كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

عن رحلة بدأتها منذ خمسين عاماً(1)

ابراهيم معروف

بداية الرحلة وسببها:
بدأت هذه الرحلة في مثل هذا اليوم، 31 آذار / مارس من عام 1974، في ذلك اليوم غادرت دمشق متوجهاً إلى الجزائر عن طريق باريس، فلم يكن هناك خط مباشر بين دمشق والجزائر.
لم تكن الرحلة بدواعي حب السفر والسياحة، بل كانت بدافع الخروج من وضع صعب. فبعد إكمال الدراسة في جامعة دمشق بحثت عن عمل، مثلما يفعل أي متخرج. ولكن الأبواب كانت موصدة. تقدمت بعدة طلبات، لشركة النفط ولمؤسسة المشاريع الكبرى، دون نتيجة. ولم يكن السبب خافياً، ذلك أن الحصول على عمل يحتاج موافقة الأجهزة الأمنية، أو على الأقل عدم اعتراضها. بالنسبة لمن هو في وضعي كان الأمر عصيّاً على الحل، فقد كنت من أولئك الذين اعترضوا على انقلاب سنة 1970، وقدنا يومها مظاهرة منددة بالانقلاب، انطلقت من جامعة دمشق ووصلت ساحة السبع بحرات، وسط العاصمة...، هناك التقتينا بمتظاهرين عمال قادمين من منطقة المعامل المحيطة بدمشق. وتم قمع المظاهرة بوحشية. وبعد الانقلاب واصلنا عملنا على رأس اللجان الادارية في كليات الجامعة لنهاية الدورة الانتخابية، وقمنا في تلك الفترة بتأسيس عدة روابط علمية في الجامعة (رابطة العلوم الجيولوجية، رابطة العلوم الكيميائية، رابطة العلوم الجغرافية..). في نهاية تلك الفترة، وقبل الانتخابات الدورية، حدثت اتصالات معنا، وعرض علينا العودة إلى التنظيم الحزبي (للعمل من الداخل بكل حرية بضمانات!) مقابل ثلاثة مقاعد في المكتب التنفيذي لاتحاد الطلبة، رفضنا هذا العرض دون تردد..
(...)
(...)
بعد أن وجدنا أبواب التوظيف مغلقة، كنت من الذين عملوا في التدريس الثانوي من خارج الملاك، وهي صيغة مؤقتة وغير ثابتة، عملت فيها قرابة سنتين،. كانت فترة التدريس من أمتع سنوات حياتنا، وكانت ايجابية على أكثر من صعيد، ولكنها غير ثابتة، خاصة أن شهادتي من قسم علمي تطبيقي لا يسمح لي قانونياً بالاستمرار بالتدريس. وكان عليّ مثل غير من زملائي، البحث الدائم عن منصب عمل ثابت.
في العطلة المدرسية نهاية عام 1973 ذهبت إلى دمشق. وتوجهت إلى إدارة "مؤسسة المشاريع الكبرى" للسؤال عن مصير طلب قدمته للعمل، بعد انتظار في مكتب رئيس ديوان مدير المؤسسة طلب مني بداية أن أعود في يوم آخر لأن (عصام بك، مدير المؤسسسة، مشغول) أخبرته أني قادم من طرطوس لهذا الغرض، ولا يمكنني العودة في يوم آخر. المهم بعد انتظار فتح لي باب مكتب المدير، دخلت لأجد عنده زميلي (م. خ. ب.) ابن أخ أحد أهم الذين يتصدرون العمل الحزبي في حزب السلطة. سألني المدير عن سبب المراجعة، فأوضحت أنني قدمت طلباً للعمل في أحد مشاريع دراسة الأحواض المائية، وكانت هناك مشاريع لدراسة أربعة أحواض على مستوى القطر. أجابني بأن هناك طلبات كثيرة، وبأنها تدرس تباعاً حسب الأقدمية، سألت زميلي (م. خ. ب.)، وكان صديقاً شخصياً، إن كان توظف، كانت جلسته في المكتب توحي بذلك، فأجابني بنعم، حينها قلت للمدير أنا تخرجت قبل هذا الزميل، وأنا أشطر منه، وسألت زميلي أليس كذلك؟ أجاب بدون تردد نعم صحيح. أصابت الدهشة المدير، فلم يكن ينتظر هذا الجواب من زميلي، وتلعثم في الحديث. طبعاً أنا أعلم السبب الحقيقي لعدم قبول طلبي، خرجت من مكتب المدير بعد أن أسمعته كلاماً لم يسره، ولكن لم يجب. لأعلم في اليوم التالي عند لقائي مع زميلي أن الخوف تملك المدير بسبب لهجتي معه، وسأل زميلي إن كان لي علاقة بـ(المخابرات).
