كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

قصة حميدة

ميس كريدي

"زقاق المدق" فاتحة الحكايات المصرية التي كتبها "نجيب محفوظ"، و التي مهدت للثلاثية الشهيرة "بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية"، تتلخص فيها قصة الثلاثية الاجتماعية المركبة: الفقر والحرب والأخلاق، تدور أحداثها عام ١٩٤٤، ويظهر الانكليزي في مقهى الزقاق يبحث عن المخدرات، ويظهر شابان حسب السيناريو الذي كتبه سعد الدين وهبة حيث اختصر شخصيات حكاية نجيب محفوظ إلى حدود مايناسب السينما من ضغط ل ٦٠٠ صفحة من السرد، ليخرج فيلم حميدة والذي اختصره المخرج حسن الإمام أيضاً حتى يخرج الفيلم للنور بما يقارب الساعتين من التجسيد الخلاق للفتاة اليتيمة التي تبحث عن الخلاص من الفقر ومن حياة الزقاق بكل مافيها من حياد أهله عن حياة المدينة الصاخبة، في حي شعبي، تدار العلاقات مع الجنود الانكليز وتتمحور حول المخدرات التي يخرج على لسان ابن صاحب المقهى أنهم نشروه في مصر ثم عادوا ليشربونه في مقاهي وملاهي البلاد.
وبما أن العمل مع الانكليز يجلب المال، تدفع حميدة خطيبها ليعمل في معسكراتهم عبر تقديم الخدمات لهم..
فمصر المنهوبة المنكوبة، تحت نير الاستغلال في كل شيء..
وبعد أن تتعرف حميدة على شاب مصري يعمل قواداً، ويأخذها لتعمل في ملهى ليلي يرتاده الانكليز يطالعك مشهد تدريب الفتيات على بيع أنفسهن للانكليز مقابل المال، وتعليمهن اللغة الممكنة للتفاهم على الصفقة، بعد خلعهن من ملايات اللف التي يمشين فيها عبر الأزقة و تدبيجهن بالحرير والفساتين العصرية ليغنين ويرقصن ويسهرن على طاولات الانكليز وباقي الطبقات التي ترتاد تلك الأماكن، حميدة التي تعيش مع المرأة التي ربتها بعد وفاة أهلها و التي تعمل دلالة وفق المصطلح المصري للتدليل على البضائع، تعرض على ربيبتها حميدة عرضي زواج، تكون المفاضلة بينهما بالمال والحلم بالخروج من الزقاق..
تهرب من أمها الدلالة لتقع في حضن الدلال القواد، سمسار البشر..
على هامش الحرب العالمية الثانية التي لاتعبر من مصر إلا بوجود الانكليز في علب الليل والأزقة.. تنتهي مقتولة برصاص انكليزي أثناء مشكلة في الملهى الذي ترقص وتغني فيه، فيحملها الشابان خطيبها وصديقه لتموت في ليل زقاق المدق..
هل كانت مجرد قصة شعبية تنقل الواقع أم تلّبسٌ في واقع انتهاك الجمال والحرمات في بلادنا واستباحتها باستعباد كباره وصغاره شبابه وبناته، والموت الصدفة لمجرد أن انكليزياً ثملاً سمع صوت شجارٍ حوله، فيقتل بكل دم بارد، لأنه يقتل من يشاء ومتى يشاء على أرض العرب التي استباحوها..
"شادية" التي مثلت حميدة وغنت أغنيتها الشهيرة في وقت آخر: قولو ل عين الشمس ماتحماش..
نقلاً عن مطربة من شارع محمد علي أو (عالمة) كما يسمون شريحة المغنيات الشعبيات كانت قد غنتها لأجل "ابراهيم الورداني" الصيدلاني الذي أطلق النار على بطرس غالي إثر محكمة دونشواي التي حكم فيها على فلاحي قرية دنشواي بالاعدام بعد مطاردتهم لانكليزي تحرش ببنت من بناتهم
فأصابته ضربة شمس ومات فاعتبر الانكليز أن الفلاحين في دونشواي مسؤولون عن موته وحاكمهم بطرس غالي وتم إعدامهم، فتحركت مشاعر الورداني لينتقم..
وخرجت الأغنية من حنجرة العوالم مع مظاهرات شعبية وعادت "شادية" وغنتها لاحقاً.. لا أعرف هل هذا حديث عن فيلم تم انتاجه في الستينات لحث ذاكرة مصر عن قصة تحكي عن ماقبل انتهاء الحرب العالمية الثانية، كتبها "نجيب محفوظ" بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بحوالي عامين أو هو حنين لأصالة الفن، أو عملقة العلاقة بين الشعب والراوي في سردية الأوطان المحكومة بالفقر والاتجار بالبشر والاستعمار..
المؤكد أن الفن الحقيقي لايموت والفكرة لاتموت والهوية نسيج من الآلام والصدق واللغة والتاريخ والجغرافيا والسينما رسالته المبدعة حين يكون هناك فن وفنانون يغنون أهزوجة تسجل لحظةً من انتصار الكبرياء على جحافل العدو، فيصير ابراهيم الورداني جزءاً من تراث فني أصيل يخلد قصة نضال ضد المستعمر ويخلد انتقام الورداني من جلاد دنشواي عميل الانكليز. كما حميدة ضحية الضياع التي قتلها الانكليز في رمزية لنساءٍ هن القاهرة أو أي مدينة عربية محتلة أخرى ارتضى شبابها العمل لدى الاستعمار الغربي قديمه وجديده..