كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

بحرٌ من أوهام

د. كمال خلف الطويل

الحديث عن "الشام" كالإبحار في خلجان صعبة, وبالخصوص في شأن شطره الأكبر: سوريا؛ وهي المبتورة من أشطاره الطبيعية الثلاثة الأخرى.. الأضعف من بلدين عربيين مركزيين, مصر والعراق, برعا في التنافس عليه/ا, لفائق أهميته/ا بمطلق ولهما بتحديد.. فضلاً عن بلد مركزي ثالث, السعودية, لطالما وجد فيه/ا بيتها المالك وطناً قومياً ثانياً له.. والمحفوفة بشطرها الجنوبي؛ لا المستلب منه فحسب بل والمنزرع فيه كيانٌ احلالي عنصري كولونيالي هو امتداد متقدّم للغرب الجماعي, الاستعماري والمهيمن.
وبعلم أن كثيرين كابروا وما فتئوا في ترديد أزعومة تنشّؤ هويات قطرية صلدة عبر عقودٍ تلت سقوط الدولة العثمانية, وتمثّلت في كيانات لا بدّ! باتت عفّية ومتماسكة مجتمعياً, وأوشكت على لبوس إهاب الوستفالية: دولة – شعب بأناقة. لكن واقع القرن المنصرم لم يتوقّف عن البوح بحقائقه: نحن الكيانات القطرية – بل وحتى التاريخية منها؛ وهي مصر والمغرب واليمن وعمان – لسنا سوى أكياس قرابيات؛ رحمية (عشائرية وجهوية واثنية) وروحية (طائفية ومذهبية؛ وأضيف العلمانية ديناً), وتتباين ملاطاتها الجامعة بتأثير عاملين: تاريخية الكيان, ودرجة التدخل الخارجي.
صحيح أن ومضة انعتاق من الروابط الدنيا لصالح رابطة أعلى وأشمل – عروبية – لاحت ما بين نيسان 55 وأكتوبر 73, لكنها, بفعل قرابيات سعت أن تجلس في حِجر المهيمن, راحت تخبو رويداً حتى صارت بالكاد مرئية في نوفمبر 77, ثم انطفأت بالتمام في آب 90. مذّاك, عادت مجتمعات الأشطار الى ولاءاتها الأدنى, ممسوكةً بقبضات سُلَط مركزية صارمة منعت احترابها ولو لحين.
تساءل سائل: لِمَ احتمالات الاحتراب بينها؟ أخذنا ذلك الى متلازمة الهيمنة الغربية على العرب/اسلامدار: التجزئة – النهب – المخفر (غول الجنوب) – قرابيات موالية وحاكمة للأشطار – اجهاض التطور المجتمعي عند سقف 1924 – شيوع نمط الريع (ما قاد الى تناتشه بين القرابيات؛ ومن ثمّ الفساد) – تغريبيةُ نخب احتُلَت عقلياً ومعرفياً, فباتت الهيمنة عندها اكسير حياة.
ماذا كانت النتيجة, بعد قرن على الهيمنة, وثلث قرن على فشل محاولة الانعتاق منها؟
فشلٌ مأزومٌ أفضى الى تلاشي "الدولة" القطرية, وأمثلة سوريا وليبيا واليمن حاضرة, وحتى الجزائر وتونس وموريتانيا فمرشّحة؛ بل ومصر ليست نائية عن تلك الصيرورة.
