كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الأحزاب السياسية وبرامجها الاجتماعية في بلاد الشام آواخر العهد العثماني

د. عبد الله حنا- فينكس

انتعشت حركة التحرر الوطني والقومي في بلاد الشام بعد ثورة الاتحاديين سنة /1908/ ضد السلطان عبد الحميد. وكان الطابع البارز للتجمعات الوطنية، التي ظهرت بين قيام الثورة الاتحادية (1908) والحرب العالمية الأولى (1914) مثل: العهد، والمنتدى الأدبي، حزب اللامركزية الإدارية العثمانية، وجمعية العربية الفتاة، والحركات الإصلاحية في بيروت ودمشق وغيرها، هو فقدان وحدة الرأي حول الموقف من الحكومة التركية المركزية والتغلغل الاستعماري، وقد كان اختلاف الرأي هذا سائدا ليس بين منظمة وأخرى فحسب، بل في قلب كل منظمة. حيث اختلف آراء أعضائها ووجهات نظرهم. ويرجع السبب الجوهري لاختلاف الرأي بين الوطنيين في ذلك العصر، إلى العوامل التالية:
1 – وجود فئات اجتماعية مختلفة لها مصالح اقتصادية اجتماعية متضاربة داخل هذه المنظمات.
2 – طفولة الحركة الوطنية والقومية التي كانت قبل الحرب العالمية الأولى لا تزال تمر في مرحلة التكوّن ولم تكن الأفكار الوطنية والقومية قد بلغت مرحلة النضج.
3 – استغلال الحكم التركي والاستعمار للطائفية والعشائرية والنزعات المحلية ومحاولة شق الحركة عن هذا الطريق.
كانت الحركة الوطنية والقومية قبل الحرب الأولى حركة برجوازية النزعة، بالرغم من مشاركة قسم من الاقطاعية الليبرالية المتحررة. فهي، أي الحركة الوطنية، حركة برجوازية متشابكة مع بعض التيارات الاقطاعية. وأكبر دليل على ذلك هو ارتفاع نسبة عدد الأعضاء البرجوازيين. والمطالب التي طرحتها الحركة. وكون المثقفين البرجوازيين والتجار القوة الدافعة والمحركة للعمل الوطني والقومي. ولم يؤلف العمال آنذاك قوة حاسمة في النضال رغم بدء تحرك تجمعاتها الجنينية، في حين دعم الحرفيون بقوة الحركة الوطنية دون أن يساهموا في قيادتها أو في نشاطها اليومي، وقد أدرك الجناح الراديكالي البرجوازي داخل الحركة الوطنية والقومية، أهمية العمال والحرفيين الذين الفوا حوالي /10%/ من السكان، (28) ووقف إلى جانبهم ضد الشركات الأجنبية كما حاول هذا الجناح أن يتخذ موقف المصالحة بين العمال والمالكين لأدوات الانتاج الصناعية والحرفية من أجل مجابهة العدو الأساسي، الحكم الاقطاعي التركي(29). أنظر كتابنا "الحركة العمالية في سورية ولبنان 1900 – 1945".
في ظروف انتعاش الحركة الوطنية العربية بعد ثورة الأتراك الاتحاديين والقضاء على الاستبداد الحميدي، ظهرت الأحزاب والتجمعات السياسية كثمرة أساسية من ثمار حركة النهضة العربية التي بدأت في منتصف القرن التاسع عشر، من جهة، وكصدى من أصداء التيارات العمالية التي غزت الدولة العثمانية وولاياتها من جهة أخرى. وكانت أهم الأحزاب والتجمعات السياسية التي ظهرت على مسرح السياسة في الفترة الواقعة بين عامي 1908 و 1914 هي التالية:
جمعية الآخاء العربي العثماني:
كانت جمعية الآخاء العربي العثماني (30) أول منظمة سياسية عربية بعد اعلان الدستور، اسست في استنبول /1908/ من كبار الموظفين السوريين وبعض كبار الملاك. حددت المادة الأولى من قانون هذه الجمعية أهدافها بـ... السعي لاعلاء شأن الأمة العربية واتخاذ جميع الوسائط والتدابير والإرشادات اللازمة لتأسيس معامل وشركات زراعية وصناعية وتجارية.. ويبدو واضحا من هذه المادة اهتمام القائمين على هذه الجمعية بتأسيس المعامل والشركات المعامل والشركات ووضع البذور الأولى للتطور الرأسمالي.
استطاع قادة هذه الجمعية أن يكسبوا في البدء الطلاب العرب في استانبول إلى جانبهم ولكن الطلاب، الذين رفعوا شعارات وطنية راديكالية انفصلوا عن هذه الجمعية لأن قادتها لم يسعوا – كما ذكر أمين السعيد – إلا إلى تحقيق مصالحهم الشخصية وعلى رأسها اعتلاء المناصب الرفيعة في دوائر الدولة.
أما الأتراك الاتحاديون، الذين أعلنوا في البدء تأييدهم لجمعية الآخاء وحضروا حفل افتتاحها بأمل الاستفادة منها لتدعيم قوتهم، فقد اغتنموا فرصة انعزال هذه الجمعية عن الطلبة العرب المقيمين في استنبول وقاموا عام /1910/ بحلها. ودل هذا على أن الاتحاديين كانوا يضيقون ذرعا بكل نشاط غير تركي مهما كان معتدلا، كما حاولوا القضاء على كل صوت ارتفع مناديا ببعض الاصلاحات مهما كانت هذه المطالب معتدلة كما هو الحال في جمعية الآخاء.
