كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

(بارقات تومض في المرايا) للشاعر منذر عيسى

علم عبد اللطيف- فينكس

 تابعتُ كثيراً من الكتابات عن المجموعة في الفضاء الازرق قبل أن تتاح لي مطالعتها. وبعد حصولي على نسخة غالية، مهداة من الشاعر، أمضيت وقتاً جميلاً مع موادها، لم أتركها حتى قرأت آخر مقطع فيها.
المجموعة تقدم مقاطع شعرية. لا تنتمي مباشرة لحالة الومضة الشعرية التي اهتم بها كثيرون في الآونة الأخيرة، بسبب عدم ايلاء شروط قصيدة الومضة اهتماما من قبل الشاعر نفسه، من حيث الاختزال والتركيب، ثم الجملة الصادمة في مقاطع لا تتجاوز كلماتها ثلاثين كلمة.
عموماً، وفي ظني أن أن بارقات تومض في المرايا، تحمل بعض عناصر قصيدة الومضة، وإن لم تتقيد بها على وجه الاطلاق، فالعنوان يُحيل إلى مسألة الوميض ابتداءً. وهو، أي العنوان، يكثف ويفارق مدلالاً مباشراً يمكن التنبؤ به بكلمة بارقات. وحسنٌ أن الشاعر قصد ذلك كما أعتقد، فهو قد علّل حجم المقطوعات في المجموعة، التي بلغت مائة وخمس وسبعين قطعة شعرية، تتقارب في الطول، ولا تتجاوز الخمسين كلمة في أطول المقاطع الفرعية، إذ أن عنوان النص، لا يقيد حرية الشاعر بتنويع وتوزيع المشهدية عبر مقاطع فرعية تحمل أرقاما متسلسلة.
علّل الشاعر ذلك عبر كلمة (تومض)، ثم فارق السياق حين حدد مكان البريق، (في المرايا).
كلمة المرايا، يعرف الكتّاب أنها استخدمت كثيراً في النصوص. لملء شاغر في الجملة الشعرية في أغلب الأحيان، لكنها هنا، ليست تحصيل حاصل أو هروباً من تحديد، تومض في المرايا، جملة تشي بمعرفة قيمة القرءات المتعددة بعدد القراء ربما. المرايا العاكسة للبريق، المتقابلة أو المتعاكسة.. دون تحديد وإطلاق، ربما كانت مرآة واحدة، أو موشوراً، ولعل هذا بالتحديد، ما وضع القارئ أمام حالة من حرية التواصل مع النص الذي يومض، ويتلقاه القارئ بعد انعكاسه في مرآته، فيجد معناه هو كمتلق، قبل أن يبحث في معنى الكاتب، هذا جميل. ويمكن أن يضاف العنوان إلى مجموعة الومضات في صفحات المجموعة، كومضة مستقلة، وإن كان قد ختم الديوان بمقطوعتين ( وللبلاد والشهداء ومض)، و (وللقلب ومض ونبض). فأكدت كلمة الومض على حضور مسألة الومضة الشعرية، دون أن يتبناها شكلا محدداً بشكل صريح.
في قراءة هادئة للمجموعة، وبعيداً عن مسألة الإخوانية والمجاملة، نجد أنها حقيقة تنتمي لقصيدة الحداثة، من حيث التكثيف البادي في المقاطع القصيرة، مما لا يحتمل الاستطراد وتوليد ميديا متجددة في النصوص. إضافة لالتزام النصوص بأدوات قصيدة الحداثة، لجهة عدم الانسياق خلف التصييغ الشعري البلاغي أولاً، أو إجهاد النص عبر أدوات القصيدة الكلاسيكية المعروفة، من حيث التشكيل وبناء الجملة الشعرية. الاستطراد أو المبالغة أو التوكيد أو التكرار البلاغي وغير ذلك، فالشاعر معني بتقديم نص يمثل حالة شعرية، أو مشهداً مشعرناً، وهو ما أشار إليه محقا الناقد د نزار بريك هنيدي في تقديمه للمجموعة. أن تقديم الحالة الواقعية أو المفترضة، المتخيلة، هو غاية النصوص الحداثية، وليس تقديم الشكلانية الشعرية التي يسعى اليها معظم الشعراء. الحالة التي تمنع الشاعر من تقديم نفسه أولاً عبر الشكل والتشكيل الشعري الموجه أو الضاغط، وفي حقيقة الأمر، يبدو الشاعر متفلتاً من إسار اللغة الباذخة أولاً، ومن سيطرة النص ذاته عليه، فيجزئه ويقطعه كمن يلجمه عن الاستطراد والخروج عن حالة محددة في عقله وفكره ومشروعه.
