كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

صناعة الزيف والديمقراطية

مروان حبش

المؤرخ والسياسي الروماني شيشرون 106 ق. م – 43 ق.م الذي رافق يوليوس قيصر في غزوه لبريطانيا عام 55 ق. م قال: فرض القيصر الخوف وسماه سلاماً.
الطغاة يفرضون الخوف ويسمونه استقراراً. ويصدقون أكاذييهم.
في عالم يفيض بالمعلومات، لم تعد الحقيقة مسألة إدراك مباشر بقدر ما أصبحت نتاجاً لصراع على الوعي. في خضم هذا الصراع، تبرز "صناعة الزيف" كواحدة من أخطر أدوات السيطرة على العقول، وأكثرها تأثيراً في تشكيل الواقع الجمعي. إنها منظومة ممنهجة تهدف إلى خلق واقع زائف غير حقيقي يُقدم للناس على أنه الحقيقة المطلقة، من خلال أدوات متنوعة تتغلغل في تفاصيل الحياة اليومية، كالسياسة، والتعليم، والإعلام، والدين، وحتى الثقافة الشعبية.
صناعة الزيف مصطلح يُقصد به خلق إدراك وواقع وهمي ومُزيَّف من خلال استخدام مجموعة من الاستراتيجيات والأدوات التي تهدف إلى التأثير على أفكار ومشاعر الناس. تُعتبر هذه الصناعة جزءًا من الحرب النفسية، حيث تُستخدم لتوجيه الرأي العام نحو اتجاهات معينة، مما يُسهل السيطرة على المجتمعات بهدف توجيه وعيها نحو تصورات محددة تخدم مصالح النخب الحاكمة، وتُبعدهم عن التفكير النقدي أو المطالبة بالتغيير. ويدل على عملية منهجية وظاهرة معقدة تتداخل فيها مجالات متعددة تقوم بها جهات نافذة لإنتاج وترويج صور ذهنية وتصورات زائفة عن الواقع، بغرض توجيه الرأي العام والتحكم في السلوك الجماهيري
صناعة الزيف ظاهرة معقدة تتطلب وعيًا جماعيًا ومواجهة فعّالة من قبل الأفراد والمجتمعات، وهي ليست مجرد كذبة تُقال، بل هي منظومة متكاملة تُنتَج فيها الأكاذيب وتُسوَّق وتُزرَع في العقول بغية تحويلها إلى "حقائق" لا تُناقش وأقوى من الحقيقة، وستبقى الشعوب سجينة واقع لم تختَره، ولم تفهمه. هذه الصناعة لا تكتفي بتزييف الحقائق، بل تتجاوز ذلك إلى بناء سرديات بديلة كاملة، تجعل من الكذب واقعاً قابلاً للتصديق، ومن التزييف أداة لإنتاج الطاعة. ولهذه الصناعة أدواتها، مثل:
- السياسة والخطاب الرسمي، تُعتبر السياسة مجالًا خصبًا لصناعة الزيف، حيث يمكن للسياسيين استخدام الخطابات والشعارات الجذابة لتوجيه الرأي العام. وتُستخدم التقنيات مثل الدعاية السياسية والتلاعب بالمعلومات لتشكيل انطباعات معينة حول القضايا السياسية. والأنظمة السياسية غالباً ما تلجأ إلى التزييف لتبرير سياساتها وفشلها. من خلال لغة مملوءة بالشعارات الكبرى (كالاستقرار، والسيادة، والمصلحة الوطنية)، وحيث يتم تسويق الاستبداد على أنه حماية، والانهيار الاقتصادي على أنه "مرحلة انتقالية"، والبطالة على أنها "فرصة لريادة الأعمال".
- وسائل الإعلام – من الصحف إلى القنوات الفضائية ومواقع التواصل – هي الأداة الأكثر فاعلية في صناعة الزيف والأوهام. من خلال الانتقاء المدروس للأخبار، وتكرار الرسائل، وتوظيف المؤثرين والخبراء ويتم توجيه الوعي الجمعي نحو تصورات محددة، كتبرير الحروب، أو الترويج للأنظمة، أو تشويه الخصوم. كما أن الإعلام لا يعرض الحقيقة بل "يصنعها"، وغالباً ما يستخدم تقنيات مثل التضليل، والتهويل، والحذف، والإثارة العاطفية. ويستخدم تقنيات مثل التلاعب بالمعلومات، التغطية الانتقائية، والتركيز على جوانب معينة دون أخرى لإيصال رسائل محددة.
- النظام التعليمي، يلعب النظام التعليمي دورًا كبيرًا في تشكيل وعي الأفراد. حيث يمكن أن يُستخدم التعليم لنشر أفكار معينة أو إغفال مواضيع قد تُثير تفكير الطلاب النقدي. ومن خلال المناهج الدراسية، يمكن تعزيز قيم أو معتقدات معينة تخدم مصالح السلطة. والتعليم، كما يفترض، هو وسيلة للتحرير، لكنه قد يتحول إلى أداة للهيمنة إذا ما تم توجيهه لصالح السلطة. عندما يُبنى المنهج الدراسي على التلقين بدلاً من التفكير النقدي، ويتم فيه تمجيد السلطة وتزييف التاريخ، فإن النتيجة تكون إنتاج أجيال مبرمجة على قبول الواقع كما هو، غير قادرة على مساءلة أو نقد أو تغيير.