المنتدى الأدبي:
اضطرت الظروف الداخلية والخارجية الحكومة المركزية، حكومة حزب الاتحاد والترقي، للسماح عام /1909/ بتأسيس المنتدى الأدبي. ومع أن عددا من النواب العرب في مجلس المبعوثان وبعض الكتاب والأدباء العرب دخلوا في المنتدى الأدبي، إلا أن القوة الرئيسية في المنتدى تكونت من الطلاب العرب الذين يدرسون في استنبول(31). وكان هؤلاء الطلاب الممتلئون حماسا واندفاعا والمتأثرون بالأفكار القومية البرجوازية الأوروبية، العناصر القائدة في المنتدى الأدبي(32). لقد كانت شخصيات أبطال الوحدة الإيطالية مثل كافور وغاريبالدي النجم الهادي والنموذج المحتذى لأعضاء المنتدى الأدبي الذي طمحوا إلى تحقيق وحدة عربية وفق النموذج الايطالي أو الألماني(33).
لقد زاول المنتدى الأدبي نشاطه السياسي تحت شعار الدعوة لاستقلال آسيا العربية من وراء أقنعة النشاط الأدبي والفني. وعلى الرغم من انتشار فروع المنتدى الأدبي في كثير من المدن السورية والعراقية، فإن نشاطه السياسي والفعال تمركز في استنبول. وفي الوقت نفسه قام قادة المنتدى بعقد الصلات الوثيقة مع كثير من المنظمات السياسية والشخصيات السورية المعروفة في سورية ومصر.
تصدرت أقوال أمين الريحاني وعبد الحميد الزهراوي وأفلاطون وسنكاونيتشه والامام الشافعي والامام علي صفحات مجلة المنتدى الأدبي (34). ولا حاجة إلى القول: ان ايراد أقوال هؤلاء المفكرين دليل على اتجاه مجلة المنتدى الأدبي وتبنيها أفكار هؤلاء أو بعضا منها.
أما البرنامج السياسي للمنتدى الأدبي فقد لخصه رئيسه عبد الكريم الخليل في افتتاحية مجلة المنتدى الأدبي بما يلي: (35).
أولا – احياء الجامعة العربية وبث روح التعارف واحياء عاطفة الآخاء والتعاضد بني أفرادها وجماعاتها بلا تفريق في الدين والمذهب بحيث يكون الوطن العربي للعرب جميعا.
ثانيا – حث الناشئة على أن يكون كل منهم متمسكا بصحيح دينه غير منكر على غيره ذلك ممن خالفه في الدين والمذهب.
ثالثا – السعي في تعيين أصح وأقوى وأقوم قواعد التربية والتعليم القائمة على أساس العلم الصحيح.
رابعا – ارشاد الزراع وحثهم على استعمال الآلات الزراعية الحديثة والاستفادة من المكتشفات العلمية والتجارب الفنية وتأسيس النقابات الزراعية.
خامسا – ترغيب المواطنين في استعمال المصنوعات الوطنية وحماية الصناعة المحلية وتأليف النقابات الصناعية.
سادسا – الأخذ بيد العمال وتنوير أذهانهم وارشادهم إلى ما في صحتهم وحثهم على تأليف نقابات من أنفسهم.
يبدو واضحا من هذا البرنامج أن قادة المنتدى الأدبي لم يفكروا بتوزيع الأراضي على الفلاحين حتى أنهم تجنبوا كلمة "فلاحين" واستخدموا كلمة "الزراع" المطاطة التي تشمل الفلاحين والمالكين في آن واحد. والمادة الرابعة من هذا البرنامج تدل بوضوح على تطلع قادة الحركة الوطنية أنذاك في إدخال الرأسمالية إلى الزراعة. وهذا الاتجاه سيبقى محور تفكير عدد كبير من الوطنيين في سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى.
أن الحالة النفسية السائدة بين الشعراء العرب القوميين قبل الحرب العالمية الأولى والوضع الذي عاشه العرب مضطهدين من الغير تبدو واضحة على صفحات مجلة "المنتدى الأدبي" فالتذكير بالماضي التليد والحنين إلى استعادة الأمجاد السالفة واثارة المشاعر القومية نجدها واضحة جلية في الانتاج الأدبي لمجلة المنتدى الأدبي الصادرة قبل الحرب العالمية الأولى (36).
ولكن "المنتدى الأدبي" لم يستطع المحافظة على وحدته. ففي عام /1912/ حدث خلاف في قلب المنتدى الأدبي بسبب الموقف من الأتراك الاتحاديين القابضين على زمام السلطة، والذين استطاعوا أن يستميلوا بعض أعضاء المنتدى بمختلف الوسائل والحيل والمغربات. ومما يسترعي الانتباه أن أعضاء المنتدى الأدبي الذين تحدروا من أصل برجوازي (تجاري) كانوا على الغالب ضد سياسة المساومة مع الأتراك الاتحاديين، بينما مال الأعضاء من ذوي المنشأ الاقطاعي إلى سياسة التفاهم والمصالحة. أن الدافع الرئيسي لموقفهم هذا يعود في الأصل إلى موقف الطبقة الاقطاعية العربية في سورية، ذلك الموقف المؤيد للحكم التركي والسائر في ركابه. علاوة على ذلك فإن الأعضاء الذين مالوا للمصالحة والعمل مع الحكومة المركزية الاتحادية حلموا – كما يذكر أمين السعيد – بتقلد المناصب الرفيعة في الدولة العثمانية (37).