النصوص تحمل أيضاً علامة مهمة فيما يتصل بقصيدة الحداثة، هي وحدة الموضوع، فلا يتشعّب اهتمام النص بمواضيع مستجدة عليه، ويبقى الشاعر أمينا للعنوان حتى آخر كلمة في النص، وتجب الاشارة الى أن هذا الامر يحمل أهمية بالغة الدقة في قصيدة الحداثة. فلطالما قيل أن القافية في قصيدة العمود جعلت منها قصيدة البيت الواحد، وإذن سنكون أمام تشعب شائع ومفهوم في هذه القصيدة بفعل التقيد بالقافية والوزن وعدد التفعيلات، لكن قصيدة الحداثة هي خارج كل هذا، وإذن، لا مبرر إطلاقا لتعدد المواضيع والمشاهد في القصيدة.
الكرمة... التي غادر الكرام فردوسها، فطفقت تبتكر النبيذ الالهي على طريقة العاشقين، تهبه للنهود الشامخة، التي ارضع النرجس الغاوي، فيهيم سكرا، ويدور كطواحين الهواء، أو يغفو على ضفة بحيرة لاهية.
الأمر الآخر المهم في نصوص الشاعر منذر، هو أنه، يدرك تماماً لماذا وجدت وكُتبت قصيدة الحداثة أصلاً، هي استجابة إبداعية لتحولات الزمان والمكان في العالم، ومتطلبات التحول، الاحاطة بالعالم عبر الشعر، فهم اعمق للعصر وثقافته. استدعاؤه إلى القصيدة بطريقتنا، وأن تكون القصيدة الكلاسيكية عاجزة بحكم شكلها وقواعدها عن مواكبة العالم المتغير، هو امر مفهوم، وتكون قصيدة الحداثة هي الحالة التي يجب تعوض عما عجزت عنه القصيدة القديمة بشكلها وأدواتها، بحكم تحررها من الأدوات البيانية والتجميلية، والقواعد. وحتى المهمات المناسباتية أو توجيهية أو الضاغطة أو الموجهة، وإذن، فهي، اي قصيدة الحداثة معنية بتقديم الخارج، العالم، على مستوياته الفكرية والعقلية والعلمية، والثقافية، كهم انساني رئيس لا يعلو عليه هم آخر، لهذا نجد أن غالبية النصوص في المجموعة، تعنى بهذه المسألة تحديداً، فترتقي إلى حالات الهم الانساني في تجليات شعرية، وتُعمل الفكر في أسئلة العصر، وتجيب بطريقتها الابداعية.
المتاحف مكان لتجمع غبار الصلصال الأول، جثث بلا ألسنة، أنين الروح المسافرة بلا عيون، مشيئة مترجلة عن خيولها في اللامكان... أحلام تتكور في صقيع الحداد، وإبحار معاكس للتيار في نهر الزمن..
الراية، ترتفع متغاوية برموز الوانها الغنية، وبقصص ومآثر القامات التي حملتها، وتردد أغاني تهبّ من أفئدة المناجل، وخصب البيادر.
القلب.. هذه المضخة ااتي تعمل بوقار في الخفاء، وتسكب في الجسد الحياة والدماء، ألم يكفها ما يجهدها حتى تشارك بمغامرات الحب عبئاً ممضاً، وعذاباً عذباً، وتصبح جاهزة للعطب فجأة، كآلة قديمة...
البيوت ونحن خارج جدرانها، نشعر بعري طارئ، وعند الرحيل ترافقنا ظلال تحمل ذاكرة مضيئة، البيوت اختراع ازلي اهتدينا اليها، قبل ابتكار ما يستر أشباحنا المتحركة.
الحرية الحلم، نهر شقي يرسم مجراه، ويغازل ضفتيه على هواه، الحرية عصافير تغني متى شاءت، ونسور تختار القمم عروشا لاعشاشها، وديكة تمارس الصياح عندما ترغب بقدوم الصباح، وندى ليلي يهطل على ظمأ القلب.