كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

حروب العشرية الثالثة

عتبة رابعة نشخّص فيها ثقباً أسود في تاريخ الشرق الأوسط. مقالة اليوم في "الأيام".
حروب العشرية الثالثة (43)
حسن خضر
الأمير أندرو هو أحد الذين طالتهم فضيحة إبستين. ولا يعنينا من أمر سليل العائلة المالكة البريطانية هذا، سوى حادثة وردت في كتاب عن سيرته، غير المُشرّفة، صدر في بريطانيا قبل أسابيع. وفي التفاصيل أن أربعين امرأة من بائعات الهوى، من الفئة الراقية طبعاً، تناوين على تقديم خدمات جنسية للمذكور خلال رحلة استجمام وعمل في العاصمة التايلاندية بانكوك. والأكثر إثارة، في هذا كله، أن الأمير "وهب" حريمه، في نهاية الزيارة، لأحد معارفه من "الأثرياء العرب".
ينفتح تفصيل "الثري العربي" على احتمالات وتأويلات مختلفة منها الحياة المزدوجة "للأثرياء العرب" بالمعنى الأخلاقي. ولكن التأويل الأهم، هنا، هو شبكات المال والبزنس، التي يشكّل هؤلاء جزءً من مكوّناتها. وعلى الرغم من كونها عابرة للحدود والثقافات والأوطان، إلا أنها محكومة بمراكز للقوى ما زالت في يد الأميركيين حتى الآن.
وإذا كان ثمة ما يبرر الاجتهاد، في هذا الجانب بالذات، فلا ينبغي إسقاط فرضية من نوع أن قوة الإسرائيليين، في الإقليم والعالم، تعتمد في جانب كبير منها على علاقتهم الاستثنائية بالمركز الأميركي وما يتصل به، ويتفرع عنه، من شبكات مالية وتكنولوجية وأمنية وعقارية وسياسية، أيضاً، علاوة على مركزية الشبكات نفسها في السياستين الخارجية والأمنية للدولة الإسرائيلية نفسها.
وبهذا المعنى، وعلى قاعدة تشابك العلاقات بين صاحب المال وصاحب السلطة (وهما واحد في حالات كثيرة، خاصة في العالم العربي) يمكن العثور في الشبكات المعنية على ما يفسّر تحوّلات كثيرة، من نوع سلام إبراهيم، وحُمى "التطبيع"، بل وما يفسّر حروب القوّة الإسرائيلية، في بلاد الشام. وبهذا المعنى، أيضاً، وفي حالات، لا يصعب تعيينها، يمثل "الأثرياء العرب" حصان طروادة، في بلدان ومجتمعات مختلفة، على مستويات مختلفة أيضاً.
ومع هذا في البال، ثمة مفارقة لا تخفى على اللبيب، فالشبكات المعنية، وعلى الرغم من دورها الحاسم في رسم المصائر والتلاعب بها (نتكلّم هنا عن مصائر شعوب ومجتمعات) إلا أنها تكاد تكون مجهولة، تماماً، بالنسبة للغالبية العظمى من الناس، حيث لا تتوفر معطيات كافية بشأنها، ولا تحتل مساحة تُذكر في وسائل الإعلام.
وطالما وصلنا إلى هذا الحد صار في الإمكان العودة إلى مسألة إبستين استناداً إلى فرضية أنها تمثل شبكة، وأن الشبكة عابرة للحدود، ومتعددة الجنسيات، لا يقتصر نشاطها على المال، والمتع الدنيوية المنحطة من نوع دعارة الأطفال، بل ربما كانت مجرد واجهة لأجهزة أمنية في دولة أو أكثر لممارسة الابتزاز، والحصول على المعلومات، وتحقيق سياسات بعينها من وراء ستار. وفي هذا، ما يأخذنا، بالتأكيد، إلى أعضائها "العرب".
ذكرنا في معالجة سبقت أن المحققين عثروا في خزنة إبستين على عدد من جوازات السفر، ومنها جواز نمساوي، منتهي الصلاحية، يبدو أن المذكور استخدمه في الثمانينيات، وعليه أختام تدل على زيارته لعدد من الإبراهيميات، وعلى إقامته في واحدة منها.
وعلى الرغم من معلومات كثيرة، في هذا الصدد، بما فيها صور نشرتها نيويورك تايمز، إلا أنني أود التركيز، هنا، على عدنان خاشقجي، تاجر السلاح السعودي، الذي كان عميلاً لنصف دستة، على الأقل، من أجهزة المخابرات في العالم، بما فيها الإسرائيلية، وبرز اسمه في فضيحة إيران ـ كونترا، في زمن الحرب العراقية الإيرانية، وهي التي أطاحت به في نهاية الأمر.
خاشقجي هذا تعثر عليه أينما يممت وجهك. وإذا صدقنا جوزف ترنتو في "على الطريق إلى الإرهاب" (2006) فقد أفردت له السي أي إيه مكانة خاصة في الشرق الأوسط، على مدار عقد كامل من أواخر الستينيات وحتى أواخر السبعينيات. كما ربطته علاقة خاصة بالإسرائيليين، خاصة في زمن الحرب العراقية ـ الإيرانية، إذا صدقنا الإسرائيلي آريه بن مناشي في "أرباح الحرب" (2015).
وبقدر ما يتعلّق الأمر بشبكة إبستين فمن الواضح أن أكثر من خيط جمع خاشقجي بإبستين وشبكته. فالمحامي النيويوركي الشهر، وشبه البلطجي، روي كوهين، الذي تربى ترامب على يديه، كان محامياً لخاشقجي، وإبستين، وترامب. إبستين عمل مستشاراً لخاشقجي في إدارة أعماله (ربما في فنون التحايل على الضرائب وغسل الأموال) أما ترامب فهو الشخص الذي اشترى يخت خاشقجي الشهر "نبيلة" بعدما ضاقت عليه الدنيا.
وقد ذهبت ويتني ويب، وهي صاحبة أفضل تحليل لشبكة أبستين وسيرته وعلاقاته "أمة واحدة تحت الابتزاز" (2022) إلى حد القول إن إبستين ربما تعلّم فنون الابتزاز من عدنان خاشقجي.
لا وجود لصيغة نهائية لتاريخ بعينه، ثمة تواريخ مختلفة، يقع الكثير منها في باب المكبوت والمسكوت عنه. وفي هذا المعنى تتموضع تحوّلات أسهم فيها خاشقجي، وصارت تاريخاً، منها ما سبق لمحمد حسنين هيكل أن كشفه في الكلام عن "نادي السفاري" في أواسط السبعينيات، الذي ضم مصر والسعودية وإيران والمغرب "لمكافحة" الشيوعية في افريقيا، وفضح الإيرانيون حقيقته بعد الإطاحة بالشاة.
على أي حال، يكفي القول إن عدنان خاشقجي كان حلقة وصل أولى، ولا غنى عنها، في تفسير شبكة إبستين، أما كيف تطوّرت، ومن التحق بها من الإبراهيميين فهذه مسألة أُخرى. وكل ما في الأمر، أيضاً أن خاشقجي كان يوزّع النساء، كما يوزّع أغلى أنواع النبيذ، على ضيوفه، كما ذكر رونالد كيسلر في "أغنى رجل في العام: قصة عدنان خاشقجي" (1986).
والمفارقة، والعهدة على الراوي نفسه، أنه أنفق مئات الالاف من الدولارات على بناء المسىاجد. وبهذا نكمل عتبة رابعة واخيرة في مسالة إبستين.

في الصورة خاشقجي مع إحدى نسائه