كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

قِصة الأمير عليّ بن بدران ومنتجب الدّين العانيّ

غزوان أحمد علي

عُرفَ عنِ الأمير عليّ بنِ بدران الكرمُ، سَواءٌ في الخُلُق أم في المال، فقد كان عارفاً ميسورَ الحال يقصدُهُ النّاس من كلّ حدبٍ وصوب، وله قِصة مع منتجبِ الدّين العانيّ يَحارُ السّامعُ لها في أيِّ الكَرَمَين أبلغُ عندَه!
أفي الخُلُقِ أم في المال؟
فعندما ضاقتِ الحالُ بمنتجب الدّين العاني شدَّ رحالَه وأخبرَ أهلَ بيتِهِ أنّه راحلٌ إلى الأمير عليّ بنِ بدران، لعلّ الحالة تُفرَج، وقال المقرّبون منه إنّما ذهابُه إلى الأمير عليّ لأجلِ وحدةِ الكلمة ووحدة المدرستين...
شدّ الرّحال، وسارَ في اللّيل والنّهار، وعندما اقترب من حِمى الأمير جلسَ إلى شجرةٍ وربط راحلته، فإذا به يسمع شخصاً في سفحِ التّلّ يُنشدُ شِعراً لجماعة ثم يشرحه لهم، فتعجّب المنتجب! فالشّعر الذي يسمعُه هو شِعره!
فسارع نازلاً إلى الجماعة، وبعد السّلام تدخّلَ في الشّرح على أنّ الشّاعر قصدَ غيرَ ما فُهم منه، فردّ مُعلّمُ الجماعة (الأمير علي) قائلاً:
وكيف تعرف غاية الشاعر؟ فقال: أنا المُنتجب صاحبُ الأبيات!لا يتوفر وصف للصورة.
رحّب الأمير عليّ بنُ بدران بالمنتجب أيّما ترحيب، وأكرمه أيّما إكرام، وأخذ عليه العهودَ والمواثيق ألّا يُغادرَ حتى يُعلّمَ الناسَ ما يكتنزه من العلوم العِرفانيّة، وافق المنتجب، وهو العارف العِرفانيّ...
وبدأ كلّ يوم في مَهمّةِ التّعليم، وبقيَ قُرابةَ عامٍ يقوم فيه كلّ يومٍ بما طُلب منه، ولكنّه وفي كلّ حين يحاول أن يُلمّحَ للأمير إلى فقره وعوزه، لكن وفي كلّ مرةٍ كان الأمير يُشيح برأسِهِ، ويرفضُ أن يفهم!
تحيّر المُنتجب وراعه الأمر!
"أهذا ما سَمِعَهُ عن كرمِ الأمير علي بن بدران"؟
كان في كلّ صدّ يفكّر في نفسِهِ: "أهذا هو الكريم"؟ إلّا أنّه التزمَ بوعده، وبقي يُكمل تعليمَ الجماعة...
وفي آخرِ يومٍ، وبعد أن أكملَ ما وَعَدَ به تلفّتَ إلى الأمير في لحظات الوداع، وللمرّة الأخيرة يُحاول أن يُلمّحَ له إلى فقرِ الحال، وأنه سيعود إلى أهله خالي الوفاض! ولكن هيهات!
فحتّى في الوداع كان الأميرُ حازماً؛ بل شكرَهُ على تدريسِهِ للنّاس وعلى جُهدِهِ في ذلك، وقال له مُودّعاً: "اذهب، رافقتك السّلامة".
أسرّها المُنتجب في نفسِهِ ولم يُجب، حَزِنَ كثيراً، وشدّ قافِلاً إلى أهله وهو يَحار فيما سيقوله لهم!
"أهذا هو الأمير بنُ بدران من يتحدّث النّاس عنه في الكرم"؟
وفي طريق العودة، وتحتَ شجرةٍ بهبّود [هبّود: مِنطقة مرتفعة من الأرض] نازعَتْهُ نفسُهُ أن يهجو الأميرَ علي، وبدأ فقال:
.
[إنْ كُنتَ لي صاحباً قِفْ لي بهبّودي
..................... وقل لعينيكَ في أطلالِها جُودي]
.
وحاولَ أن يُكملَ ولكنّه لم يُفلح، حاولَ جاهداً، وهو الطّليقٌ في الشّعر، ولكن هيهات! سُدّت قريحتُه! فتعجّب لذلك!
أكملَ مشوارَ العودة، وفي القلب غصةٌ كادت أن تبلغَ شِعرَه!
ولكن حينَ وصلَ إلى مشارفِ أهلِهِ، راعَهُ ما وجد، فبيتُه الذي تركه منذُ سنة ارتفعَ أكثر، والأولادُ يمرحون حولَه يلبَسون أجملَ الثياب، والخيرُ يبدو في كلّ مكان، وعلائمُ يُسرِ الحال تبدو على الجميع!
فتعجّبَ، وسألَ: كيفَ هذا؟
فقالوا: أوَلَيسَ منك؟ ألم تبعث لنا أنتَ بكلّ هذا؟ كان يُخبِرُنا الرسولُ أنّكَ في تجارةٍ رابحة، وقد منّ الله عليك...
عَرَف المُنتجب ما حدث! لقد كان الأمير علي بنُ بدران يبعثُ لأهلِهِ طوال فترة مكوثِهِ في ضيافته!
يالله! وأنا الذي كُنتُ سأهجوه!
مسكَ قلبَه مِداداَ ليكتبَ قصيدةً من روائع الشّعر العالميّ، يذكُرُ فيها حنينَه إلى أكرمِ مَنْ رأت عيناه، مُكملاً بيتَه الشّعري الذي مُنعَ أن يُكملَهُ وقتَ سوءِ الفهم، قائلاً:
.
إنْ كُنتَ لي صاحباً قِفْ لي بِهبّودِي
.................. وقُلْ لعينيكَ في أطلالِها جُودي
وليلةٍ بِتُّ أجلوها بشمسِ ضُحىً
................ صهباءُ تُخبرْكَ عن نوحٍ وعن هودِ
إلى عليٍّ بنِ بدرانَ الجوادِ خِدي
....................... ربّ المكارمِ نجّازِ المواعيدِ
.
قد كانَ ذاكَ ووقتي يانعٌ نَضِرٌ
.............. والعيشُ غَضٌّ وغصني ناعِمُ العُودِ
بانَ الشّبابُ فبِنَّ الغانياتُ ومَنْ
................... يشبْ يجدْ طولَ همٍّ ثمَّ تنكيدِ
لو كانَ يُرجى لماضي العيشِ مُرتجعٌ
........................ لقلتُ بالله يا أيّامنا عُودي
.
أمّا حيرة الناس في تلكم القصة، وفي أيّ الكرمِ هو أبلغُ عند الأمير علي بنِ بدران، أهو في ماله أم في خُلُقه، فهو في ختامها، فقد بعث المُنتجب برسالةٍ إلى الأمير يسأله فيها:
"لماذا لم تقلْ لي وأنا عندَكَ أنّك أرسلتَ تُكرِمُ أهلي باسمي؟
.
فكان رد الأمير:
"ما كنتُ لأتحمّل من عينيك نظرةَ الامتنان والشكر، وأنتَ المُنتجب"! 
ملاحظة من فينكس: يوجد مقام الأمير علي بن بدران في محافظة الحسكة، قرب المثلث السوري- العراقي- التركي، وقد سبق أن جدده -قبل أكثر من ثلاثين عاماً- الشيخ العارف بالله العالم حسين سعود (حلبكو)