كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

مفهوم الخصوصية في الإبداع الروائي

مصطفى عطية جمعة

يرتبط مصطلح «الخصوصية «Privacy بحقول معرفية وإنسانية عديدة، مثل خصوصية الفرد وذاته، وخصوصية المجتمع وثقافته، أو خصوصية المعلومات. كما يرتبط بشكل وثيق بكل الممتلكات والحقوق الخاصة للأفراد، ماليا وفكريا واعتباريا، بل يتجه أيضا إلى ملكية الجسد، وحق التصرف فيه، وهذا ينسجم مع دلالة المصطلح، التي تأتي مقابل كلمة «العام» وتعني ما يشترك فيه عموم البشر، سواء على مستوى الوطن مثل، الملكيات العامة، أو على مستوى الفضاء الإنساني مثل، الهواء والبحار، وأيضا المشتركات في التلاقي والتعارف البشري.
لقد وُجِدت إشارات مبكرة على استخدام المصطلح في المجال الفني التشكيلي، مثل صور البورتريه الشخصية للأفراد، أو للعائلات. كما استُخدم المصطلح لوصف التيار الرومانسي في الأدب والفنون، حيث يميل المبدع إلى التأمل الذاتي العميق في نفسه والكون والطبيعة والناس، والتعبير عن عواطفه الجياشة، دون التحسب لقيود العادات والتقاليد. وأيضا ارتبط بفلسفات الحداثة، التي جعلت الذات الفردية الإنسانية جوهرا لها، ورأت أن الشخصية الفردية هي مناط كل شيء في الحياة. وندرت المفاهيم التي تضيف المصطلح إلى المجال الأدبي Privacy in the literature، فقلةٌ من الدراسات أشارت إليها؛ فجعلت الخصوصية في دوائر ضيقة تتصل بالأديب، أو نوعية معينة من الأدب، كما هو الحال في الدراسات التي تبحث في ملامح التميز لاتجاه أدبي ما، أو حقل أدبي بعينه، أو منهجية نقدية، أو خصوصية الأديب/ المؤلف، وتعني أبرز الصفات التي يتميز بها هذا الأديب أو ذاك وتتبدى في أدبه، أي أنها ارتبطت بخصوصية الشخص أو النص أو تيار.

وهناك آليات تبحث في طرق الوصول إلى الخصوصية الأدبية، عبر مستويات من التحليل Levels of Analysis والمقترح في هذا الصدد أربعة مستويات: الفردي، والجماعي، والمؤسسي، والاجتماعي، ويتوقف على هدف الدراسة المبتغى. فهناك دراسات تنصب على دراسة التميز الفردي في الأسلوب والرؤية لأديب ما، الذي لن يتأتى إلا من خلال دراسة مختلف المعلومات عن هذا الأديب، والولوج إلى نصوصه عبر زوايا منهجية عديدة، وقد تتطرق دراسات أخرى، وتتناول أوجه تفاعل الأديب ثقافيا وفكريا مع محيطه الاجتماعي، أو الجماعات الأدبية والثقافية والفكرية التي انتمى إليها، وأيضا المؤسسات التي عمل فيها، أو ناقشت أعماله. وعندما يتعلق الأمر بالبحث في خصوصية جنس أدبي، فإن المعالجة ستكون على مستوى ما يتميز به هذا الجنس على مستوى الشكل الجمالي والأسلوب اللغوي، وأيضا على صعيد الطروحات الفكرية التي يمكن أن يضطلع بها، ويواكب كل هذا تأصيل مصطلح «خصوصية الرواية العربية» الدال على ما وصلت إليه الرواية العربية من نضج وإبداع وتعبير عن خصوصية الإنسان العربية. لأن نمو المعرفة يستلزم نمو مصطلحاتها، ونمو المصطلحات يعني أن تكوينها يحتوي ما هو نسبي وخاص، مثلما يحتوي ما هو مطلق وعام، حتى يتحلل المصطلح من القيود التاريخية، ويتحلى بالثبات، وهو ثبات يساوي ما فيه من تجريد، بذلك القدر الذي تصبح الرموز والأشكال الرياضية نموذجه الأكمل. وهو نموذج تطمح إليه العلوم بمختلف حقولها الطبيعية والإنسانية، أملا في إدراك خصوصية الوعي بها، ونسبية القيمة، وأن نؤرخ للأفكار من خلال حركة التاريخ، المبينة لما فيه من جانب جامد، أو نامٍ، أو فاعل، أو منفعل، أو أصيل، أو دخيل. فأي تطور في الأدب العربي، لابد أن يُترجم إلى مصطلح، يعبر عن هذا التطور، ويمكن أن يكون المصطلح خاصا بحقبة معينة، أو يكون عاما دالا على شكل أدبي بعينه. وهو ما نطمح إليه في دائرة الرواية العربية، التي صارت راسخة في بنية الإبداع العربي الحديث والمعاصر، على مستوى الشكل والمضمون، فيجب أن تكون لها مصطلحات نقدية تؤرخ لها، وتوضح ملامحها، وتكوّن دائرة متشابكة من المفاهيم الاصطلاحية الخاصة بها، في سائر مراحل تطورها الحديث والمعاصر.

