بيت العابد لحزرما، ومتى؟ فأجاب الفلاح: "من أول ما الله خلقنا، نعرف بيت العابد هنا، من أيام جدودنا" ولكن من خلال معرفتنا لتاريخ بيت العابد نعلم – كما رأينا - أن هولو العابد، وصل إلى رئاسة المجلس البلدي لولاية الشام في عام 1878 وتمكن من تسجيل الأرض التي ورثها ولداه مصطفى وعزت، الذي اصبح أمين سر السلطان عبد الحميد .
***
لم تكن أرض حزرما مسجلة جميعها ملكا لآل العابد. فقد كان قسم من الأرض مغطى بالمرج وهو أملاك دولة بانتفاع الفلاحين لرعي مواشيهم. وفي عام 1945 قام إمام جامع حزرما بتسجيل الأرض المرجية رسميا باسم أملاك الدولة لأن "الدولة أرحم من الأفندية" حسب تعبير الفلاح. وعندما علم آل العابد أن الأرض المرجية سجلت باسم أملاك الدولة، غضبوا على فلاحي حزرما ورفضوا تشغيلهم في أرضهم. وأخذوا يستقدمون فلاحين غرباء وبخاصة من دوما ومن البدو، ومن الجزيرة. فتحول فلاحو حزرما البالغ عددهم قرابة خمسين فلاحا، الذين حرموا من العمل في أرض بيت العابد في حزرما إلى عمال بلدية بأجر يومي، قدره في أواخر الأربعينات ثلاث ليرات يوميا، ثم صارت ثمانين ليرة في الشهر. هؤلاء الفلاحون – العمال كانوا يذهبون يوميا إلى دمشق على ظهور دراجاتهم الهوائية الراجلة (بسكليت) ويعودون إلى حزرما، في المساء.
اعتبرفلاحو حزرما السابقون أنّ الأرض المرجية المسجلة أملاك دولة هي ملكهم، في حين أن آل العابد اعتبروها استمرارا لملكيتهم فهي أرضهم. ولهذا "قام الأفندية" أي بيت العابد، بكسر (فلاحة) هذه الأرض بواسطة التراكتور وزرعوها قمحا وشعيرا. ولكن الفلاحين حصدوا الزرع بالقوة، فاشتكى آل العابد أمام القضاء. مما أدى إلى وضع حارس قضائي وجرت محاكمات.. وفي عام 1959 صدر حكم لمصلحة الفلاحين وصارت أرض أملاك الدولة تحت تصرف الفلاحين، ولكن الخلاف على الأرض نشب بين الفلاحين القدامى وبين البدو، الذين اتجهوا إلى العمل الزراعي بعد أن تركوا حياة التنقل والترحال. وهؤلاء هم الذين نالوا القسم الأكبر من أراضي أملاك الدولة المرجية، مع عدد من فلاحي حزرما القدامى، الذين هجّرهم آل العابد كما رأينا . وقادنا مرشدنا إلى بيت أحد الفلاحين القدامى.
***
لدى وصولنا إلى حزرما عصر 15 / 12 / 1984 لم يكن، صاحب البيت، الذي قصدناه لأخذ معلومات عن حزرما موجودا، ولكن امرأته، التي فتحت الباب، أصرّت على استقبالنا فحاولنا الاعتذار بأننا نريد مقابلة فلاح مطلع على أخبار اقطاعيي حزرما، فأجابت : أنها تعرف تاريخ الاقطاع مثل سائر الفلاحين.. فدخلنا البيت وكان في زيارتها فلاحتان من الجوار.
