كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الذكرى الرابعة والسبعون لنكبة فلسطين كما يرويها شاهد عيان

 كتب لطفي السومي- فينكس:

 في هذه الذكرى الأليمة للنكبة الفلسطينية من جهة وإعلان قيام دولة "إسرائيل" من جهة أخرى أستذكر بعض المحطات الرئيسية للنكبة، بصفتي من الشهود العيان القليلين الباقين، والذين عاصروا النكبة، ورغم أنني كنت في الثانية عشرة من العمر، إلّا أنني كنت أتابع يومياً الأحداث، إذ كنت أقرأ يومياً إحدى الجريدتين: جريدة الدفاع أو جريدة فلسطين، كما كنت أتابع الأخبار من إذاعة القدس.
بدأت الحرب ونحن نعتقد أننا سنربح المعركة بدون أدنى شك، ولذلك كنت أتابع خسائرنا بحزن، ولقد فوجئت بتتابع الخسائر المتتالية.
بدأت أول هزة عنيفة و لا زالت حاضرة بوضوح في ذاكرتي وهي استشهاد القائد الرمز عبد القادر الحسيني في ٩/ نيسان / ١٩٤٨، والتي تبعها في اليوم نفسه مذبحة "دير ياسين"، ولقد شكل الحدثان معاً أول هزة عميقة في قناعتنا أننا سنربح الحرب، دون أن نفقد الأمل، ولقد كان للأداء السئ لإذاعة القدس والصحف العربية دوراً في تراجع كبير للروح المعنوية للفلسطينيين بصورة عامة، فلقد عرضت الإذاعة والصحافة حجم التنكيل الذي تم لأهالي "دير ياسين" مع التركيز على تعرية النساء وبقر بُطُون الحوامل ونسف البيوت على أهلها، مما خلق حالة رعب عامة، وبدأ عدد من سكان المناطق الحدودية في إجلاء النساء والأولاد وبقاء الرجال وحدهم، ولم يكن استشهاد عبد القادر الحسيني أقل أثراً على الروح المعنوية للسكان العرب.
وكانت الهزة الثانية هي سقوط مدينة طبرية، بعد استشهاد عبدالقادر الحسيني ومذبحة "دير ياسين" بحوالي أسبوع أو عشرة، إذ هو أول احتلال لمدينة، ولكنني أذكر أنني اعتبرت أن كون أغلبية سكان المدينة من اليهود يخفف من الصدمة.
تتالت المأسي بسرعة، فسقطت حيفا بعد طبرية بأيام قليلة وكان سقوطها يوماً فاصلاً في إحساسي بأننا سنخسر الحرب، ولا زلت أذكر كيف أن محطة إذاعة القدس حينما أعلنت النبأ كان آخر ما قالته (وَمِمَّا هو جدير بالذكر أنه لا زال هناك مقاومة ضعيفة في وادي النسناس)، خاصة وقد تبعها بأيام قليلة سقوط يافا والذي كان حاسماً في شعوري بأننا قد خسرنا الحرب لما لهاتين المدينتين من أهمية ورمزية في حياتنا، ولقد كانت حيفا تبعد عن جنين حيث أعيش ٤١ كم، ولقد زرتها مع والدي وأحيانا مع والدي ووالدتي كثيراً وأعرفها جيداً.
بدأنا نعزي أنفسنا بأن ١٥ أيار، وهو موعد دخول الجيوش العربية سيكون النهاية المحتومة لخسارتنا، و أن الجيوش العربية ستجتاح المناطق اليهودية بسهولة.
وقبل ١٥ أيار سقطت كل من صفد وبيسان في يومين متتاليين، ولكننا أصبحنا مشدودين بقوة الى ١٥ أيار كيوم للخلاص. وأذكر أنه في ليل ١٤ أيار قالت لنا أمي يجب أن تناموا باكرا لتستيقظوا على حجارة حيفا وهي تتساقط تحت ضربات الجيوش العربية، رغم أن بين حيفا وحدود فلسطين التي ستدخل منها الجيوش مساحة شاسعة، ولكننا كنّا بحاجة الى مثل هذا الشعور فصدقناه.
دخلت الجيوش العربية بعد أن كنّا قد خسرنا كل من طبرية، حيفا، يافا، صفد وبيسان، بينما لا زال عدد من المدن عربياً، ومنها الناصرة، جنين، طولكرم، نابلس، رام الله، القدس، بيت لحم، الخليل، عكا، اللد والرملة، وبئر السبع وآخرها غزة، أي أن المناطق العربية كانت لا زالت واسعة و أن الجيوش العربية السبعة ستكون قادرة وبسهولة على إنهاء الوجود الصهيوني في فلسطين.