ومصطلح «خصوصية الرواية العربية» يمثل المفهوم المرتكز الأساسي الذي ينبغي أن يجد تأصيلا وتعميقا على المستوى النظري، على الرغم من وجود جهود سابقة في هذا المضمار، إلا أنها قليلة بشكل عام، وغالبا ما يُستَخدم المصطلح من أجل تمييز الرواية المكتوبة باللغة العربية، عن غيرها من الروايات المكتوبة بلغات أخرى، فهو تمييز يستخدم اللغة معيارا أساسيا له، لكن الأمر لا يقتصر على البعد اللغوي، فهناك أبعاد ثقافية وفكرية عميقة، تتجاوز اللغة، وتجعل الرواية معبرة عن ملامح عامة تخص الرواية المكتوبة بالعربية، المعبرة عن/ والموجهة إلى المجتمع العربي. وقد ناقش محمود أمين العالم هذا المفهوم بشكل معمق، في مقال له بعنوان «هل هناك خصوصية للرواية العربية؟» (نُشِرَ في مجلة فصول المصرية) ورأى أن الخصوصية هي عين الذاتية، أي ما تتميز به كينونة الذات عن غيرها من الذوات، لكنها ليست كينونة مغلقة – كما يوهم مصطلحها – بل هي على تميزها الذاتي؛ مفتوحة على الذوات الأخرى من حولها من ناحية، ومتنامية مع حركة الذات ومتغيرات التاريخ من ناحية أخرى، أي أنها صيرورة أكثر من كونها كينونة. فرغم وحدة الخصوصية وتميزها الذاتي، فهي متشابكة متفاعلة مع غيرها من الذوات، وتنمو وتتطور وتتنوع داخل وحدتها الذاتية. فخصوصية الرواية العربية تحمل تميزا إبداعيا، إزاء غيرها من الأعمال الإبداعية، دون أن يعني هذا انغلاقه عنها، أو جموده وتأبيد مميزاته.

يمثّل رأي محمود العالم قاعدة قوية يمكن التأسيس عليها في البحث عن خصوصية الرواية العربية، وإن كان رأيه يميل إلى العموم؛ في محاولة منه، لتقديم رؤية شاملة للرواية العربية في العصر الحديث، بعد مرور أكثر من قرن ونيّف على نشوئها، ووصولها إلى مرتبة عالية من الاستقلالية عن تيار الرواية الغربية، وظهور أجيال عديدة من الروائيين العرب؛ سعوا لترسيخ الشكل الروائي العربي، على مستوى البنى والأساليب والرؤى والطروحات. ويشدد محمود العالم على أن الخصوصية لا تعني انغلاقا، بل تميّزا. وشتان ما بين الانغلاق والتميز، فالانغلاق يجعل الرواية العربية جامدة شكلا وطرحا، مكررة الأسلوب والطريقة، أما التميز فيعني دينامية التغير الإيجابي، الذي يمتاح من تيار الرواية العالمية، وما فيه من تجديد دائم، وبالتالي نتخلص من مفهوم التبعية والتأثر، الذي يعني استلابا حضاريا يطارد الرواية العربية، عندما يقال إنها مستندة في شكلها وبدايتها إلى النموذج الغربي، ويتخذ من الإبداع الروائي في تجلياته كافة دلائل جلية على تميزنا الحضاري. وتلك نقطة مهمة، فالرواية وإن كانت قد نشأت في الغرب، لكنها صارت عالمية مثل فنون وآداب كثيرة، تساهم في نتاجها الإبداعي مختلف الثقافات والجنسيات العالمية، بل صار مصطلح الخصوصية يتميز به المنتج الروائي في خريطة الأدب العالمي، فهناك الرواية اللاتينية (أمريكا الوسطى والجنوبية) وهناك الرواية الافريقية المعبرة عن القارة السمراء، وهناك الرواية الهندية المصاغة باللغة الهندية أو بالإنكليزية، والمعبرة عن المجتمع الهندي الكبير بكل ما فيه من تنوع عرقي وثقافي.
فنحن لا نذهب بعيدا عندما نضيف مصطلح خصوصية إلى الرواية العربية، ونشدد على أنها تيار أدبي، راسخ القدم في الثقافة العربية المعاصرة، ومتفرع من نهر الأدب العربي الممتد منذ قرون طويلة، بكل رصيده الحضاري والعلمي والإبداعي، وأيضا بكل ما زخر به من سرديات كبرى، شعبية ورسمية، شفاهية وكتابية.

القدس العربي