صاحبة البيت، التي أصرت على استقبالنا هي "حُسن كريم" (أم عبدو) مواليد 1945. كانت حُسن كريم (ام عبدو) ابنة عامل زراعي أمضى عمره أجيرا في أرض بيت العابد. وقد بلغت أجرته اليومية في الخمسينات ثلاثة ليرات سورية. وعلقت أم عبدو على ذلك قائلة "أبي كان معجون من دم بيت العابد"، اشارة إلى عمله المتواصل لديهم.. أم عبدو أمية، بالقراءة والكتابة، ولكنها العارفة الخبيرة بمشكلات الحياة، وبخاصة العلاقة بين الاقطاعيين والفلاحين. وردا على سؤالنا عن سبب عدم دخولها المدرسة أجابت: "على زماني كان فيه مدارس، ولكن كان طَفَرْ وصعب دخول المدارس من الطفر".
منذ نعومة أظفارها – وهي بنت عشر سنوات – عملت حسن كريم في التعشيب "وحفّ الأنهر" في أرض نهاد بك العابد بأجر يومي قدره نصف ليرة سورية. علما أن أجرة المرأة البالغة كانت ثلاثة أرباع الليرة في الحصاد، وجمع البطاطا وغيرها من الأعمال. وكانت الأيدي العاملة متوفرة في حزرما، وقد عبّرت عن ذلك أم عبدو بقولها: "من الطفر نرمي حالنا على الموت عند بيت العابد حتى يشغّلونا".
***
عام 1964 تزوجت حُسن كريم من شاب كان يعمل في سقاية أرض بيت العابد بأجرة قدرها ثلاث ليرات يوميا. ثم انتقل للعمل في معمل لصنع الأجر في جوبر بالأجر نفسه. وبعد توزيع أرض الاصلاح الزراعي عام 1968 انتفع أبو عبدو بمساحة 15 دونما تزرع قمحا وخضرة. وبفضل جهود الزوجين وعملهما سوية في هذه المساحة من الأرض، صار لديهم الآن أربع بقرات حلوب وعمّرا في عام 1983 بيتا من ثلاث غرف بفضل ما جنياه من أرض الاصلاح الزراعي. ومع أن أرض البناء هي لعادل العابد فقد أخذها الفلاح بالقوة ودون ثمن وبنى عليها بيتا اسمنتيا. ولم تعد احتجاجات الاقطاعي عادل العابد تُسمع، وأوامره السابقة صارت في خبر كان.. وهذا مما دفع عادل بك للقول لوالد أبو عبدو الفلاح محمد عبد الكريم عبدو: "الله يحرق هالشروال، صارت القيمة له، والبنطلون ما بقالو قيمة". وقد لخصت أم عبدو تاريخ قسم كبير من الفلاحين الخاضعين للاقطاعية سابقا، الذين انتفعوا من أرض الاصلاح الزراعي بقولها: "المصاري والمعيشة الحلوة ما شفناها حتى راحت الاقطاعية"..
ولا شك أن الأرض الخصبة المروّاة والبقر الحلوب والقرب من أسواق التصريف في المدينة والنشاط في العمل والخبرة في الزراعة ورعاية البقر، أسهمت مجتمعة، في تحسن وضع فلاح الغوطة والمرج.
*****
***
*
عند انتهاء اللقاء طرحت على دليلنا، وهو كما ذكرنا من قرى الغوطة، وبحضور أم عبدو السؤال التالي:
كيف تُفسّر أننا في قراكم في الغوطة لم نستطع اللقاء مع اية فلاحة، وهنا في قرى المرج، كما في قرى القلمون يمكن سؤال الفلاحات عن اوضاعهنّ؟..
فأجاب:
  "نحن اسلام"
وبعفوية ولهجة حازمة ردّت أم عبدو:
  "ونحنا اسلام"
***
نُحيل القارئ إلى الحلقة السابقة وانتقادات حسن هويدي للشيخ الباقوري المحبّذ للاختلاط وما كتبه عبد القادر عياش. تاركين لخيال القارئ أن يحلّق في سماء التاريخ العربي والاسلامي للنظر في الاوجه المختلفة للآراء من قضية اختلاط الرجال بالنساء وغيرها من الآمور الخلافية فيما يتعلق بالموقف من المرأة عبر العصور.