دخلت الجيوش العربية وهي: الجيش الأردني في منطقة القدس واللد والرملة والخليل، وكان الجيش العراقي في مناطق كل من جنين وطولكرم ونابلس ومناطق شمال تواجد الجيش الأردني وهي في معظمها المناطق التي اصبحت الضفة الغربية باستثناء اللد والرملة التي احتلها اليهود بعد انسحاب الجيش الأردني من منطقة المطار الذي يعتبر اليوم مطار تل أبيب، وهو المطار الرئيسي في فلسطين قبل النكبة وبعدها، مما خلق شعوراً بأن اللد والرملة قد سلمت تسليماً وبدلاً من أن تستعيد الجيوش العربية المناطق التي احتلها اليهود فقد تساقط عدد من المدن التي كانت لا زالت عربية، وكان أولها عكا التي لم تصلها الجيوش العربية والناصرة التي سقطت من قوات جيش الإنقاذ بقيادة فوزي القاوقجي الذي لم يلب نداءاته أي من الجيوش القريبة من مناطق تواجده وهي العراقي في جنين واللبناني في المالكية شمال فلسطين والسوري في الشرق، كما لم تنجده القيادة العامة بالعتاد والأسلحة، فسقطت الناصرة وكل مناطق الجليل الغربي، والتي هي الوحيدة التي بقي الكثير من سكانها فيها لأن بن غوريون قد استثنى الناصرة من التطهير العرقي خوفاً من ردة الفعل المسيحية.
وسقطت بئر السبع عند هجوم القوات اليهودية على الجيش المصري في شهر تشرين أول، حيث احتل اليهود كامل منطقة جنوب فلسطين، وهي آخر مدينة فلسطينية يحتلها اليهود في العام ١٩٤٨، حيث بقي من فلسطين كل جنين وطولكرم ونابلس ورام الله والبيرة، والقدس الشرقية والخليل بالإضافة الى غزة وما حولها. ولقد استكمل احتلال فلسطين في العام ١٩٦٧ كما نعلم ولا زال هذا الاحتلال مستمراً.
لست بصدد تقييم كارثة العام ١٩٤٨ فهذا موضوع بحاجة إلى كتب، ولكنني أسجل بعض الملاحظات و أولها أن الجيوش التي دخلت هي كل من: الجيش الأردني، والجيش العراقي، والجيش المصري، بينما كان كل من الجيشين السوري واللبناني في بدء تكوينهما، ورغم أنهما بذلا ما يستطيعان حيث احتل الجيش السوري مشمار هياردن واحتل الجيش اللبناني المالكية، إلّا أنهما تراجعا فيما بعد خاصة بعد الهدنتين الأولى والثانية، إذ بينما فرض حظر على تزويد العرب بالسلاح فقد زودت قوات الهاجانا بأسلحة تشيكية غيّرت ميزان القوى. ولقد كان للدول العربية الأخرى السعودية واليمن وجود رمزي لا فاعلية له.
كانت مهمة الجيشين العراقي والأردني المحافظة على حدود التقسيم، رغم أن قوات الهاغانا لم تتقيد بهذه الحدود وتجاوزتها حيثما أمكن ذلك خاصة في منطقة الناصرة والجليل الغربي وقرى المثلث التي سلمت بموجب اتفاقية رودس وغيرها.
كان الجيش المصري أقوى من القوات اليهودية قبل الهدنتين الأولى والثانية، إلّا أن ميزان القوى قد اختلف بعد الهدنة الثانية وتمكن اليهود من هزيمة الجيش المصري وانتزاع كامل النقب والأجزاء التي كان الجيش المصري قد دخلها حتى مدينة أسدود شمالاً، ورغم أن ما قيل عن دور الأسلحة الفاسدة فيما أدت إليه الحرب فهي في الواقع مجرد ذريعة لتبرير الهزيمة، فمن المعلوم أنه بعد حظر بيع الأسلحة إلى العرب لجأت مصر إلى شراء كميات من الأسلحة من جهات إيطالية كانت قد جمعتها من بقايا ما ترك بعد معركة العلمين بين بريطانيا وألمانيا في الحرب العالمية الثانية، ومن الطبيعي أن يكون بين هذه الأسلحة التي بقيت لفترات متروكة في الصحراء بعض الخلل، ولكن الثورة قد بالغت في دورها من أجل إدانة النظام الملكي السابق على ثورة ٢٣ تموز ١٩٥٢.
أذكر أنه في معركة جنين في ٣ حزيران ١٩٤٨ كان الجيش العراقي متفوقاً بصورة حاسمة على المهاجمين، و أن القائد "عمر علي" قد توجّه إلى جنين بدون أوامر، و أنه قد أمر بالتوقف على مسافة ١ كم شمال جنين رغم أنه كان قادراً على اجتياح منطقة واسعة بصورة مؤكدة، وفي هذه الفترة ظهرت فيها عبارة (مأكو أوامر) ولدي الكثير مما أقوله لو لم يكن في فمي ماء.
والملاحظة الأخيرة التي أودّ قولها هي أن الجيوش العربية قد دخلت البلاد بدون خطة مشتركة أو قيادة عامة فاعلة، كما أن المأساة قد بدأت عندما قامت كل قرية أو مدينة بالقتال وحدها، بينما كان لليهود قيادة موحدة وجيش يمكن تحريكه من مكان إلى آخر.
لقد أطلت عليكم وسأتوقف لأنني نسيت حدودي.