بعد التوصيف العمومي, يأتي التخصيص السوري:
1- لم تكن سوريا/ 46-58, ثم سوريا/ 63-70, ثم سوريا/ 2011 ولتاريخه سوى ذاك القميص المتشقّق بحمولته القرابية المثقِلة: ثلثان من عرب سنة – منبثّون على كامل جغرافيتها -, وثلث من حوالي عشرين قرابية سواهم. حفلت تلك الفترات بتدافعات قرابية متواترة اتّخذت لبوساً عصرياً أينعم, لكنها في العمق ما كانته فعلاً وحقاً (صراع القوتلي والأطرش, بواسطة الشعبيين.. اعدام سلمان المرشد.. اغتيال محمد ناصر ومجيب المرشد.. تركيبة انقلابيي الزعيم والحناوي والشيشكلي.. تمرد الدروز في يناير 54, ثم اجهاض آخر في أكتوبر 56, ثم آخرهم - من القرن الفائت - في أيلول 66.. التمرد الاخواني المسلح: 76-82.. وقبله بروفة حماة/ نيسان 64.. ونواة هبّة سنّية في مايو 67 فرملتها أزمة الحشود الإسرائيلية فالحرب). الاستثناءان البارزان كانا: سوريا/ الوحدة, و"الفضل" في ذلك, أضف لشعبية عبد الناصر ومشروعه الطاغية, كان لعبد الحميد السراج (سلطة مركزية صارمة), فيما سقوطها كان بهمّة خصمه عبد الحكيم عامر.. وعقود حافظ الأسد الثلاثة, وكانت من مرحلتين: نصف ليبرالية, وإن صارمة: 70-80, واستبدادية, غالت في حماة 82 وباقي عقدها: 80-00.
ما معنى ذلك؟ لا يخدعنّ أحد نفسه: الاستبداد – بالتعريف الكواكبي, لا الطغيان؛ وهو فرط الاستبداد – شرط لازم للامساك بتلابيب "شبه دولة", وإلّا ذهبت شيَعاً. فرطُه, في المقابل, وصفةُ تشقّق أشدّ من حالته الكمونية بدونه. ذلك ما كان حال صدام – ما بعد 79, وبشار- ما بعد 2011.
2- أن خلفية الهيمنة لابثةٌ في حياة مجتمعاتنا الشائهة: تُفعّل المخفر, تسوس قرابياتها الوكيلة, تُحرّض على قرابيات متمرّدة, تنهب بالخفاء والعلن, تنسلّ - بالأنجأة وغيرها – الى عقول وجيوب نخب مدينية فتستلبها بالطول والعرض, وتنبثّ بين شرائح مجتمعية بالغواية: المرأة والعشائر مثالان. أسقِطْ كل هذه العناصر على الساحة السورية, ما بين 2005 و2011, تجدها كلها مبثوثةً في خلّاطة فائرة.
3- نصل الآن الى سوريا الحاضر: أُسقطت قرابية, بغلبة علوية وإنْ غير محتكِرة, وحلّت مكانها قرابية أكثروية – عربية سنيّة – متغلّبة بانفراد, كانت قلّة خبرتها بدياجير السياسة والسَوس بادية, رغم ذكاء كبيرها وسِماته, وهو الذي دأب, منذ تموز 2016 وبالأخص بعد آذار 2020, على توسيع مداركه وصلاته ومعارفه طلباً للحظةٍ سعى اليها بدأب مثابر. لكن مفاجأة الفوز المبرَم ثلمت جاهزيته, فراح مرةً يمتدح أنور وأُخرى يُجلّ ناصر, وفي كل المرات طامحاً للتدثّر بعباءة الولايات المتحدة عساها تصدّ عنه غائلة الغول المتربّص في الجنوب, مبتغياً رأس سوريا. ثم هناك في معيّة المهيمن حلفاؤه الاقليميون, من ترك وخليجيين, فمَن سواهم بأقدر على عون سوريا على النهوض من عثرتها, أو هكذا بدا له. راهَن, وما انفكّ, أن كل ذاك المعشر مدينٌ له باسنادٍ, لتقويضه نفوذ ايران ووجودها في سوريا, ولكونه الأقدر على التعامل مع داعش, ثمّ أن اجتناب تأزيم مع الغول ضرورةٌ لا مندوحة عنها, طالما اجتنبت الكبائر, فأتاحت له متنفّس أن يقود سوريا موحّدة وواعدة, سيما وقد التزم بسقف "سان ريمو" (عودة الى وقائع نيسان 2013 دالّة), وهو العارف بأن في الخروج عليه مقتل.