أما الأتراك الاتحاديون فإنهم أيدوا، بل سعوا لخلق هذا التيار المسالم للحكم التركي من أجل أن يستطيعوا شق القوى الوطنية العربية وضربها من الداخل أو الخارج. وعلى الرغم من تصدع المنتدى الأدبي فقد بقي على قيد الحياة حتى آذار /1915/ عندما أغلق الأتراك الاتحاديون المنتدى الأدبي وقلبوا للعرب ظهر المجن واتخذوا في ربيع /1915/ موقف العداء السافر للحركة العربية بجميع أجنحتها المعتدلة والمتطرفة.
الجمعية القحطانية وجمعية العهد:
في نهاية عام / 1909 / أسست الجمعية القحطانية السرية من بعض الضباط العرب في الجيش العثماني ومن بعض أفراد العائلات الاقطاعية المعروفة ذات الطابع الاقطاعي. هدفت هذه الجمعية إلى تحويل الدولة العثمانية إلى مملكة ذات تاجين، تؤلف الولايات العربية فيها مملكة واحدة لها برلمان وحكومتها المحلية وتكون اللغة العربية لغتها الرسمية. وان تكون هذه المملكة جزءا من امبراطورية تركية – عربية على غرار مملكة النمسا والمجر (38). وبعد عدة سنوات اضطرت الجمعية القحطانية إلى تغيير اسمها امعانا في السرية واطلقت على نفسها في سنة / 1913 / اسم جمعية العهد التي اقتصرت عضويتها على العسكريين دون المدنيين. وهؤلاء العسكريون كانوا على الغالب من القطر العراقي بسبب كثرة العراقيين في الجيش العثماني(39).
احتوى برنامج العهد على أربع نقاط رئيسية:
1 – قيام اتحاد تركي – عربي يشبه الاتحاد القائم في دولة النمسا والمجر، وتحقيق الاستقلال الداخلي للولايات العربية ضمن هذا الاتحاد.
2 – الموافقة على بقاء الخلافة في العائلة العثمانية.
3 – الموافقة على بقاء استنبول رأس الشرق.
4 – لقد أقام الأتراك خلال ستمئة سنة خط الدفاع الأول عن الشرق ضد الغرب، وعلى العرب أن يكونوا قوة احتياطية مستعدة دائما لمساعدة خط الدفاع هذا.
عكس البند الرابع من هذا البرنامج المحتوى المعادي للاستعمار لدى جمعية العهد، ودل على طموح العهد في رفع العرب إلى المقام الأول في الدولة العثمانية. كما حلم رجال العهد – تحت ستار قيام خط الدفاع الثاني ضد الغرب إلى انشاء دولة عربية ذات استقلال داخلي. وعلى العموم فإن رجال العهد اهتموا في "القضايا القومية" وأهملوا القضايا الاجتماعية.
جمعية العربية الفتاة:
لم تأخذ المطالب المنشورة والمعلنة للوطنيين العرب السوريين المقيمين في الدولة العثمانية أي طابع صريح معاد للأتراك بشكل واضح المعالم. ولكن الحركة الوطنية والقومية العربية لم تعدم من يفصح عن استراتيجيتها الحقة في الدعوة للانفصال عن الدولة العثمانية وإقامة دولة مستقلة. وتجلى ذلك بوضوح في تأسيس جمعية العربية الفتاة عام /1911/ في مدينة باريس من عدد من الطلاب السوريين المتحدرين من عائلات معروفة ذات وجاهة ومكانة في المدينة والريف. ويمكن القول أن الطابع القومي العربي لمؤسسي الفتاة كان واضحا وجليا ومتأثرا بالبيئة الاجتماعية التي نبت فيها المؤسسون وبالثقافة القومية البورجوازية في النصف الأول من القرن التاسع عشر أي قبل أن تستغل الاحتكارات الرأسمالية الامبريالية مشاعر الناس القومية من أجل السيطرة والاستعمار بعد أن تحولت الرأسمالية إلى امبريالية تستولي على البلدان الأخرى الضعيفة وتستثمرها باسم الأمة جمعاء. نقول أن تأثر مؤسسي الفتاة بالأفكار القومية جرى قبل مرحلة تحول الرأسمالية إلى امبريالية وفق مفاهيم ذلك العصر. وبرز في هذا الميدان أحد مؤسسي الفتاة خريج كلية الحقوق في باريس عبد الغني العريسي، الذي أصدر عدة صحف في بيروت سرعان ما كانت تمنع من قبل السلطات التركية التي شعرت بخطر الأفكار التي نادى بها العريسي عضو جمعية الفتاة.
