كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

ويلات الحرب (سفر برلك) كما عاشها ورواها المعلّم نسيم الحلو (1868- 1951)- 1 من2

أدناه, مقتطفات من "مذكرات المعلم نسيم الحلو (1868- 1951م) التي حققها وقدّمها الأستاذ عدنان بدر حلو, يذكر فيها بعض ما عاشه وشاهده وسمع عنه خلال "سفر برلك" أو "أيام الجوع" كما سمّاها أجدادنا, وكان سببها الرئيس هو الاحتلال العثماني البغيض الذي يكاد (الاحتلال) يتكرر بلبوس قذر آخر بعد قرن من الزمن.

- القسم الأوّل-

ص154- 157

و ماذا عساني أن أحصي من ويلات هذه الحرب الضروس, فما ذكرته مما يخصني يحسب شيئاً تافها لا يعتدّ به بالنسبة إلى ما حاق بالناس من أنواع البلايا و بخاصة طبقة الفقراء. ومما يؤلمني جداً ذكره أن أخي أنيس توفي في الغربة بعيداً عن بيته في جهات استنبول, و كان قد زارنا في الميومية أوائل الحرب, إذ هجر المشتى فراراً من طلب العسكرية الشديد و بقي عندنا مدة, ثم تذكر عائلته التي تركها في المشتى في حالة تدعو إلى القلق, فقصد أن يعود إليها كيفما كانت الحال فذهب و ما عدت رأيته بعد ذلك, هو قصد أن يرفع الضغط عن عائلته فعلق في أحابيل العسكرية و ما وصلني إلا خبر واحد بعد ذهابه من تلك الجهات النائية, ثم توفي في ديار الغربة لأنه لم يعتد شظف و مشقات الحياة. و بعد حين من وفاته ماتت زوجته و تركوا ثلاثة صبيان و ابنة واحدة و قد رحمهم الله و سلمهم جميعا. و ما أصاب أخي أنيس لحق بصديق و رفيق صباه عارف انطونيوس الحلو فمات أيضا في الغربة بعيدا عن ذوي قرباه. علما أن الصعوبة الكبرى ليست أن يتجنّد الإنسان و يموت في الحرب دفاعا عن الشرف و الواجب الوطني, فذلك أمر واجب لا محيض عنه, ولكن سوء المعاملة في جندية هذه الحرب لأولاد العرب خصوصا مع الإهانات و الجوع والعري و عدم الاهتمام بالمصابين و المرضى كل ذلك مع غيره مما كان يقضي على المتجندين قبل أن يقضي عليهم في ساحة الحرب. لذلك كان الناس يفرون من الجندية من بين فرارهم و الأفعى. و كنا نرى رأي العين كثيرين يفرون و يهيمون على وجوههم من أقصى البلاد ليعودوا إلى أوطانهم, و بعض من هذا الصنف من ذوي قربانا و أهل بلدتنا المشتى كانوا يمرون بنا على الميومية و يرتاحون قليلا و هم في حالات زريئة (مزرية) تدمي القلوب, و كنا في بعض الأحيان نسعفهم ببعض الثياب, ولكن الحال كانت أتعس مما بإمكاننا أن نلطفها. و المصائب توحّد القلوب فماتت التحزبات و المشاحنات المذهبية لأن الجميع كانوا تحت ضغط الألم الشديد. و ما كانت الحكومة تميّز مسلماً عن مسيحي في شيء من الجور و العنف فكأنها اتبعت المثل القائل: "إذا وقع الظلم على الرعية فالعدل يوجب أن يكون بالسوية". و على الإجمال كان أولاد العرب مكروهين متهمين بالخيانة و المروق من الوطنية وممالأة الأعداء, و قد علّق جمال باشا السفاح على أعواد المشانق رجالا من خيرة البلاد. القافلة الأولى منهم في بيروت في 21 آب سنة 1915, و القافلة الثانية قي بيروت أيضا في 6 أيار سنة 1916 و في هذا التاريخ أعدموا قافلة أخرى في دمشق. وقد أقاموا نصباً تذكاريا لهؤلاء الشهداء و هم يعيّدون لهم في 6 أيار من كل سنة.

و إذا سألت الذين مرّت عليهم أهوال هذه الحرب ما هي ضرباتها الكبرى, أجابوك هي المجاعة و الأمراض و العسكرية بالأخص العسكرية, فتروى قصص كثيرة عن الطرق المتنوعة التي كان يحتال بها المطلوبون للجندية كي يتخلصوا من ويلاتها, أهمها وأكثرها شيوعاً الرشوة للمطاردين إلى درجة صارت معها كرسم قانوني. و منها إذا قصد أحد الخروج من المنزل و الانتقال إلى مكان آخر كان يتحجب بإزار المرأة, و كم كانوا يفتشون البيوت و يعذّبون أهل الفارين, و الويل لمن ليس عنده دراهم ليشتري رضاهم. أما المجاعة فقد تمّ في بعض الأماكن ما حدث في حصار أورشليم وخرابها في زمان تيطس الروماني على ما روى يوسينوف أن امرأة شرقية ذبحت ابنها و طبخته و أكلته. و في هذه الحرب حصل ما يماثل ذلك و أفظع منه, ففي عدة أماكن ثبت أن أناسا ذبحوا إخوانهم البشر و أكلوا لحمهم, و لم يمكنني أن أصدق ما روي عن شخص أو وحش ذبح أمه و أكل من لحمها لسدّ جوعه, أمور تقشعر منها الأبدان. و كم كان يشاهد الفقراء الجياع يسابقون الكلاب إلى الزبالة الملقاة خارجاً علّهم يعثرون على ما يسدون به رمقهم. نعم إن الحكومة لم تجند اللبنانيين, و لكنها أماتت منهم بالجوع أكثر مما تميته الحرب. إني لا أزال أتذكر صورة رجل مائت ممدد جسمه بجانب قناة ماء قرب نهر الأولي وأنا ذاهب إلى الدبية. ولا ننكر أن أهل الإحسان و عاملي الخير كانوا يمدون المعوزين بشيء يسد جانباً من حاجتهم, و كثير من الجمعيات الخيرية و المرسليات الأجنبية كان لها الأيدي البيضاء في تخفيف وطأة هذه الشدائد. و قد سبق معنا الكلام عن إنشاء المطاعم في بعض أنحاء البلاد.

