كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

صدور الطبعة الثانية من "قدس الأقداس"

صدرت عن "دار المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر والتوزيع" بدمشق الطبعة الثانية من رواية "قدس الأقداس" للأديب المهندس شاهر أحمد نصر.
وكان الأديب الموسوعي، عضو مجمع اللغة العربية، عبد المعين الملوحي، قد كتب مقدمة الطبعة الأولى للرواية، جاء فيها:
"أرى من واجبي تقديم لمحة عن مؤلف الرواية قبل دراسة الرواية:
- يرى بعض أصحاب المهن من أطباء ومهندسين ومحامين ومعلمين أن مهنتهم العلمية قد انتهت بحصولهم على الشهادات العليا، ولكن مؤلف "قدس الأقداس" مازال يبحث وينتج ويؤلف في مادته، وكان مما أصدر في ميدان الهندسة وهو ميدانه الأصلي ما يلي:
ـ الهندسة الصحية بين النظرية والتطبيق؛
ـ تصميم المنشآت البيتونية والبيتونية المسلحة – في أمثلة عملية؛
ـ تصميم الأبنية العالية على أحمال الزلازل.
ويرى بعض أصحاب المهن، من أطباء ومهندسين ومحامين ومعلمين، أن يقتصروا على ميدانهم في مهنهم، فلا يتجاوزوه إلى غيره من الميادين، مع أنّ الثقافة العامة ينبغي أن تكون قاسماً مشتركاً في كل مثقف، وهذا ما فعله مؤلف الرواية فقد نقل اهتماماته بعد اهتمامه باختصاصه إلى ميادين ثقافية واسعة، فأصدر من الكتب ما يلي:
ـ من أجمل ما كتب بوشكين ؛
ـ عبد المعين الملوحي – أمير شعراء الرثاء ؛
ـ من خفايا ثورة أكتوبر في روسيا .
بالإضافة إلى العديد من المقالات والأبحاث العلمية والاجتماعية والأدبية.
هذا وقد كنت دعوت مراراً إلى أن يكون كل صاحب مهنة مهما كان اختصاصه مشاركاً في الثقافة الإنسانية العامة، لأنّ هذه الثقافة توسع نظره ومعرفته حتى في نطاق اختصاصه، وهذا ما فعله الأستاذ شاهر.
هناك جانب ثالث من جوانب شخصية المؤلف لا بد من ذكره؛ قال مكسيم غوركي: "وجدتها .. وجدتها … نعم إنّ عادة الحياة في شرف هي ما تنقص الإنسان".
(مكسيم غوركي ـ مذكرات جاسوس ـ ترجمة: عبد المعين الملوحي؛ ص-54-55)
ومؤلف الرواية مثل بطلها تعوّد الحياة في شرف، إنّه إنسان يستعصي على الفسـاد، وقد كان كذلك في مراحل حياته المختلفة في دراسته وفي عمله، وستمر بك في الرواية مواقف بطلها في حرصه على عادته في الحياة الشريفة.
ولننتقل بعد هذه المقدمة الضرورية إلى رواية "قدس الأقداس":
1 ـ تدل هذه الرواية على مقدرة الكاتب في إثارة الموضوعات الإنسانية والقومية والنضالية إثارةً تمس ضمير الإنسان وتدفعه إلى طريق الحياة النظيفة والعمل الشريف.
2 ـ ثم إنّ عنوانها "قدس الأقداس" ينقلنا إلى عالمنا العربي عموماً وإلى فلسطين خصوصاً وإلى القدس التي تئن تحت أغلال الصهيونية وتنادي: هل من مغيث؟ ولا مغيث.
3 ـ الميزة الثالثة في الرواية أنّها تمزج الذاتي بالعام ليكوِّنا معاً صورةً متماسكة لنضال إنسان نشأ في الريف، ثم درس دراسة عالية في الاتحاد السوفياتي ثم مارس عمله في نزاهة.