(أفتح هنا قوساً لأشير الى التزام حسني الزعيم وأديب الشيشكلي بالأمر؛ بل والقوتلي أيضاً, الذي سيق سوقاً – وهو مَن أحد بني آل سعود, أو كاد - الى الوحدة من قِبل شعبه, ومن الذين عبّروا عنه في المجلس العسكري النافذ, زائداً بسبب هلع أعضائه من تهديدات الطوق المحيط بسوريا. ثم التزم به أيضاً بعثيوا سوريا, ما بين نوفمبري 63 و70. أما حافظ الأسد, فقد لامس خرق السقف بانضمامه لاتحاد الجمهوريات العربية: 71-77, وبسعيه ل"سوريا كبرى" غير مؤطّرة ولا مدسترة: 74-82, وألحق مسعاه بآخر ابتغى وحدة مع العراق: 78-79 – عاد لزيارته في ربيع 87 -. ولعل سبباً من أسباب طول عمر عهده فشل كل تلك المحاولات).
** ما الذي عانَته مقاربة المتغلّب الوافد من عَور؟:
1- ظنُّ أن واشنطن صاحبة القرار في "الشام", فيما هو واقعاً حكرٌ للغول بامتياز. ذلك تقسيم عمل تمّ وخُتم غداة هزيمة 67. حينها امتدّ الاحتكار الى شأني مصر والعراق, لكن الاثنين انتقلا الى حضانة قرار مشتركة, منذ 79 مصرياً و91 عراقياً. ما وراء ذلك الطوق قرارٌ أمريكي؛ للغول فيه قولْ, لا أكثر. معنى ذلك, بخصوص "الشام", عملياً أن واشنطن قد تعترض ولا تُسَرّ وتضيق, لكنها آخر النهار تلتزم بمُراده؛ لا بل تضع أحبولة شرطي سيء.. شرطي جيد في خدمته, وبوسائط الغواية والتضليل.
2- تقسيم العمل أعلاه وجهٌ من وجوه التحوّل العميق الذي أصاب بنية المؤسسة الحاكمة الأمريكية على مدار عقود ثلاثة امتدّت ما بين نوفمبري 63 و92. كانت طلقة بدء الانقلاب البنيوي اغتيال كنيدي, ثم اتّسعت مفاعيله خلال سنوات جونسون الخمس التالية, وتصاعدت خلال وبعد حرب أكتوبر 73, لتتلقّى ممانعة بيّنة في سنتي كارتر الأوَلتين, لكنها نكصت بل تلاشت مع كامب ديفيد, ثم عادت للارتفاع بثقةٍ عبر سنوات ريجان الثمانية. وبرغم أن جورج بوش/1 خدم الغول خدمة جلّى بتدميره مقدّرات العراق في حربه عليه مطلع 91, وقبلها باشرافه على هجرة اليهود السوفييت الى الغول في 90, بل وقبلها في تعهّده – وهو نائب رئيس - مهمّة نقل يهود اثيوبيا – الفلاشا – له في 84-85. إلّا أنه – بشكل أم بآخر – شكّل آخر القلاع "الأمريكانية" في وجه تنفّذ "اللوبي" الطاغي داخل البنيان الحاكم, متجليّاً في "الشام" بتقسيم العمل أعلاه.
3- صحيحٌ أن واشنطن, وتوابعها الأوربيات – وأهمهم لندن –, وجدوا في الوافد الذي أخرج ايران من سوريا, وسبق أن قاتل داعش بقضّه وقضيضه, ما بين 2013 و2017, وتخادم – ولو بالحدّ الأدنى - من ادلب, خامةً جديرة بإسداء فرصة؛ لكن لذلك شرط شارط سنجرّعه إياه في وقت لن يطول, هو ملاقاة غول الجنوب فيما أراد منه وفي سوريا, سيما وقد أرَاه حَوله وطوله بتصفية طيرانه مقدّرات سوريا العسكرية, واستيلاء مشاتها على جيب جولاني جديد وصل الى مسافة 30 كم من العاصمة, حالما وطأ دمشق.