قاومت السلطات التركية في بيروت ودمشق نشاط العريسي الصحفي المعبر عن رأي جمعية الفتاة السرية. وعلى الرغم من تأكيد العريسي على شعار "اننا عرب عثمانيون" (45) فإن الحكم التركي في سورية لم يكن مرتاح البال لهذا النشاط الجديد في شكله ومحتواه. ولا يخفى أن رفع العريسي وبالتالي جمعية الفتاة لشعار: "اننا عرب عثمانيون" يتضمن هدفين احدهما: استراتيجي والآخر تاكتيكي.. فالقسم الأول من الشعار: "اننا عرب" تضمن هدفا استراتيجيا والقسم الثاني "اننا عثمانيون" تضمن هدفا تاكتيكيا رمى إلى تحاشي بطش السلطة المركزية في استنبول ودفع تهمة الانفصال عن جسم الدولة العثمانية وتجنب عداء المخدوعين بشعارات خلافة آل عثمان.
تميزت "العربية الفتاة" عن غيرها من الجمعيات السياسية العربية بوضوح اتجاهها القومي العربي ودفاعها عنه والدعوة له بحمية وحماسة. فتحت عنوان "باسم العرب نحيا وباسم العرب نموت" كتب عبد الغني العريسي سنة /1913/ افتتاحية في جريدته "لسان العرب" جاء فيها (46): "ان العواطف القومية مجار حيوية في الشعوب لا تستنزف إلا باستئصال الشعوب. فنحن عرب عثمانيون مهما حاول الغلاة الاتحاديون نقض هذه الجنسية لأننا خلقنا عربا بالرغم من أنفسنا". ويبدو رأي العريسي ازاء القضية القومية واضحا أيضا من رسالته التي كتبها بعد هربه من جحيم ارهاب جمال باشا إلى الصحراء، وذلك قبل اعتقاله في السنة الثانية للحرب العالمية الأولى. جاء في الرسالة (47): "يا بني يعرب ويا سلالة قحطان... الذين دوخوا العالم" وهنا يبدو جليا اعتزاز العريسي بقوميته واستعداده للتضحية في سبيلها بكل غال ونفيس إذ يقول: "ولست بالفدائي الأول الذي يموت اليوم في سبيل القومية العربية".
انطلاقا من العمل لاستقلال الولايات العربية العثمانية أيد رجال الفتاة تكتيكيا – مثل غيرهم من رجال الحركة الوطنية العرب – حزب "الحرية والائتلاف" المنادي بمبدأ اللامركزية وحاولوا عن هذا الطريق الترويج لمبدأ "احترام السمات الوطنية للشعوب الأخرى غير التركية". وكما ذكرنا قبل قليل فقد كان أعضاء "العربية الفتاة" أكثر المتحمسين لمبادئ القومية العربية وأكثر تحسسا بالمشاعر القومية من غيرهم من الوطنيين العرب الذين تشابكت عندهم مفاهيم "الاسلامية" و"العثمانية" و"القومية".
قبل الحرب العالمية الأولى كتب العريسي مبرهنا على وجود أمة عربية واحدة كما يلي:
يرى الاتجاه الألماني في وحدة اللغة والعرق الشرط الأساسي الضروري لتكون الأمة. أما المدرسة الإيطالية فتضع وحدة التاريخ والتقاليد في المكان الأول لتكون الأمة، بينما ترى المدرسة الافرنسية في وحدة المطامح السياسية احدى السمات الهامة لبناء الأمة. ويقول العريسي أن جميع هذه الصفات والشروط، التي وضعتها هذه المدارس متوافرة بلا استثناء في العرب (50).
طرأ على تركيب "العربية الفتاة" ذات الأيديولوجية البرجوازية تغيير جزئي لصالح القوى الاقطاعية الليبرالية، التي دخلت في الفتاة وحاولت توجيه هذه الجمعية وفق مصالحها وأهوائها. وأن المتتبع لتطور الفتاة، التي لعبت، فترة طويلة من الزمن بعد الحرب العالمية الأولى، دورا أساسيا في الحياة السياسية في سورية وغيرها من الأقطار العربية الآسيوية، يلاحظ الصراع المحتدم بين التيارين البرجوازي والإقطاعي داخل صفوف "الفتاة" ومع أن هذا الصراع لم يكن واضح المعالم في بعض الأحيان كما صعبت رؤيته بالعين المجردة أحيانا أخرى، إلا أن وجوده يبدو واضحا للمؤرخ النافذ البصيرة الذي يدرس ما يكمن تحت السطح دون أن تغشه أو تشغله الأحداث الجانبية أو السطحية التي تحدث ضجيجا يظنه المرء من جوهر الأحداث التاريخية بينما هو في الواقع مظهر للصراع الرئيسي وثمرة لتطور الحياة الاجتماعية وتداخلها وتشابكها.
بعد اندلاع الحرب العالمية الاستعمارية الأولى أقامت جمعية العربية الفتاة علاقات حسنة مع أمير مكة الشريف حسين بهدف التهيئة للثورة العربية المعادية للحكم التركي. وعندما توجه الأمير فيصل بن الشريف حسين إلى دمشق في بداية الحرب سرعان ما انضم إلى جمعية العربية الفتاة وأصبح من أعضائها البارزين(51). كان دخول الأمير فيصل الممثل لأرستقراطية الحجاز في العربية الفتاة وكذلك تبني عائلة البكري الدمشقية الاقطاعية ذات الميول الليبرالية لجمعية الفتاة نقطة تحول في تركيب بنية الفتاة. ومع أن دخول هذه العناصر الاقطاعية الليبرالية في الفتاة أكسبها منعة وقوة ومهد الطريق لقيام الثورة العربية في الحجاز سنة /1916/ المعادية للحكم التركي، إلا أن دخول هذه العناصر الاقطاعية في جسم "جمعية العربية الفتاة" كان عنصر ضعف، اذ أفسح المجال رحبا للمساومات وأضعف من تأثير العنصر البرجوازي، الذي تميز في ذلك الحين بتقدميته وثوريته واندفاعه وتمثيله للقوى الاجتماعية الأكثر تقدمية من أجل تطوير المجتمع والقضاء على النظام الاقطاعي، نظام العصور الوسطى. كما أن دخول العناصر الاقطاعية أسهم في تشعب الآراء داخل الجمعية في وقت كانت أحوج ما تكون فيه إلى وضوح الهدف والرؤيا أيام المعارك الحاسمة على أعتاب ميسلون (52).