4 – تصور الرواية حياة طالب جامعي حريص في الدرجة الأولى على دراسته وعلى اكتساب العلم ليعود إلى وطنه مزوداً بالمعرفة التي يجب أن يسخرها لبناء وطنه ورفع دعائم حضارته، ولكن هذا الطالب الجاد لا يحرم نفسه من المتعة حيناً بعد حين، هذه المتعة التي تعينه على عنائه في دراسته، فكأنّه يردد قول الشاعر:
ولَمْ يُنسِني لَهْوُ الحياةِ دراستــي ولم يُنِسني جدُّ الحياة التساليـا
ويعجَبُ مِنّي اللَّيلُ تَصحو نُجومه وتَغفو تَراني دارساً ثم لاهِيـا
وخَيْرُ السَّجايا أن تُوزِّع مُنصِفـاً حَياتك : شطريها حليماً وَغاويا
5 ـ ونرى في الرواية أنّ الهموم الوطنية تسير جنباً إلى جنب مع الهموم الشـخصية، بل الهموم الوطنية كانت سبباً مباشراً في إثارة كثير من الهموم الشخصية، ولولاها لزال قسم كبير من الهموم الشخصية.
6 ـ الرواية حريصة على التقيد بالواقعية الإنسانية بمعناها الواسع وذلك عندما تقدم نموذجاً للإنسان الحر الذي لم تفسده المطامع، ولم يسقط في مستنقع الفساد، والذي انتصر بإبائه ووجدانه على السماسرة الذين يتاجرون بآلام الوطن الحزين، إنّها تصور كفاح رجل شريف يحاول شق طريقه في مجتمع ينخره سوس الفساد، ليصبح مجتمعاً حضارياً تقدمياً نظيفاً.
7 ـ ولكن واقعيتها لم تحرمها من نفحات رومانسية ناعمة في المرأة والحب ووصف الطبيعة وصفاً دقيقاً فكأنّ الكاتب شاعر في كثير من مواقف روايته إلى جانب أنّه روائي.
8 ـ تعكس الرواية ارتباط عربي بفلسطين وبقدس الأقداس خاصة، وتتميز رحلته إلى بيت المقدس بروح قومية أصيلة وبوصف دقيق لمعالمها والأماكن المقدسة فيها. فلسطين هذه التي تخلى عنها بعض العرب عملياً كما تخلوا عن لبنان وتركوهما يواجهان وحيدين استعمار أمريكا ممثلاً بعميلتها الصهيونية.
تلك بعض المزايا في رواية "قدس الأقداس" تنتظم فصولها منذ كان (الاسكندر) ابن قرية حتى أصبح طالباً جامعياً ثم موظفاً نزيهاً ثم أباً يلوب ليجد خبزاً لأولاده حين كلفته نزاهته ونظافة يده وضميره إقصاءه من عمله وحرمانه قوت أطفاله.
أما الفن الروائي في هذه الرواية فهو فن لا يتقيد بقواعد الرواية التقليدية ولا يخرج خروجاً مطلقاً على أنماط الرواية الحديثة، جاء في كتاب (سلامة عبيد) – الأدب الإنساني – تأليف الأستاذ فوزي معلوف ما يلي:
"وقد عرفنا من شوامخ الإبداع الروائي أن ليس ثمة قاعدة واحدة للتشكيل الروائي، هذا الذي لا حدود له.
إنّ الرواية مثل كل إبداع جديد أفق مفتوح لا سبيل إلى مطاولته بغير التذوق والكشف والتعرف."
وهذا ما فعلته رواية "قدس الأقداس" حين كانت إبداعاً جديداً.
وإليكم ملخص الرواية، وهذه المقتطفات التي تدل على حياة بطل الرواية وجده ولهوه وشاعريته. والتلخيص لا يغني عن قراءة الرواية:
تجري أحداث الرواية في بقعة ما من الوطن العربي لا يحصرها الكاتب في بلد محدد لأنّ أحداثها وشخصياتها تعيش في جميع الأقطار العربية تقريباً، فهي تكتسي طابع الشمولية..
في "مخاض الربيع" يصور الكاتب البيئة التي ولد فيها الاسكندر: "كملايين الأسماء وحدت ملحمة الفقر جسده مع الأم الكبرى"… ونعلم في هذا الفصل أنّ الاسكندر يعيش حياة ثانية؛ فهو في الأصل من مواليد القدس سحقت جسده جنازير دبابات العدو بعد خروجه من مدينته الأصلية "القدس"..
وفجأة يجد نفسه ضمن تنظيم ديموقراطي يسعى للارتقاء في تحمل مسؤولياته تجاه مجتمعه.. وتقابل تلك التنظيمات بالمحاصرة والقمع من الجهات الرسمية لحصر النشاطات في مؤسسة واحدة.