4- ما بُغى غول الجنوب؟: ا- نزع السلاح الثقيل والمتوسط من الحدود الإدارية الجنوبية لمحافظتي مدينة وريف دمشق وصولاً الى خطوط فصل القوات في الجولان. ب- الاحتفاظ بجانب جبل الشيخ في الجيب الجديد, مع نزح سلاح الأخير, كما كل الجنوب (محافظات السويداء ودرعا والقنيطرة). ت- جَبّ اتفاق فصل القوات- 74 بتوقيع اتفاق جديد عنوانه "انهاء حالة الحرب/عدم الاعتداء", وفحواه تخلّي دمشق عن الجولان المحتل في حزيران 67. ث- اتفاق "الجَبّ" موطّئُ اندراج سوريا في الاتفاقات الابراهيمية. ه- قبول تجويف "الكيان" السوري عبر أقلمته, ومنح حكم ذاتي لمناطق الكرد والدروز, مع تكيّف نحو صلات للغول مباشرةٌ معهما. تلك البُغى مناط رضىً في واشنطن, حتى لو كان التعبير عنه ملتبساً أو حتى متنائياً.. ذلك مظهر تحتاجه هنا وهناك.
5- طيب, ما الذي جرى في عملية التفاوض - المباشر وغير المباشر -, وعبر قناتين: إماراتية وتركية - أذرية, ما بين نيسان وتموز من هذا العام؟. بخلاصة, فشلت العملية. ولم تكن زيارة الشرع لباكو, في 11 تموز, سوى تلبيةً لمحاولة أذرية أخيرة للتوصّل لاتّفاق, ولم تنجح. اعتبرت دمشق أن رفضها مطالب غول الجنوب لا بدّ مُحصَّن بتفهّم الراعي الأمريكي, وهو الذي واظب على القول برغبته بسوريا واحدة موحدة ذات سلطة مركزية؛ وما كان القول سوى من ضرب الأفانين. زاد الطين بِلّة أنْ تزامَن فشل باكو مع نزاع قرابي محلّي, ما لبث أن تحوّل الى "إيسكرا" لفتنة درزية - بدوية في محافظة السويداء. نصَح ميليشياوي خصم – ليث البلعوس - للمتنفّذ الأقوى في القرابة – حكمت الهجري - دمشق بعونه على منازلة المتنفّذ, وعلى خلفية صلة الأخير بموفق طريف, واستعادة السويداء الى سيطرة المركز. لاقى ذلك هوى دمشق, فقد رأته سدّاً لذرائع إسرائيل نحو الدروز. مادت الأرض من تحتها قصفاً لقواتها الداخلة للمحافظة, ثم لقيادتها العسكرية في قلب دمشق بل وتخوم قصرها الرئاسي, في اليوم التالي. انسحبت القوات وقد تعرّضت لخسائر وازنة, وبان الانكسار على وجه الشرع في خطاب ذلك المساء. لكن الموقف عاد الى التعقيد, الجمعة 18 تموز, حين هبّت عشائر من خارج المحافظة لنصرة تلك داخلها, والتي نالها ما نال قوات دمشق من نتائج قصف. ثمّ, في ملحمة قرابية بشعة سقط ما ناف عن 800 ضحية من كل الأطراف. زد وخامة نتائجها السياسية, فقد سارعت واشنطن – بلسان مبعوثها الحثالي – للقول لدمشق: أعيدي العشائر, ودَعي السويداء للهجري, وإلّا جعلك الغول فرْق عملة؛ ففعل.
6- طيب, هل خَلُصت دمشق الى فهم تضاعيف العلاقة الأمريكية مع الغول بصدد سوريا و"الشام"؟ لا يبدو لي ذلك؛ إذْ بادٍ أن أحابيل الحثالي تُغبّش النظر, والاعتقاد بكفاية الملاءة السعودية على ردّ ضرّ الغول عنه تُبرّر سكينة, غير مدركٍ أنْ لا مشكلة لدى الغول في استثمارات سعودية وغيرها. اللباب هو في الاستجابة السياسية لشروطه, وإلّا فالاستثمارات وغيرها رهائن أو خسائر.