بعد مراجعة ادارة (مؤسسة المشاريع الكبرى) توجهت إلى جامعة دمشق، للقاء بعض الأصدقاء والأساتذة. وكان في مقدمة من قصدتهم الأستاذ والمربي الفاضل الدكتور يوسف الخوري، أستاذ علم الصخور، رئيس قسم الجيولوجيا، الذي كانت بيننا أثناء دراستي علاقة شبه يومية، بسبب كوني رئيساً لرابطة العلوم الجيولوجية في إحدى الدورات، كما اشتركنا في مجلس الكلية حيث كنت ممثلاً للطلبة لمدة سنتين وكان الدكتور يوسف عضواً دائماً في المجلس. بالاضافة لذلك، بل قبله، كان الدكتور يوسف أستاذي في شهادة علم الصخور، وقد وفقت مرات عديدة بالاجابة على أسئلته الدقيقة. كان الدكتور يوسف يركز على العامل الأساسي في حدوث أي ظاهرة، دون أن يعير كبير اهتمام للعوامل الثانوية. المهم دخلت إلى مكتب الدكتور يوسف الذي رحب بي، وبعد حديث سريع سألني ماذا تعمل الآن؟ صارحته أني لم أوفق بالحصول على عمل ضمن التخصص، وأني أعمل مؤقتاً بالتدريس لأتدبر شؤوني. فوجئ الدكتور يوسف، بل أبدى انزعاجه من هذا الخبر، وسألني مارأيك أن تذهب إلى فرنسا لدراسة الدكتوراه؟ قلت أستاذ يوسف أنا لم أوفق بالحصول على عمل في بلدي، وتسألني عن رأيّ بالذهاب إلى فرنسا؟ لا الدولة مستعدة لإرسالي، ولا أنا أقدر على تكاليف ذلك ! قال المهم أنت توافق؟ قلت هذه أمنية، قال لا عليك. أنا أعطيك رسالة تحصل بموجبها على منحة من جامعة نانسي لتحضير الدكتوراه، وهذه المنحة لا علاقة للدولة السورية بها، وجامعة نانسي تقبل مني ترشيح أحد طلابي الذي أذكيه، لكوني أستاذ سابق في تلك الجامعة. وفي السنة الماضية أرسلت زميلك (ر. غ.) الذي يدرس الآن هناك. إذا كنت مستعداً خذ هذا الكتيب، ومد يده إلى أحد الدروج، ليخرج كتيباً يتضمن التخصصات التي تدرس في جامعة نانسي، ناولني الكتيب قائلاً خذه وأقرأه، واختر التخصص الذي ترغب بدراسته، وعد إليّ. بالنسبة لي بدا الأمر وكأن ليلة القدر طلت بدون ميعاد!
أخذت الكتيب ودرسته جيداً، واخترت تخصص الهيدروجيولوجيا، وعدت إلى مكتب الدكتور يوسف، وأنا أهم بالدخول صادفت الدكتور مصطفى عتقي، أستاذي في مادة الجيولوجيا البنيوية، خارجاً من مكتب الدكتور يوسف، توقف ليسألني عن حالي، وكانت بيننا علاقة صداقة قوية، فقد كان من الأساتذة الشباب المتميزين في كل شيء، (...). ولما عرف سبب مجيئي لعند الدكتور يوسف، قال لي لا، لا تذهب إلى فرنسا، ولكن تعال معي إلى الجزائر، أنا بحاجتك ! أمسك بيدي قائلاً هيّ بنا لنرى مع الدكتور يوسف، دخلنا معاً، وأخبرت الدكتور يوسف باختياري لمادة الهيدروجيولوجيا، هنا تحدث الدكتور مصطفى قائلاً أنه بحاجة لي للعمل معه كمعيد في جامعة وهران، حيث يعمل كأستاذ معار من جامعة دمشق، وأنه بإمكاني دراسة الدكتوراه في الفرع الذي أختاره في جامعة وهران. تحدث الدكتور يوسف قائلاً أن القرار يعود لابراهيم، ودون أن أطيل التفكير أو أتردد شكرت الدكتور يوسف من أعماق قلبي، واعترفت بفضله علينا، كأستاذ وكمربي فاضل، ولكن لاعتبارات عدة أرى الجزائر أنسب. وكان القرار بالتوجه إلى الجزائر. كان ذلك في نهاية شهر كانون أول / ديسمبر 1973. اتفقت مع الدكتور مصطفى على الاسراع بالسفر إلى الجزائر، أعطاني عنوانه قائلاً أنا بانتظارك! لا تتأخر.
عدت إلى طرطوس لأبدأ بمعاملة الحصول على جواز السفر وتأشيرة الخروج. واستغرق ذلك ثلاثة أشهر تقريباً. ودعت طلابي في ثانوية خربة المعزة وكان وداعاً مؤثراً جداً، لكم تمنيت لو تابعت عملي في التدريس! وفي الأيام الأخيرة في عملي في التدريس علم سائق السيارة الذي كان ينقلني يومياً مع عدد من الزملاء بأني سأغادر إلى الجزائر، ففاجأني بقوله أستاذ ابراهيم إذا كنت ذاهباً للدراسة لماذا لا تذهب إلى هولندا؟ هناك يمكن أن تحضر الدكتوراه عند أحد كبار الأساتذة، وهو مؤسس شركة شل البترولية، مضيفاً لا تستغرب من قولي، ولا تتساءل كيف أعرف هذا الرجل، وماهي علاقتي به، باختصار أنا أرسلت ابني للدراسة هناك، وكان شاباً (أزعر) ووسيماً، لم يوفق بالدراسة، ولكنه جعل ابنة الأستاذ الهولندي تقع في غرامه، وتزوج منها، ونحن الآن أنساب، ولا يرفض والد كنتي أي طلب لي، خاصة عندما يتعلق الأمر بشاب مثلك. شكرت الرجل الطيب مؤكداً أن الأمر محسوب بالنسبة لي، فالجزائر لأسباب عدة هي الخيار.
في مثل هذه الساعة من يوم 31/03/1974 كنت في مطار باريس بانتظار التوجه إلى الجزائر.
- يتبع.