في " تقاسيم صيف قائظ" تبدأ المواجهة، و تتصاعد المواجهة إلى ملاحقة ووضع العقبات أمام الاسكندر لمنعه من السفر لمتابعة الدراسة.. إلاّ أنّه يتمكن أخيراً من السفر ليعيش "الدفء في أحضان ثلجية" حيث "سحرته عظمة الإنجازات بالنسبة للماضي المتخلف التي حققها الشعب في ذلك البلد العظيم (الاتحاد السوفياتي) ويتعرف على فاديم وناديجدا (زوجته لاحقاً) زميلي الدراسة… ونجد في هذه الفصول لوحات فنية عن حياة الدراسة والراحة والعمل في معسكرات الطلبة في أدغال سيبيريا وسهوب كازخستان ومالدوفا… يعكس من خلالها تجربة شعب بطل في الدفاع عن استقلال بلده وبنائه.. مع بعض الانتقادات لحالة الفساد التي أخذت تعشش في تلك المجتمعات وتهدد بنيانها..
"صفحة فضية رقراقة يجرفها تيار نهر الدنيستر الصامت بين غابات مالدوفا غير بعيد عن الحدود الرومانية، عاكساً ضوء القمر الخجول الباهت.
حلْم الكون الشفاف يُردد صدى شدوٍ متقطعٍ لنجوى طير من طيور الليل يبيت على فنن في أعماق الدوح.
ملاكان يتعانقان فوق صفحة الماء في مركب تشده إلى اليابسة وشائج مودة."
ثم نتعرف على التحول المفاجئ في علاقة فاديم بالاسكندر: "لم يجد مسوغاً في حينه للحقد في موقف أخ وصديق إلاّ نار الغيرة المجنونة على الحبيبة الشموس ناديجدا"..
في "الأصياف القائظة" لم يجد الاسكندر مبرراً لبقائه أكثر في البلد المضيف فحمل شهادة هندسية وما استطاع من خبرة وثقافة "وقصد حقل الألغام"، حيث يجد هيام متزوجة من غيره، والتحول الكبير وانهيار المثل العليا، ويسرد الكاتب لوحات قاتمة من الانحطاط والجريمة.. ولا ينسى فسحة الأمل: "فأصحاب الوطن الغيارى على مصيره، أصحاب الأخلاق الرفيعة والشرف والنزاهة يبقون دائماً في ضمير ووجدان أعماق المجتمع، يسعون لصون غرسة الأمل من اللصوص الذين يستنزفونها، ويدّعون حمايتها".
ويقرر الاسكندر سلوك طريق جديد إلى القدس: "الانخراط في المعركة هو السبيل إلى القدس، إنّه أقصر السبل إليها".. وفي إحدى المعارك يصطدم فجأة بفاديم الذي يتبين أّنّه صهيوني.
.. ثم يعود إلى الحياة المدنية يبحث عن سبل جديدة تقوده إلى مدينته الحبيبة الضائعة – القدس..
وفي "سعير الأشتية" يبحث الاسكندر عن عمل ويقدم نموذجاً من الإنسان الذي لا يطمع في المناصب بل يقدس العمل ويسمو إلى أرق المشاعر الإنسانية .. " تكتمل إنسانية الإنسان عندما تألفه العصافير، ولا تجفل في الأدغال آن اقترابه منها."
ونعيش معه الجو العام من الفساد الذي يخيم على الجميع ويطوقه فيبدو شاذاً في هذا الوسط، وتتشعب مشكلات العمل ويزداد الخناق حوله.. يحاول خرق الشباك المقيدة عن طريق الزواج، علَّ الزوجة تساعده في الكفاح.. ويسارع بالزواج من فتون..
يستمر حصار الاسكندر في وسط مشوه.. ونتعرف على الصراع في الشركة ورفضه تنفيذ ما لا ينسجم مع قناعاته والترقية على حساب الآخرين.. مما يدفع مدير الشركة إلى إنهاء خدمته لعدم تنفيذه رغبات الإدارة التي لا تنسجم مع المصلحة العامة؛ فنعيش معه مرارة البطالة لشاب متزوج حديثاً ولديه طفل ويؤسس حياته بالاعتماد على نفسه والانسجام مع القيم والمثل العليا:
"– أنت لا تفكر إلاّ بقيمك ومبادئك. تسأل نفسك: ماذا سأقول للأنبياء والرسل والمفكرين الذين علمونا الأخلاق والفضيلة.."
في هذه الظروف المعقدة والصعبة يبدأ الاسكندر في البحث عن عمل من جديد.. وتغلق أمامه الأبواب.. بمساعدة التنظيم يحصل على عمل في منشأة أخرى من منشآت القطاع العام يقودها الريس مَزيد المزاود كأنّها ملك له.. ويبدأ صراع الاسكندر مع إدارة المنشأة..