حزب اللامركزية الادارية العثماني:
كانت مصر المركز الثالث – بعد استنبول وباريس – للحركة الوطنية القومية العربية قبل الحرب العالمية الأولى. لقد أم أرض الكنانة عدد كبير من السياسيين والمفكرين الفارين من الارهاب والجمود الفكري المحافظ، كما عاش فيها عدد كبير من السوريين واللبنانيين العاملين في التجارة والصحافة وغيرها من الأعمال الاقتصادية والفكرية. ومع أن القطر المصري وقع منذ سنة /1882/ في قبضة الاستعمار الانكليزي، إلا أن الوطنيين العرب من بلاد الشام استطاعوا ممارسة نشاطهم المعادي للحكم التركي في بلاد الشام دون ازعاج أو مضايقة تذكر من قبل السلطات البريطانية صاحبة الأمر والنهي في مصر آنذاك.
فما سبب افساح السلطات البريطانية مجال العمل أمام الوطنيين السورين في مصر؟ يكمن سبب ذلك في رغبة السلطات البريطانية في مصر في كسب ود الحركة الوطنية العربية وتوثيق الصلات معها لكي يسهل عليها تحقيق أغراضها ومطامعها في البلدان العربية، ولكي تتمكن فوق ذلك من مجابهة حكومة الاتحاديين الأتراك الموالية لألمانية القيصرية المنافس الاستعماري الرئيسي لبريطانيا قبل الحرب العالمية الأولى. وهذا ما يفسر موقف الوطنيين المصريين العدائي أزاء الحركة الوطنية السورية، ونظرة الوطنيين المصريين إلى أشقائهم السوريين نظرة مملوءة بالريب والحذر.
ومما لا شك فيه أن ظروف نضال كل من الحركتين العربيتين المصرية والسورية كانت مختلفة قبل الحرب العالمية الأولى.
فالحركة الوطنية المصرية ناضلت ضد المحلتين البريطانيين وسعت لطردهم من مصر بمختلف الوسائل والسبل. وقد رأى قادة الحركة الوطنية المصرية من أمثال مصطفى كامل ومحمد فريد أن خير وسيلة لمقاومة الاحتلال الأجنبي البريطاني وحشد طاقات الشعب للنضال ضده، هو في الدعوة إلى الخلافة العثمانية والمطالبة بوضع مصر مرة ثانية ضمن دائرة الدولة العثمانية. ولم تكن هذه السياسة هدفا استراتيجيا للحركة الوطنية المصرية بل كانت تكتيكا بارعا للنضال ضد الاحتلال الانكليزي.
أما وضع الحركة الوطنية السورية فكان مختلفا تماما. فقد خضعت بلاد الشام لنير الحكم الاقطاعي العثماني المباشر، ولم يكن هنالك احتلال أوروبي استعماري لسورية، كما هو الحال في مصر. وهذا مما اضطر الوطنيين السوريين إلى مهادنة الحكم الانكليزي في مصر والسودان والحكم الافرنسي في المغرب العربي. لكي يتمكنوا من صب كل طاقاتهم ضد الاحتلال الاقطاعي التركي المباشر.
وهذا يعني أن علينا الا نطلق الأحكام العامة المجردة البعيدة عن واقع الحياة ونصل إلى الاستنتاج القائل: ان الحركة الوطنية العربية السورية سارت وفق أهواء ومصالح الاستعماريين الافرنسي والانكليزي. فالحركة الوطنية العربية كانت مضطرة للبحث عن حلفائها للنضال ضد الاحتلال التركي وحليفه الاستعمار الألماني. وهكذا فإن ظروف نضال الحركة العربية في بلاد الشام واستراتيجيتها وتاكتيكها وتعدد أجنحتها جعلت عملية التحرر العربي معقدة جدا ولا يمكن فهمها إلا بمعرفة نسبة القوى الاجتماعية الداخلية في البلاد العربية، وكذلك اتجاهات ضربات القوى الامبريالية المتصارعة، التي أشعلت نيران الحرب العالمية الأولى من أجل إعادة تقسيم مناطق النفوذ بين الدول الاستعمارية من جديد.
بعد ثورة 1908 ازداد بأس الاتجاهات الداعية إلى اللامركزية داخل الدولة العثمانية المتعددة القوميات. ومع أن الدعوة إلى اللامركزية في الولايات العربية (العثمانية) كانت ثمرة منطقية للتطور الداخلي في الدولة العثمانية، إلا أن العوامل الخارجية مثل الحرب الطرابلسية سنة 1911 واعتداء ايطاليا على طرابلس وحرب البلقان سنة 1921 وما أدت إليه من انفصال مقاطعات متعددة عن جسم الدولة العثمانية أسهمت في تصاعد موجة المطالبة بالإدارة اللامركزية.
