كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

قضايا سياسية

نصر شمالي

في العام 1946 كان الضابط صلاح الدين البزري في منصب أمين سر مجلس الدفاع السوري وعضو اللجنة العليا لاستلام الجيش السوري من الفرنسيين.. وقد حدثني رحمه الله في الثمانينيات (في مكتبي الخاص بدمشق وقد كان من رواده) عن بعض أسرار مفاوضات الجلاء عن سورية فقال: "قبل جلاء الجيوش الأجنبية (الفرنسية والإنجليزية) عن سورية كان همّ القيادة الإنجليزية الثابت هو إقناع الحكومة السورية بعدم حاجتها للجيش وأن كل ما تحتاج إليه هو لواء محمول من قوات البادية لمساندة قوى الأمن في الحضر وفي البادية! ولست أنسى ما حييت البريغادير ريني قائد الحامية الإنجليزية لدمشق، الذي كان يحضر جلسات مجلس الدفاع (السوري) ويدافع في كل جلسة عن فكرة حياد سورية (المستقلة) وعن عدم حاجتها للجيش!
وعندما بدأ الجلاء عرض الفرنسيون بيعنا ما نشاء من أسلحة خفيفة وثقيلة موجودة في مستودعاتهم نكاية بالإنجليز الذين عملوا على هدم وجود الفرنسيين ونفوذهم في سورية!
وفي العام ١٩٤٦، أي في عام المفاوضات هذه، جرى تعيين أحمد الشراباتي وزيرآ للدفاع (بتزكية من الأميركيين) واستمر في منصبه هذا حتى العام ١٩٤٨، وقد أصدر الشراباتي، في أيار/مايو من عام النكبة هذا، قراراً يقضي بتسريح عشرة بالمائة من الجيش السوري الذي كان حينئذ يتأهب لدخول معركة فلسطين بعد أسبوع"!
----------
دمشق - مكرر - عن كتابي "مصيرنا هو مصير فلسطين"، الصادر عام ١٩٩٤
******
- في عام جلاء القوات الفرنسية عن سورية (١٩٤٦) وبعده، وفي غير سورية أيضا، كانت توجد في البلاد العربية أوساط سياسية تشارك في الحكم في ظل الاحتلال الأجنبي وبالتعاون مع المحتل الأجنبي، ولم يكن ذلك ينال من صفتها الوطنية بل كان يعتبر عادياً وطبيعياً بمعايير ذلك الزمان! وكانت تلك الأوساط السياسية قد سلمت بتقسيمات سايكس بيكو، ولذلك، فإن المحتل الأجنبي الفرنسي أو الإنجليزي لم يكن يمانع في التعاون معها في إدارة البلاد، وهو ما حدث فعلا..
وقد انحصرت المشكلة في الاحتلال الأجنبي المباشر وليس في التعاون (المرغوب) مع الحكومات الأجنبية بعد الجلاء!
لقد كان هناك ما يمكن أن نصفه بأنه "واقعية سياسية وطنية" تبنتها معظم الأوساط السياسية في سورية وفي غيرها!
وقد حدثني (في الثمانينيات) العميد صلاح الدين البزري عن ذلك فقال أنه سأل الرئيس شكري القوتلي، في العام ١٩٤٨ بعد الجلاء، عن سبب تعيين أحمد الشراباتي وزيراً للدفاع بعد الجلاء مباشرة (وهو غير أهل للثقة) فأجابه الرئيس القوتلي أنها رغبة الأميركيين فهم من رشحه وزكاه، وأنه يضطر لتلبية بعض طلبات الأميركيين والإنجليز والفرنسيين اتقاءً لشرورهم من جهة وطمعاً في معوناتهم لبناء الدولة السورية الوليدة (المستقلة) من جهة أخرى!..
واليوم، لا يجوز إهمال هذه الحقائق عندما نستعرض تاريخ سورية وغيرها قبل "الاستقلالات" وبعدها! وعندما نسمع اليوم من يؤكدون على "الهوية السورية السايكسبيكوية فقط" فمن المفترض أن نتذكر أن هؤلاء هم استمرار لسياسة "الواقعية السياسية الوطنية" التي كانت سائدة قبل الجلاء وبعده، والتي كانت وما زالت تسلم بتقسيمات سايكس بيكو، ولا ترى ضيراً في التعامل مع مستر سايكس ومسيو بيكو، وأمثالهما القدامى والجدد!
*******
منذ العام 1989 تشكل حلف حربي عسكري دولي، شريك ورديف لحلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي تقوده واشنطن، فهو أشبه بما يسمى"شريكاً مضارباً" يعمل لصالح حلف الناتو وفي مشاريعه من دون دخوله والانخراط في صفوفه، أي من دون أن يكون عضوا أصيلا فيه! وقد انخرطت في هذا الحلف الشريك للناتو من خارجه 18 دولة منها 7 دول عربية هي: مصر والأردن والمغرب وتونس والكويت والبحرين وقطر.. ومعها "إسرائيل"! وكذلك دولتان مسلمتان هما: باكستان وأفغانستان!
وانخرطت فيه 9 دول أخرى من مختلف أنحاء العالم أبرزها اليابان والفيلبين وأستراليا والبرازيل والأرجنتين!
وحلف شمال الأطلسي/الناتو تأسس كما هو معروف في العام 1949 بذريعة الدفاع عن أية دولة عضو فيه تتعرض لخطر عدوان خارجي، أما الهدف الحقيقي من إقامته فكان إحكام سيطرة واشنطن على العالم كله.. وأما خطر الاتحاد السوفييتي فقد كان أيضا مجرد ذريعة، حيث عرض القادة السوفييت حينئذ انضمامهم إلى حلف الناتو بعد تشكيله ورفض طلبهم، واضطروا إلى تشكيل حلف وارسو في العام 1955 لمواجهة تهديدات الناتو لهم، وهي التهديدات التي استنزفتهم سياسيا وماديا على مدى عقود حتى سقطوا..
وحلف وارسو هو الحلف الذي انتهى بنهاية الاتحاد السوفييتي، وقد انضم بعض أعضائه إلى حلف الناتو الذي استمر رغم زوال مبرر وجوده المزعوم وهو وجود الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو!
وجدير بالذكر أن الرئيس الروسي بوتين عرض انضمام روسيا الاتحادية إلى حلف الناتو في عهد الرئيس الأميركي بيل كلينتون، ورفض طلبه! لماذا؟ لأن المطلوب هو بقاء روسيا "كعدو" حتى لو سعت مخلصة إلى صداقة واشنطن، وذلك كي يبرروا بالتلفيق استمرار حلفهم الأطلسي، واستمرار عملياتهم الحربية المفتوحة ضد الأمم عموما، بما فيها أمم الشركاء المضاربين!