الفساد يعم جميع المفاصل ليشمل التنظيم الذي عول عليه... "لقد تفاقمت روح الانتهازية والوصولية والنفاق في صفوف التنظيم، ولم يعد عمله ينسجم مع الأهداف والشعارات التي يرفعها.."
تزداد حدة الصراعات في المنشأة… ضاق الاسكندر ذرعاً: "وراء كل منشأة خاسرة مدير رابح" عنوان مقال تصدر الصفحات الداخلية من صحيفة يتيمة" تزداد الضغوط على الاسكندر بسبب نشر المقال.. وينقل من عمله إلى دائرة نائية.. يترافق ذلك كله مع تصرفات منكدة في علاقته الزوجية.. ويبحث عن المفقود ، فيجده في الحـب. "لن يحقق الإنسان إنسانيته إلاّ في الحب.. إن لم أجدك يا حبيبتي في واقعي، سأنسجك في رؤى أحلامي.."
ويلتقي بالمحامية والأديبة الواعدة سوسنة.
تستمر معاناته في العمل ويزيد بؤسه مرارة مطالبته إخلاء البيت الذي يستأجره: "البارحة هجَّرني العدو من القدس، وها أنا ذا اليوم أهجر من جديــــد".. "ـ ثلاث أمنيات أحلم ألا أموت قبل أن تتحقق؛ أولها: أن أعيش لحظات من الحرية بعيداً عن قوانين الطوارئ، ثانيها: أن أجد رغيف خبز غير مشوه، وثالثها: العودة إلى القدس."
يتعرف على أروى المتدينة، ونتعرف من خلال أحاديثهما على موقفه من الدين والتقاليد والأعراف والحجاب: "...الحب يوحد الناس جميعاً أمام إله واحد، لا يحق لأي إنسان مهما كان تعمقه في الإيمان أن يتهم الآخرين بالإلحاد..."
وفي "فصول التداعي" يشارك الاسكندر في لجان التحقيق في المخالفات والفساد:
"تستطيع ورقة التين أن تغطي عورة إنسان، لكن ورقة محاضر اللجان لا تقدر أن تغير من نوعية المواد، أو سلوكها في الاستثمار."
ويصف لنا الكاتب البون الشاسع بين حياة الشرفاء والنزيهين وحياة المختلسين الفاسدين وتعرضه للمساءلة والاستدعاء للأمن العام لممارسة الضغط عليه علَّه يعدل مواقفه دون جدوى... في هذه اللحظات يلتقي الشرفاء من مختلف المشارب والألوان: علمانيون ومتدينون" إنّ الحقيقة والنقاء تجمع الأنقياء".
في "ربيع الآفل" تطلب فتون الطلاق، والقاضي سوسنة لا توافق.. وتدفن حبه لها وحبها له.
مع ازدياد الخناق يلوح الأفق... " وقادت الأقدار الاسكندر إلى بيت الأهل في القدس بعد غياب...
" ها أنا ذا أحقق حلم أحلامي – يقول الاسكندر - لأول مرة أشعر أنني لا أخاف الموت. لقد عدت إلى بيتي وأهلي، لقد عدت إلى قدسي. لم أعد أخشى الموت. فلتضمني يا قدس في حنايا ترابك.."
وكما افتتح روايته يختتمها الكاتب بفسحة أمل في أجواء مكفهرة :
"في سبيل قدس الأقداس، الحياة جديرة أن تعاش.
من أجل أمور لا تنتهي، الحياة جديرة أن تعاش".
كلمة ختامية :
1 ـ إنَّ الروح الأدبية ليست حكراً على الأدباء والمحترفين، فالمؤلف مهندس مدني وهو من الذين يجمعون بين العلم والثقافة.
2 ـ هذه الرواية هي أول رواية له، وإن لم تكن أول أعماله الأدبية، وقد مرّ بنا إن الرواية الأولى لكل مؤلف تحمل جزءاً غير قليل من حياته ومعاناته الشخصية، وهذا ما يتجلى في حياة الكاتب وروايته.
3 – الرواية جيدة في أسلوبها وفي لغتها إضافة إلى موضوعها القومي وهدفها الإنساني.
أرجو مثلما أتوقع للأخ المهندس والأديب شاهر أحمد نصر نجاحاً باهراً في حياته المهنية والثقافية.
دمشق 25 / 4 / 2000 عبد المعين الملوحي"