7- ما مرتكزات قوة دمشق الإقليمية قبالة مكامن ضعفها؟ أضعفها – بإطلاق - الاتّكال على ركيزة في واشنطن؛ فعندها إنْ لم تماشي اسرائيل وتُجوِّف سوريا – بدون مسّ خرائطي – خانَك قدَرُك. بعدها, ضعفُ قدرة تركيا على الحماية والإسناد بما كافأ قدرة إسرائيل على النَيل, سيما جوّاً. بعدها, عدم تجانس الرعاة الإقليميين في التزامهم نحوها: استرابة فتردّد اماراتي, اندياح سعودي, تلعثم قطري, تعثّر أردني, ريبة عراقية, وحذر تركي. بعدها, تهيّب صيني من جهة, وحيرة سورية حول إرساء علاقة نوعية معها, من جهة أخرى.. ناهيك بتناءٍ روسي وسخط إيراني. لكن الأخطر - باستثناء الوهم الأمريكي – هو الفشل في تقريب وتشبيك قرابياتٍ شكّلت ثلث الاجتماع السوري, بما خفّف – أقلّه – من مدّها البصر الى خارج حامٍ. أين مناحي القوة الكامنة إذن؟ استماتة جدّية في فرز المتّكئين على خارج من سواهم في قرابيات الثلث, وشدّ آصرة وثقى مع أغلبيتهم غير الملوّثة, في شراكة تمثيل وقرار.. تمتين العلائق مع تركيا والسعودية وقطر, والتركيز معهم على استصلاح وشيجةٍ بالعراق. وبرغم ضعف الدفاع الجوي التركي فاستضافة قوات تركية على مقربة من دمشق باتت حاجةً تجاوزت حساسيات أحد.. وملاينة واشنطن دون التخلّي قيد أنملة عن موقف التفاوض السوري أعلاه.
8- ومع ذلك, فقراءتي أن الصخرة التي تكسّرت وستتكسّر عليها فرصة نفاذ هي الموقف من شروط غول الجنوب. على دمشق أن تدرك أنْ لا قيامة لسوريا والغول فالتٌ من عقاله, فيما المهيمن مُسلِّم له بقرار التعامل مع "الشام", وأن الحديث عن سنغافورة ودبي أضغاث أحلام ما لم تنزَح الصخرة الكؤود من وجهها, وأن توافقاً قرابياً لم يعد أفضليةً بل شرط بقاء. ليس الحديث بحالٍ عن دولة سورية وكيان سوري وهوية سورية, فأولئك كالغول والعنقاء والخلّ الوفي. الحديث هو عن لملمة أطراف سوريا لئلّا تنطرح أرضاً وتذهب إرَباً. في الاعتبار أيضاً سوء المعاش, من خدمات وسيولة وشمول تغطية, ما جعل انفجارات اجتماعية مسألة وقت, ناهيك بانتهازها من تنظيم هو نقيض مَن في دمشق؛ أي داعش. أما القيامة, ففي كيان كبير وسوق كبير, أي ب"شام" + رافدين = سوراقيا عربية. ليس ذلك حلم ليلة صيف بل استجابة تحدٍّ طال انتظارها لقرن من الزمان, وكل ما احتاجته إرادة سياسية فاعلة لدى نخب متنفّذة وعت المأزق التاريخي الذي وصلته قرابياتها, وأدركت أن متّحداً بهوية جامعة, لا تلغي الروابط الدنيا ولكنْ تضعها في مكانها الطبيعي: تحتها وبمسافة, هو أمر اليوم. سيجادل أحدٌ في أن واشنطن وأنقرة وطهران والرياض, ناهيك بتل أبيب, لن تدع للحلم سبيل تحقّق. أقول, إرادة الفعل هي الأساس. ثم أنه ليس في وسع الجارين المسلمين اعتراض ذلك العزم, سيما وقد صبّ عملياً في صالحهما. في البال تهديد خط دلهي - تل أبيب للإقليم ومصالحه. أما واشنطن, فحدود قدرتها, والغول معها, على الاعتراض ملجومةٌ بلواجم انشغالاتٍ كبرى, سواء في الإقليم أم ما وراءه. ضِف لذلك أزمتي الداخل في كليهما؛ وبخصوصٍ انكشاف هول نفوذ "اللوبي", حيث لم يعد الأمر مكتوماً وملفوفاً في طاقيّة إخفاء, بل صار حديث المجالس يمنةً ويسرا. والغول, يغالب حاله كمنبوذ إبادي عنصري بات عبئاً على مالكه: الغرب الجماعي, وعالق في أنفاق غزة بين مخالب حرب عصابات ضارية أدخلت اجتماعه في سراديب احتراب حائم.
دمشق الآن أمام شوكة طريق؛ فإما وعيٌ بما انبغى وإما القارعة.