- الدين المؤدلج، يُستخدم الدين أحيانًا كأداة لصناعة الوهم، حيث يتم استغلال النصوص الدينية لتبرير سياسات معينة أو توجيه الأفراد نحو سلوكيات محددة. يمكن أن يُؤدي ذلك إلى خلق شعور بالولاء أو الخضوع للسلطة تحت مظلة دينية. والدين حين يُستخدم كغطاء أيديولوجي لتبرير الاستبداد والظلم أو السكوت عن الفساد، يتحول إلى أداة فعالة في صناعة الزيف والوهم عبر تأويل النصوص وتقديم قراءات انتقائية تخدم السلطة، ولإقناع الناس بأن طاعتهم للحاكم عبادة، وأن فقرهم ابتلاء، وأن التمرد على الاستبداد فتنة محرمة.
- الثقافة والفن، تلعب الفنون دورًا في تشكيل الوعي الجمعي. ويمكن أن تُستخدم وسائطها لنشر رسائل معينة أو تعزيز قيم وثقافات محددة تخدم مصالح النخب. ويستخدم الفن والإنتاج الثقافي لتثبيت أنماط معينة من التفكير والسلوك، وتعزيز قيم معينة تخدم المنظومة القائمة، مثل الخنوع، أو الفردانية، أو تجميل الفساد. وفي بعض السياقات، يصبح "الفنان" جزءاً من ماكينة التضليل، وليس صوتاً للمجتمع.
- التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، مع تطور التكنولوجيا، دخلت أدوات جديدة إلى ساحة صناعة الزيف والوهم. كخوارزميات التحكم في المعلومات، والتزييف العميق، وتحليلات البيانات الضخمة لتوجيه الإعلانات والمواقف. وتصبح صناعة الزيف أكثر دقة وفعالية، حيث يمكن لكل فرد أن يعيش في "فقاعة معرفية" لا يرى فيها إلا ما يعزز قناعاته السابقة.
تهدف صناعة الزيف إلى ضمان الطاعة بخلق واقع وهمي يبدو مقبولاً أو حتى مثالياً، يضمن استمرار الطاعة والخنوع. وإلى تشتيت الانتباه وإشغال الناس بقضايا هامشية أو مفبركة، لإبعادهم عن المشاكل الحقيقية (كالفساد، القمع، التفاوت المعيشي). كما يهدف إلى تشويه الخصوم ووصفهم بأقذع الصفات (إضعاف الشعور القومي، وهن عزيمة الأمة...)، لتبرير قمعهم. وكذلك تهدف هذه الصناعة إلى شرعنة السلطة وتقديمها سلطة ناجحة، حتى وإن كانت فاشلة أو فاسدة.
إن للتزييف وصناعة الزيف كبير الأثر على المجتمعات، فهي تُعتبر وسيلة فعالة للحفاظ على الأنظمة الاستبدادية، ومن خلال السيطرة على المعلومات وتوجيه الوعي العام، تستطيع النخب الحاكمة الحفاظ على سلطتها وقمع أي دعوات للتغيير. وهي تؤدي إلى انهيار الوعي الجمعي، ويصبح الناس عاجزين عن التمييز بين الحقيقة والزيف. وتقود إلى غياب التفكير النقدي، إذ يتراجع العقل النقدي أمام سطوة العاطفة والخطاب الشعبوي. ويتحقق شلل التغيير، طالما أن الناس يصدقون أن كل شيء بخير. وينتج عنها فقدان الثقة، فعندما ينكشف الزيف تتولد أزمة ثقة شاملة على الأصعدة كافة، الإعلام، الدين، التعليم، والدولة. وتُسهم صناعة الزيف في خلق انقسامات داخل المجتمع من خلال تعزيز الصور النمطية والتحيزات. إذ يُمكن أن تؤدي الرسائل المُوجهة إلى تفتيت المجتمعات وإثارة النزاعات.
لا ريب أن نظام الحكم الديمقراطي بأحزابه السياسية ومنظماته المجتمعية هو السبيل الأنجع لمواجهة صناعة الزيف. إذ تُعتبر الديمقراطية من أهم الأنظمة السياسية التي تساهم في تعزيز الشفافية والمساءلة في المجتمعات. فهي تتيح للمواطنين المشاركة الفعّالة في صنع القرار، مما يعزز من قدرتهم على كشف الزيف والتضليل الذي قد يمارسه بعض الحكام أو المؤسسات.
أحد الأدوار الأساسية للنظام الديمقراطي هو توفير منصات متعددة للإعلام الحر، حيث يمكن للصحافة المستقلة ووسائل الإعلام الرقابية أن تلعب دورًا حاسمًا في كشف الحقائق وتوعية الجمهور. ومن خلال التحقيقات الصحفية والمناقشات العامة، يمكن للناس التعرف على المعلومات المغلوطة والحقائق الملتوية، مما يسهم في بناء وعي مجتمعي قوي.
علاوة على ذلك، تعزز الديمقراطية من أهمية التعليم والتثقيف، حيث يُعتبر المواطن المثقف قادرًا على التمييز بين المعلومات الصحيحة والزائفة. إن تعزيز التفكير النقدي في المناهج التعليمية يساعد الأجيال الجديدة على تحليل المعلومات بشكل أفضل ومواجهة محاولات التضليل، وتقديم محتوى يعتمد على التحقيق والتحليل لا على الترويج والدعاية. كما أن وجود مؤسسات قانونية قوية ومستقلة يساهم في محاسبة المسؤولين عن نشر الزيف. فالديمقراطية تضمن وجود آليات قانونية تسمح بمقاضاة من ينشرون معلومات مضللة أو كاذبة، مما يحد من انتشار هذه الظاهرة.
لذلك، يُعتبر الحفاظ على الديمقراطية أمرًا ضروريًا لبناء مجتمعات واعية وقادرة على مواجهة التحديات المعاصرة ويرفده تعزيز التعليم النقدي، وتحليل المعلومات بموضوعية. وتشجيع الحوار المفتوح حول القضايا الاجتماعية والسياسية وتعزيز الوعي الجماعي.