كان حزب اللامركزية الادارية العثماني المؤسس في القاهرة سنة 1912، والذي فتح فروعا مختلفة له في عدد من المدن والاقنية في سورية والعراق، ثمرة التفاعلات الداخلية والعوامل الخارجية. فقد تألف (حزب اللامركزية) من التجار السوريين بشكل قوي من ملاك الأراضي الليبراليين (53).
لقد عكس برنامج حزب اللامركزية (54) طموح التجار السوريين والاقطاعيين الليبراليين في الحصول على الاستقلال الذاتي الاقتصادي والسياسي. فالمادة الأولى من البرنامج طالبت بان تكون (الدولة العلية العثمانية دولة دستورية نيابية. وكل ولاية من ولاياتها تعد جزءا من السلطنة لا ينفك عنها بحال من الأحوال، وانما تبنى ادارة هذه الولايات على أساس اللامركزية الادارية والسلطان الأعظم هو الذي يعين الوالي وقاضي القضاة).
وتبدو رغبة جماعة (اللامركزية) في الحكم الذاتي من خلال دعوتهم في المادة الرابعة إلى مراقبة سلطة الوالي عن طريق عدد من المجالس المحلية مثل: المجلس العمومي، مجلس الادارة، مجلس المعارف ومجلس الأوقاف، التي تشكل عن طريق الانتخابات عدا مجلس الإدارة، فإن نصف أعضائه ينتخبهم الشعب والنصف الآخر من رؤساء المصالح (كما حددت المادة الخامسة من برنامج حزب اللامركزية حقوق المجلس العمومي للولاية في مراقبة الحكومة و(النظر في جميع شؤون الادارة المحلية من تقرير ميزانية الولاية وأمور الأمن العام والمعارف والنافعة والأوقاف والبلدية وتقرير ما يراه فيها وسن النظامات لها. وما كان من أمور النافعة يتعلق من بعض الوجوه بالأمور العسكرية أو السياسية الخارجية كسكك الحديد فرفعه بعد ابداء رأيه فيه إلى العاصمة. ثم دعا البرنامج في مادته الرابعة عشرة إلى الاعتراف باللغة المحلية كلغة رسمية إلى جانب اللغة التركية. وطالب أن يؤدي أهل كل ولاية الخدمة العسكرية في مركز ولايتهم.
لقد حدد هذا البرنامج الموقف الرسمي لقسم هام من الحركة الوطنية العربية ازاء الحكومة المركزية التركية في استنبول ونال موافقة معظم الجمعيات السياسية العربية الناشطة على أعتاب الحرب العالمية الأولى.
وثمة امر يسترعي الانتباه في برنامج حزب اللامركزية وهو عدم اهتمامه بالمشكلات الاقتصادية الاجتماعية. إلا في مادة واحدة يتيمة أشارت إلى أن الحزب (ينظر في قانون تعديل الأراضي على الوجه الذي ينمي الثروة العامة وفي تحضير القبائل البدوية لأجل تنمية الثروة وترقية الأمة).
تتصف هذه المادة الوحيدة التي تتعرض للمشكلات الاقتصادية – الاجتماعية في برنامج حزب اللامركزية بالشمول والعمومية وعدم الوضوح. فهي لم تبين مثلا في أي اتجاه سيجري – (النظر في تعديل قانون الأراضي)؟.. هل سيجري في صالح (الكبار) من (الزوات) و(الأغوات) و(البكوات)؟ أم أنه سيجري في صالح الأكثرية الساحقة من سكان بلاد الشام الخاضعين لنير الاستثمار الاقطاعي بشتى أنواعه وأشكاله.
وهنا لا حاجة بنا إلى كبير عناء للإجابة على هذا السؤال ومعرفة من المستفيد من تعديل قانون الأراضي. فاستنادا إلى البنية الاجتماعية لحزب اللامركزية المؤلف من التجار والاقطاعيين الليبراليين والمثقفين المرتبطين بهم، واعتمادا على سياسة هذا الحزب، وانطلاقا من ظروف ذلك العصر يمكن القول بأن تعديل قانون الأراضي المقترح كان سيجري فيما لو تم في ضوء مصلحة (الزوات) من ملاك الأراضي الاقطاعيين ومصلحة (الأفندية) من التجار الطامحين في الاستيلاء على أراضي أملاك الدولة وغيرها من الأراضي.
فبرنامج حزب اللامركزية لم يكن يشبه من هذه الناحية منهاج الأحزاب البرجوازية في أوربا، التي أسهم معظمها في ضرب الاقطاعية وتوزيع الأراضي على الفلاحين. ولم يكن يخطر ببال (الفئة العليا) من حزب اللامركزية اجراء أي اصلاح زراعي في الريف السوري يهز مواقع الاقطاعية في ذلك الحين.
