كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

حوار بين الّليل والنّهار

جعفر مالك محمد

عندما يلقي الليل ثوب سكونه على هذه الدنيا، يختبئ الناس في أسرّتهم خائفين. لماذا؟ لأنهم يخافون عتمة المجهول، يخافون من واقعهم الغامض. ألا يدركون أن الليل خير أنيس؟ حقّاً إن الليل صديقٌ يمكنك مشاركته أي سرٍّ وهو سيحفظه، إن الليل ملهم الكتّاب والشّعراء، والبدر صديق الوحيدين والمستوحشين. لطالما كان الليل يداً تعزف على قيثارة الحياة، والنهار لم يُفِدْ هذه القيثارة بل خرّبها وقطّع أوتارها، النّهار يجعل الناس تزدحم في الطرقات، فيعلو الضجيج، وينتصب شيطان المال في صورة صنمٍ تسجد له النفوس الخبيثةُ، أمّا النفوس النقيّة فتكابد من أجل تأمين لقمة عيشها، وفي الليل يستكين الناس ويغفو المال والطمع، ويعمُّ الهدوء، ولا يبقى مستيقظاً سوى أحلام الشعراء ونجوى العاشقين، وفكر الأدباء والمفكّرين.

ورغم هذا هما صديقان حميمان، لكن لا يلتقيان كثيراً، في يومٍ من الأيام. اتّصلت أذيال الغروب برؤوس المساء، فاجتمع الصّديقان ودار بينهما الحوارُ:

النّهار: كيف حالك يا صديقي؟

الّليل: سعيدٌ بنشوة العشّاق وحلاوة الفكر للأدباء. وأنت أيّها الصديق؟

النّهار: أنا حزينٌ يا صديقي.

الّليل: لماذا؟

النهار: لايكتفي البشرُ من تشويه صورتي المملوءة بالنّور بظلام أعمالهم، إنّهم لا يكفّون عن إيذائي!

الّليل: كيف؟

النّهار: أولاً يلوّثون هوائي بدخان مصانعهم، ثمّ يعلو فسادهم مغطّياً على نوري.

الّليل: آه يا صديقي لقد فهمتك وأتمنّى لو بمقدوري مساعدتك، لكن لا أستطيع.

النّهار: يا صديقي يجب أن تبقى أنت، لأنّك تجعل الناس يظهرون جانبهم الطّيّب الموجود في أعماق نفوسهم، أمّا أنا فأنبّههم إلى ارتداء أقنعتهم أو التكشير عن أنيابهم السّامّة ومخالبهم القاطعه لذلك يجب عليّ الرحيل.

الّليل: كلّا ياصديقي، انت مخطئ! فكلٌّ منّا كفّه تؤمّن توازن العالم، وبرحيل أحدنا يصبح العالم مختلّاً وغير متوازن، ونحن بريئان من تهم البشر، ثمّ لا تنسى أنّ بعضهم طيّبون ولا يفسدون شيئاً بل على العكس يصلحون بعض ما أفسده الآخرين.

النّهار: أعلم يا صديقي.. أعلم.. ولكن واحسرتاه! ماذا يمكنني أن أفعل؟

الّليل: علينا أن نتعاون لجعل هذا العالم متوازناً، فالبشر يحتاجوننا كلينا، ثمّ إن غيابك سيسبب الكثير من الكوارث، فهل ترضى؟!

النّهار: أنت محقٌّ يا صديقي.. أمري لله! عليّ أن أتحمّل.

الّليل: بالتوفيق أيّها الصديق، وداعاً.

وغابت الشمس تاركةً الّليل يعزف لحن السكينة، فترقد الطبيعة، ويلقي البشر همومهم ليناموا.

دار هذا الحوار أمامي بألسنة الخيال وأنا أشاهد غروب الشمس البديع، فجعلت هذه الألسنة حبراً على ورقي، ومع كلّ قطرة حبر ينسكب على هذه الصفحة، تنسكب معها أحاسيسٌ أشعرتني كم آذينا هذه الأرض بحروبنا ومستلزماتنا وأشياء أخرى.

فلهذا يجب علينا أن نكون يداً واحدةً تجعل هذه البيئة مكاناً أفضل ونخفّف هذا التلوث.

والآن سأنشدُ مع هذا الليل البديع أغاني الهدوء مودّعاً أوراقي وأقلامي لأرى جمال هذا الكون وأستأنسُ مع القمر، ننسجُ من خيوط الصّمت كلاماً.

ففي الليل، الصّمت يتكلّم، والكلامُ يصمت تاركاً الكون ينتشي بدقائق الأثير، ويشرب خمرة السّلام ساهراً مع الّليل الجميل.

مجلة فيحاء

العدد الرابع