كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

من الفصائلية إلى بناء جيش وطني

مروان حبش

تعتبر الفصائلية المسلحة أحد أبرز التحديات التي تواجه الدول والمجتمعات في سبيل بناء جيش موحد وقوي. وفي سياق المجتمعات التي تعاني من النزاعات المسلحة، تتواجد العديد من الفصائل المسلحة، بعضها يحمل توجهات متطرفة، مما يزيد من تعقيد عملية الانتقال إلى بناء جيش وطني متماسك.
تبرز مشكلة الانتماءات الإيديولوجية والجهوية والقبلية والعرقية التي تسيطر على ولاءات الأفراد، حيث يفضل الكثيرون الانتماء إلى فصائلهم الخاصة بدلاً من الجيش الوطني. هذا يؤدي إلى ضعف الشعور بالوحدة الوطنية ويعزز الانقسامات داخل المجتمع.
إن هذه الفصائل تمثل تحدياً كبيراً، حيث تروج لإيديولوجيات متطرفة وأطاريح تتعارض مع قيم المجتمع السوي والسليم. وتعمل على نشر الكراهية والعنف، مما يجعل من الصعب إدماج أعضائها في مؤسسة عسكرية وطنية تسعى لتحقيق الاستقرار والأمن. كما أن غياب الثقة بين مكونات المجتمع من ناحية، وبين المجتمع والفصائل المسلحة من ناحية ثانية، يشكل عقبة رئيسية. فالكثير من الناس ينظرون إلى الفصائل كتهديدات، مما يعزز من عدم الاستقرار ويخلق صعوبات أمام تحقيق توافق حول فكرة بناء جيش وطني.
إن الانتقال من الفصائلية إلى بناء جيش موحد يتطلب جهوداً متعددة الأبعاد تشمل معالجة الإيديولوجيات والأطاريح المتطرفة والمتخلفة، تعزيز الهوية الوطنية، وبناء الثقة بين مختلف مكونات المجتمع. كما أن الانتقال من الفصائلية، إلى بناء جيش وطني في سوريا بعد سقوط حكم العائلة الأسدية، وتلاشي جيشها، يمثل تحديًا كبيراً، ولكنه ضروري لتحقيق الاستقرار وإعادة بناء الدولة السورية. هذا التحول يتطلب خطوات استراتيجية يمكن أن تشمل:
- حل الفصائل المسلحة:
بعد انتهاء الصراع، من الضروري حل جميع الفصائل المسلحة، وتجريدها من الأسلحة بطريقة منظمة لتجنب الفوضى. ويمكن تحقيق ذلك عبر تفاهمات سياسية وضمانات أمنية تقدمها حكومة انتقالية أو جهات دولية.
- دمج المقاتلين في الجيش الوطني:
يمكن استيعاب المقاتلين الذين لم يتورطوا في جرائم حرب أو انتهاكات حقوقية في جيش وطني جديد. ويجب أن يكون هذا الاندماج مبنيًا على معايير مهنية صارمة، مثل الكفاءة، واللياقة، وليس على أساس الولاءات السابقة.
- صياغة عقيدة عسكرية وطنية:
يجب أن يكون للجيش الوطني عقيدة عسكرية واضحة تركز على الولاء للدولة، حماية الشعب السوري، ووحدة الأراضي السورية، بعيدًا عن الولاءات الطائفية، أو الجهوية، أو الإيديولوجية.
- إشراف دولي وإقليمي:
لضمان نجاح هذا التحول، يمكن للمجتمع الدولي، من خلال الأمم المتحدة أو الدول المعنية، أن يقدم دعمًا تقنيًا وماليًا، مع الإشراف على برامج نزع السلاح وإعادة الدمج.
- العدالة الانتقالية:
يجب إنشاء آليات لمحاسبة الأفراد المتورطين في انتهاكات خطيرة، إن كانوا في صفوف الفصائل، أو في صفوف جيش النظام السابق، لضمان عدم عودة هؤلاء الأشخاص إلى مواقع السلطة أو الجيش.
- التعليم والتدريب العسكري:
يحتاج الجيش الجديد إلى برامج تدريب مكثفة تعتمد على قيم الاحترافية، احترام حقوق الإنسان، والعمل ضمن إطار قانوني ودستوري.
إن معضلة الجهاديين الأجانب في الجيش، تسلّط الضوء على أزمة بنيوية تضرب جوهر أي مشروع لبناء دولة سورية حديثة. فوجود هؤلاء المقاتلين الأجانب، داخل تشكيلات فصائلية متعددة الولاءات، لا يمثل فقط خطرًا أمنيًا مباشرًا، بل يشكل عائقًا استراتيجيًا أمام أي إمكانية لتأسيس جيش وطني محترف يخضع لسلطة مدنية شرعية ويعبر عن تطلعات عموم السوريين.