أما دعوة برنامج حزب اللامركزية إلى (تحضير القبائل البدوية لأجل تنمية الثروة وترقية الأمة)، فهي فكرة ايجابية تسعى إلى نقل قسم من الشعب من حياة بائسة متخلفة إلى حياة متطورة تتضاءل فيها هوة البؤس والشقاء. ولكن يجب ألا يغرب عن بالنا أن الطبقة العليا من المجتمع الشامي قبل الحرب العالمية الأولى لم تكن تطالب بتحضير البدو حبا بهم أو لتحقيق هدف انساني، بل ان غاية هذه الفئة العليا من تحضير البدو – بالرغم مما في ذلك من ترقية للأمة تركزت في (تنمية الثروة) ثروة التجار والاقطاعيين الطامعين إلى السيطرة على ثروة البلاد والحلول مكان الطبقة التركية الاقطاعية أو مشاركتها في استثمار الفلاحين العرب والقبائل البدوية. ولكن مع ذلك وبغض النظر عن هذا الهدف الاستثماري، فإن ترقية البدو تعد عملية تقدمية وخطوة إلى الأمام لا ينتقص من أمرها شيء مهما كانت الدوافع والأهواء.
هذه الأمور قل أن تطرق لها المؤرخون البرجوازيون، الذين صرفوا جل اهتمامهم إلى بحث المواقف السياسية لدى حزب اللامركزية، الذي قام بدور أساسي في الحياة السياسية في سورية على اعتاب الحرب العالمية الأولى. وهذا الحزب هو الذي تزعم المؤتمر العربي الأول في سنة 1913 في باريز، وسار في طريق المساومة مع حكومة الأتراك الاتحاديين وكان على استعداد للتنازل عن كثير نم مبادئه، فيما إذا أفسح المجال أمام قيادته للمشاركة في الحكم ونهب الشعب مع الطبقة الحاكمة التركية.
ان المتتبع للأمور والمستقصي أوضاع الحركة العربي في بلاد الشام لا يحتاج إلى جهد كبير حتى يكتشف بأن قادة حزب اللامركزية شكلوا الجناح اليميني داخل حركة التحرر العربية قبل الحرب العالمية الأولى. وعندما احتل المستعمرون الانكليز والافرنسيون بلاد الشام والعراق سار القسم الأكبر من قادة حزب اللامركزية في ركاب المستعمرين وانتقلوا بعد سنة 1918 من صفوف الحركة الوطنية إلى مواقع وموائد المستعمرين.
وعلى الرغم من الطابع اليميني لحزب اللامركزية فإنه لم يعدم بين صفوفه بعض العناصر اليسارية مثل الوطني الديمقراطي الدكتور شبلي شميل، الذي نادى منذ سنة 1908 بتطبيق المبادئ الاشتراكية وألقى الأضواء على الصراعات الطبقية داخل المجتمع. ولكن هذه العناصر كانت ضعيفة ولم تكن ذات تأثير حاسم في وضع سياسة حزب اللامركزية.
الجمعية الاصلاحية البيروتية والجمعية الاصلاحية الدمشقية:
لم تكن الجمعيات السياسية المذكورة سابقا المؤسسة في استنبول وباريس والقاهرة منظمات جماهيرية على اتصال واسع مع أكثرية السكان السوريين، بل كانت منظمات معزولة عن الجماهير الشعبية الواسعة إلى حد كبير. فقد تألف أعضاؤها من القسم الليبرالي للاقطاعيين العرب ومن المثقفين والطلاب أبناء التجار والموظفين الكبار والضباط والإقطاعيين الليبراليين. ولكن على الرغم من عزلة هذه المنظمات السياسية القائمة بعيدا عن تربة الوطن فإنها مهدت الطريق وهيأت الأفكار لقيام الحركات الاصلاحية ذات الاتصال الواسع نسبيا ببعض فئات السكان لا سيما في دمشق وبيروت.
بعد مرور أربع سنوات على ثورة 1908 ضد الحكم الاستبدادي الحميدي تحسنت أوضاع الحركة القومية العربية في بلاد الشام وسارت الأمور في طريق النضج من أجل المطالبة بالإصلاح بشكل علني وواضح وعن طريق وسائل جماهيرية واسعة نسبيا. جرى ذلك في الوقت الذي تطورت فيه البرجوازيتان البيروتية والدمشقية وسعتا لتوسيع سوقهما الاقتصادية وتقرير مصيرهما. كما تم نشوء الحركات الاصلاحية بعد تعاظم شأن الحركات المنادية بالاستقلال بين القوميات الخاضعة للدولة العثمانية. وبعد ازدياد حدة الصراع بين الدول الامبريالية من أجل اقتسام تركة (الرجل المريض)، اللقب الذي أطلق على الدولة العثمانية المتخلفة.
في خريف سنة 1912 تأسست اللجنة الإصلاحية في بيروت من التجار وأصحاب البنوك وبعض ملاك الأراضي والأطباء والمحامين والصحفيين(55). وقد اضطرت السلطات التركية في بيروت نظرا لقوة التيار الإصلاحي واندفاع العناصر المؤيدة له، وبسبب تقلبات الحكومة المركزية وازدياد قوة حزب الائتلاف في العاصمة المنادي باللامركزية، إلى الاعتراف بشرعية اللجنة الإصلاحية في 31 كانون الثاني عام 1913، التي تقدمت ببرنامج واسع مطالبة بتحقيقه(56).
اعترفت المادة الأولى من برنامج الجبهة الإصلاحية البيروتية(57) بحق الحكومة المركزية في ادارة الشؤون الخارجية والعسكرية وما له صلة بهذه الأمور كالبريد والبرق والجمارك والسكك الحديدية وأما ما تبقى من الأمور فهو من اختصاصات المجلس العمومي المنتخب من الولاية.