أما المأثرة التي تكتب للمرسلين الأميركان بمداد الشكر, فإنهم لما اشتدّ الضيق و قصرت اليد عن أن تطال ماتحتاج إليه من مقومات الحياة فإنهم عملوا ترتيباً لمستخدميهم لا ينظر فيه إلى مرتب الشخص بل إلى عدد النفوس الذين في البيت, فاشتروا كمية كافية من القمح و وزعوها بهذه النسبة, فانتعشت نفوس كثيرة و شكروا الله و أهل الخير على هذه الخدمة التي أتت في وقتها.

أما نحن فلا أقول إننا ما شعرنا بالحاجة, و لكننا بالنسبة إلى ما شاهدنا حولنا كنا من نعم الله في درجة حسنة. و الذي زاد الحال عسراً الغلاء الفاحش. سمعتُ عن أحدهم نزل من القرية إلى صيدا و بيده ليرة انكليزية ذهباً ليشتري بها قمحاً لبيته, فاشترت له رطلين من القمح, و بطريقة سرية أيضاً. و لاختفاء الرجال من وجه العسكرية, كانت النساء يقمن مقامهم في الخروج من المنزل و السفرات القريبة و البعيدة, حتى البعض من الرجال و النساء كانوا يأخذون من قدور البيت النحاسية إلى جهات الحولة و يبيعونها بملئها ذرة بيضاء و يحملونها و يعودون بها ليقيتوا عيالهم.

و اسمع هذه النادرة التي سمعتها من صاحبها أحد خدمة الدين, قال: إن الله ساقني بعمل خيري, خلّصت فيه نفسا من الهلاك. قلتُ: جازاك خيراً وما هو؟ أجاب: بينما كنت على الطريق العام, رأيت رجلا غير مسيحي في حالة النزاع ملقى على جانب الطريق, فأسرعت و أخذت قليلا من الماء و دنوت منه و مسحت جبينه قائلا أعمّدك الخ.. و ربما فارق هذا الرجل الحياة قبل أن يفارقه هذا السامريّ الصالح, فيا ليته وضع الماء في فمه ليبل نشوفة حلقه ساعة الموت, ربما كان أفاده أكثر من مسحه جبينه. فهذا نوع آخر من الإسعاف جعل صاحبه يشعر أن الله أرسله لإتمامه. و يا ليت صاحبنا هذا فطن إلى أن المسيح قال: "جعت فأطعمتموني عطشت فسقيتموني كنت مريضا فزرتموني". ولم يقل كنت محتضرا فمسحتم جبيني.

و أذكر لك نادرة أخرى عن أحد القسوس المحترمين, أنه كان في مدة الحرب لا يستنكف أن يسافر ماشياً من بلدة إلى أخرى, فإنه لما أعلن المرسلون عن توزيع القمح على المستخدمين بالنسبة إلى عدد أفراد العائلة نزل إلى صيدا و تسلّم ما يخصّه و استأجر دواباً لنقله, ولما ودعنا قال: الآن يحق لنا أن نقول شرفونا. و عاد إلى بيته متهللا.

كانت صعوبة أخرى و هي منع نقل الحبوب إلّا برخصة. أذكر أني اشتريت من إحدى القرى المجاورة طحنه قمح, و أتيت بها إلى البيت فاعترضني خفير قرب جسر درب السيم و قصد أن يصدّني عن المرو,ر و في وهمه أن أسترضيه بشيء أقدمه له, ولكني مضيت في حال سبيلي و خاب ما أمل.

و حوادث كثيرة من هذا النوع تزيد الطين بلة حتى ضجّ الناس من سوء الحال و كادت تبلغ الروح التراقي. ثم أذن الله بالفرج بإقصاء الأتراك و الألمان من البلاد. أذكر أنني في السنين الأولى من الحرب, قبل استفحال الأمر ونزول الشدائد الفادحة كنت ماراً في أحد شوارع صيدا, فاستوقفني صديقي مصباح أفندي رمضان و أسرّ في أذني قائلاً:

قل للشريف حسين أنت خليفة       للمسلمين فكن لعربك منقذاً

من دون طرد الترك من أقطارنا   "لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى"

و الشطر الأخير مستعار من البيت المشهور:

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى     حتى يراق على جوانبه الدم

فأجبته إياك أن تقولها لغيري قال:     و إلا حبل المشنقة في عنقي.

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها       فُرجت و كنت أظنها لا تفرج

رنّ صوت في الأعالي               يا ترى ماذا الخبر؟

يتبع

رابط القسم الثاني: http://www.fenks.co/%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A7%D8%AE%D9%86/16197-%D9%88%D9%8A%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D8%B3%D9%81%D8%B1-%D8%A8%D8%B1%D9%84%D9%83-%D9%83%D9%85%D8%A7-%D8%B9%D8%A7%D8%B4%D9%87%D8%A7-%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%87%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D9%84%D9%91%D9%85-%D9%86%D8%B3%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%84%D9%88-1868-1951-2-%D9%85%D9%862.html