إن وجود الجهاديين الأجانب، وغالبًا ما يحملون فكرًا متطرفًا وأيديولوجيا إقصائية، يلغي تلقائيًا فكرة المواطنة، ويحوّل أرض الصراع السوري إلى ساحة تناحر لمشاريع عابرة للحدود لا تعنيها حرية السوريين ولا كرامتهم. هؤلاء لا يرون في سوريا وطنًا، بل مجرد "أرض تمكين" أو "أرض جهاد"، ويتعاملون مع سكانها كوسيلة لا غاية.
والمفارقة أن من يقبل ببقاء هؤلاء أو يتحالف معهم، لا يختلف جوهريًا عن الأجهزة الأمنية التي كانت تحكم سوريا بالعنف والقتل لعقود، بدءًا من نظام حافظ الأسد وصولًا إلى ابنه. في الحالتين، نرى انعدامًا للسيادة الشعبية، وتغولًا للقوة فوق القانون، واحتقارًا لفكرة الإنسان الحر المتساوي في الحقوق.
من هنا، فإن استمرار التساهل مع وجود هؤلاء الجهاديين، أو إدماجهم ضمن تشكيلات "جيش وطني"، ليس فقط خطأً سياسيًا، بل جريمة أخلاقية بحق انتفاضة الشعب السوري، التي خرجت تنادي بالحرية والكرامة والمواطنة. لذا لا يمكن بناء دولة مواطنة بجيش تشكله فصائل مؤدلجة، تمامًا كما لا يمكن تحرير سوريا من نظام الأسد باستنساخ أدواته وجرائمه.
إن وجود الجهاديين الأجانب في الفصائل المسلحة، قضية معقدة، وأن هذا الوضع يعوق أي جهود لبناء جيش وطني حقيقي. من الواضح أن وجود هذه الفصائل المسلحة، التي تحمل في بعض الأحيان توجهات تكفيرية، يشكل تحديًا كبيرًا أمام فكرة الدولة الحديثة التي تعتمد على مفهوم المواطنة.
إن الجيش الوطني يجب أن يكون رمزًا للوحدة الوطنية ويعكس تنوع المجتمع، بينما الفصائل المسلحة يمكن أن تعكس انقسامات عميقة وتؤدي إلى مزيد من الفوضى. كما أن مقارنة الوضع الحالي بما كان عليه الحال في عهد نظام الأسد تبرز أهمية بناء مؤسسات وطنية قوية ومستقلة تعكس تطلعات الشعب بدلاً من الاعتماد على قوى مسلحة قد تكون ولاءاتها مشبوهة.
إن بناء الثقة بين المكونات السورية أمر ضروري لتحقيق بناء جيش يعبر عن الجميع، لكي تكون المؤسسة العسكرية شاملة، تضم جميع مكونات الشعب السوري دون اقصاء، ودون محاصصة أيضاً.
كما أن العمل على المصالحة الوطنية بين مكونات الشعب في سورية وتحقيق السلم الأهلي أمر هام لنجاح بناء الجيش الوطني، بما يضمن تقليص التوترات الطائفية والإيديولوجية.
إن بناء جيش وطني يتطلب إرادة سياسية قوية وواضحة وإصلاحات جذرية من السوريين أنفسهم ودعمًا إقليميًا ودوليًا لإعادة بناء سوريا كدولة مواطنة بنظامها الديمقراطي، قادرة على تحقيق الاستقرار والتنمية. إن عملية الانتقال إلى بناء جيش وطني قوي تحتاج إلى دعم دولي وإقليمي، وهو ما قد يتعذر في ظل وجود فصائل متنازعة وأوضاع سياسية غير مستقرة.
الجيش الوطني ليس مجرد مؤسسة عسكرية، بل هو المعيار الأساس لشكل الدولة وهويتها. إن كان الجيش يعكس إرادة الشعب، ويعمل ضمن أطر القانون والمواطنة، فهذا يعني أن الدولة تسير نحو نموذج مدني ديمقراطي. أما إذا كان الجيش (أو ما يسمى به) مجرد غطاء لفصائل مسلحة ذات أجندات متباينة—بعضها تكفيري، وبعضها لا يخفي ولاءه لقوى خارجية—فإن النتيجة تكون نسخة مكررة من نظام القمع والتسلط، حتى لو تغيرت الأسماء والشعارات. والجيش الوطني لا يُبنى بالسلاح وحده، بل بالهوية، وبالعقيدة، وبالولاء للشعب لا للفصائل أو الأيديولوجيات المستوردة.