كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

عن الرئيس جمال عبد الناصر ومشروعه

نصر شمالي

- في هذا الليل الطويل البهيم عادت بي الذاكرة إلى يوم ٩- ٦- ١٩٦٧، والرئيس عبد الناصر يخرج على الناس معلناً استقالته وتحمله مسؤولية الهزيمة بالكامل كما قال!
والآن، في هذه اللحظة، أحسست بقشعريرة وقد خطر ببالي، ولأول مرة، أن من كان ينبغي أن يقدم استقالته ويعلن تحمله لمسؤولية الهزيمة هو قائد الجيش، المشير عبدالحكيم عامر، لكنه ليس لم يفعل وحسب بل بدا كأنما هو غير معني بما حدث وبما يحدث!
والسؤال الذي لم يخطر في بالنا عموماً، وَيَا للعجب، هو: ألم يكن عبد الناصر باستقالته تلك يعبر عن عدم مسؤوليته المباشرة أكثر مما كان يعبر عن مسؤوليته المباشرة؟ ألم تكن استقالته تلك تعني أنه لم تكن له سلطة حقيقية على الجيش المصري ولا على توابعه الأمنية، ليس في كارثة ١٩٦٧ فقط بل في كارثة ١٩٥٦ وكارثة انهيار الوحدة المصرية السورية، وكارثة حرب اليمن، وغيرها؟
ولو لم يقدم عبد الناصر استقالته يوم ٩- ٦- ١٩٦٧ بتلك الطريقة التي استنفرت الأمة من أقصاها إلى أقصاها لصالحه أما كان ممكناً أن تضعه قيادة الجيش المهزومة في السجن، أو في ما يشبه السجن، وتستولي على مقاليد البلاد جميعها، مع أن تلك المقاليد كانت دائماً تحت تصرفها في معظمها؟
في تلك الأيام، أيام الهزيمة، قال الرئيس جمال عبد الناصر للرئيس نور الدين الأتاسي أن كتيبة عسكرية جزائرية تقوم بمهمة حماية مقر الرئاسة الذي كان يتواجد فيه! فممن كانت تحميه؟ ولماذا كانت كتيبة جزائرية ولم تكن كتيبة مصرية؟ وبعد ذلك رأينا الرئيس عبد الناصر محمياً بشعبه الذي جعله يسحب الاستقالة وحفظ له مكانته من أن يتطاول عليها أحد، ورأينا المشير عامر محمياً بقيادة الجيش التي أبقته في مركزه، ولو إلى حين، حيث لم يخرج منه في ما بعد إلا ميتآ!
والآن، بعد هذه الخاطرة، أليس من الضروري إعادة النظر في رؤيتنا لمكانة الرئيس عبد الناصر في السلطة طيلة عهده وحتى نهاية المشير؟ هل كان عبد الناصر مطلق اليد والصلاحية في سلطاته كرئيس دولة كما كانت المظاهر توحي، أم أننا كنا نتوهم ذلك؟
واستطراداً أقول أن عبد الناصر في تميزه المأساوي كان ثورياً، مصرياً، عربياً، مسلماً، أفريقياً، أممياً..
لقد كان ثورياً يتطلع إلى التغيير الإيجابي الشامل والعميق، بغض النظر عن مهنته العسكرية التي كانت ثانوية في مكونات شخصيته، لكن القوة الانقلابية التي حملته إلى السلطة وشاركته فيها لم تكن كذلك، بل كانت في معظمها معوقة إن لم تكن معادية للثورة بمعانيها الحقيقية المعروفة..
وهو كان مصرياً يعرف جيداً الوضع المصري، حيث الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب مسحوقة بالفقر والجهل ولا علاقة تستحق الذكر بينها وبين نخبها، وهي النخب الموزعة بين الشرق والغرب وورثة الدين، فكانت أغلبية شعبية مصرية سلبية، إلا بعواطفها الطيبة وذكائها الفطري..
وكان عربياً يعرف أن لا نهوض لمصر إلا بأمتها العربية، لكن الأمة العربية ممزقة شر تمزيق يحكم المستعمرون بطريقة مباشرة دويلاتها المصطنعة، أو يحكمونها بطريقة غير مباشرة بأنظمة تابعة لهم..
وكان مسلماً يعرف جيداً استحالة الفصل بين العروبة والإسلام، لكن الإسلام في البلاد العربية كان (ولا يزال) مجيرآ لصالح دول النفط وتجار الدين حكاماً وحركات سياسية واجتماعية، وفرقاً دينية..
وهو كان أفريقياً، وأوضاع أفريقيا الرهيبة ليست بحاجة للشرح، وقد استبشر الأفارقة عموماً بظهوره، حيث أفريقيا مهيأة بكاملها كي تكون عمقاً عربياً بقيادة القاهرة، لكن أفريقيا كانت تحتاج للأخذ بيدها في جميع الميادين..
ولقد كان أممياً يعرف أوضاع العالم جيداً، لكن العالم كان (ولا يزال) عالماً رأسمالياً ربوياً صهيونياً، وقادته لا يسمحون لأحد بالحركة خارج مخططاتهم وترتيباتهم..
وهكذا، فقد كانت مأساة عبد الناصر في تميزه الذي جعله يدخل قلوب البسطاء من دون استئذان من جهة، وجعله غريباً بين الأوساط العليا الحاكمة وغير الحاكمة، في بلده مصر وفي أمته العربية وفي النظام العالمي الفاسد السائد عموماً..
وكان طبيعياً والحال كذلك أن تقع الأخطاء والانحرافات والارتكابات الكثيرة، وأن تحسب جميعها على عهده، بينما هو يحاول تلافي النواقص بتكوين قواه الثورية المفتقدة، وذلك بتكوينها في المعارك الحربية التي لا تنهض القوى الثورية إلا في ميادينها، والاضطرار لخوض المعارك الحربية الدفاعية التي لا يمكن أن تكون مظفرة إلا إذا قادتها قوى ثورية!
وتلك كانت كما ببدو المعادلة التي سعى عبد الناصر إلى تحقيقها في حرب الاستنزاف خاصة،والتي كادت تؤتي أكلها لولا أن وافته المنية، رحمه الله.