ان طموح البرجوازية البيروتية إلى الاستقلال الاقتصادي وتقرير أمورها بنفسها دون الرجوع إلى حكومة استنبول عبرت عنه بوضوح المادة الثالثة من البرنامج، التي أعطت للمجلس العمومي في الولاية الحق في إدارة كل الأمور الداخلية (وعقد القروض التي لا تتجاوز قيمتها نصف الواردات المختصة بالولاية. أما القروض التي تتجاوز قيمتها هذا المبلغ فيلزم لها مصادقة الحكومة المركزية). كما أن المادة الرابعة من برنامج الجمعية الإصلاحية البيروتية أعطت أيضا المجلس العمومي الحق في (اعطاء رخص لتأليف شركات مساهمة – انونيم) عثمانية للمشاريع العمومية كالنافعة والتجارة والصناعة والزراعة وسائر الشؤون العمرانية داخل الولاية على شرط الا تتضمن امتيازا. أما المشاريع التي تتضمن امتيازا فيجب مصادقة الحكومة المركزية عليها). كما أن البرنامج الإصلاحي لم يسمح للحكومة المركزية ألا بتعيين الموظفين الكبار على شرط معرفتهم باللغة العربية، أما بقية الموظفين فيجب أن يكونوا من الأهلين. علاوة على ذلك فإن المنهاج طالب بجعل اللغة العربية لغة رسمية وبتأدية الخدمة العسكرية لأهل الولاية في مركز ولايتهم، إذ أن معظم المجندين العرب أيام الدولة العثمانية كانوا يساقون إلى الأناضول والمناطق النائية الأخرى لتأدية الخدمة الإجبارية.
انتعشت الحركة المطالبة بالإصلاح في كل من بيروت ودمشق على أثر ازدياد قوة "الحرية والائتلاف" المؤيد للحركات الإصلاحية ولتطبيق اللامركزية – ولكن الانقلاب الذي دبره الأتراك الاتحاديون في نيسان 1913 ضد وزارة كامل باشا وبالتالي ضد حزب (الحرية والائتلاف) كان ضربة للحركات المطالبة بإصلاح في الولايات العربية (العثمانية). وبعد أن قبضت جمعية الاتحاد والترقي في 10 نيسان سنة 1913 على زمام السلطة للمرة الثانية حلت حالا الجمعية الإصلاحية البيروتية(58) وبدا واضحا أن الأتراك الاتحاديين عازمون على القضاء على كل حركة منادية بالإصلاح أو اللامركزية. كما بدا واضحا أن الحكومة المركزية حكومة الأتراك الاتحاديين، تسعى أكثر فأكثر من أجل تركيز جميع السلطات في يدها وقمع حركات الشعوب المطالبة بحريتها واستقلالها أو بجزء منهما داخل حدود الدولة العثمانية المترامية الأطراف.
بعد حل الجمعية الإصلاحية البيروتية في نيسان من سنة 1913 ارتفعت في بيروت وفي معظم المدن السورية أصوات الاحتجاج ضد سياسة الحكومة (التركية الاتحادية) وكان الإضراب الشامل الذي قام به تجار بيروت، الذين أغلقوا متاجرهم لمدة ثلاثة أيام(59) نقطة الأوج في حركة الاحتجاج ضد سياسة التتريك والمركزية، كما كان هذا الاضراب وحركة الاحتجاج بشكل عام أكبر دليل على أن الجمعية الإصلاحية البيروتية تمتعت بثقة الفئات التجارية ليس في بيروت وحدها بل في سائر المدن السورية.
دلت حركة الاحتجاج الواسعة ضد سياسة التتريك واضراب تجار بيروت، الذين دعموا من مختلف فئات السكان على أن حركة التحرر الوطني العربية بدأت تدخل مرحلة جديدة من مراحل تطورها، مرحلة الانتقال من حركة أفراد أو مجموعات ضيقة مغلقة على ذاتها إلى حركة جماهيرية نسبيا بامكانها أن تحرك فئات شعبية جماهيرية واسعة. وهذه المرة الأولى، التي استخدمت فيها الحركة العربية في بلاد الشام، الاضراب العام من أجل تحقيق أهداف قومية ومطالب وطنية.
وجدت الحركة (الاصلاحية) التي انبثقت من بيروت، المركز التجاري الشهير صدى واسعا لها في دمشق. ولكن هذا لا يعني أن الحركة المطالبة بالإصلاح في دمشق لم تكن إلا صدى لحركة بيروت. فالحركة في دمشق كانت أيضا وليدة التطور الاجتماعي الاقتصادي داخل المدينة وفي ريفها وثمرة نمو الوعي الوطني والقومي في صفوف المتنورين.
في أواسط كانون الثاني عام 1913 جرى في مركز حزب الحرية والائتلاف بدمشق اجتماع ضم (طليعة رجال الاصلاح)(60) الذين ناقشوا اللائحة الإصلاحية المقترحة والتي لم تختلف في جوهرها عن برنامج الجمعية الاصلاحية البيروتية. ويتبين من استعراض أسماء المشتركين في الاجتماع أن الجمعية الاصلاحية الدمشقية تألف من تجار ورجال دين ليبراليين ومن مثقفين(61) ولكن الجمعية الاصلاحية الدمشقية لم تبلغ درجة من القوة تفوق قوة زميلتها الجمعية البيروتية الاصلاحية لأسباب سنتعرض لها في فصول أخرى.