كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

حقول طائفيّة 5

عبد الكريم الناعم

*تذكير
أذكّر أنّه بعد المؤتمر القومي للبعث، الذي ذكرناه، انتُخب الدكتور منيف الّرزاز أمينا عاماً للحزب، وهذه أول مرّة لا يكون فيها الأستاذ ميشيل عفلق أمينه العام، وللاطّلاع أكثر يمكن العودة إلى كتاب الرزاز "التجربة المُرّة"، فهو يُلقي أضواء كاشفة.
*******
بعد نكسة 1967 بدا الحكم في سوريّة يعاني من عُزلة عربيّة، ويمكن القول إنّ اللجنة العسكريّة التي كانت تشرف على أهمّ المجريات، هذه اللجنة صارت بعيدة عن فاعليّة ما يجري في وزارة الدفاع التي كان وزيرها اللواء حافظ الأسد، وهذا خلق فجوة بين المجلس العسكري، بل والقيادة القطرية للحزب.. ووزير الدفاع، واتّسعت الهوّة، ويمكن الاستنتاج أنّ الأسد، وهو في دائرة صنع القرار في المجلس العسكري، والقيادة القطرية، كان يُراقب بدقّة، ولم يُعرف شيء عن إمكاناته الاستراتيجية، ولكنّها بالتأكيد ليست خفيّة على صاحبها، والمؤكَّد أنه لم يكن راضياً عن الكثير من المجريات والإجراءات، وباتساع الفجوة دُعي لانعقاد مؤتمر قطري، عُقِد في مقرّ اللواء سبعين مدرّعات، وكان قائده العقيد عزّت جديد، واستمرّ مدّة خمسة عشر يوماً، ومُنِع أعضاؤه من مغادرة المعسكر، كي لا يتسرّب شيء من معلومات قد تضرّ بالأهداف التي عُقِد من أجلها، وصدرت قرارات خطيرة، أهمّها، فيما يتعلّق بالأسد، وزير الدفاع: تجريده من جميع مناصبه العسكريّة، والحزبيّة، وإحالته إلى محكمة حزبيّة للنظر في أمره.
الأسد، بالتأكيد، بحسب استقراء النتائج، كان قد وضع كل الاحتمالات، فجعل من مخابرات القوى الجويّة قوّة فعّالة، ورتّب القيادات العسكريّة الفاعلة والمهمّة بحيث يستطيع التحرّك ساعة يشاء، وتعقّدت الأمور، وصار الوضع كلّه على كفّ عفريت.. في تلك الأثناء كنتُ في دمشق لأمر ما، فقصدتُ بيت العقيد عزّت جديد، وبيننا صداقة قديمة، منذ كان قائد كتيبة دبابات في اللواء المدرّع الخامس في حمص، وصنوه وصديقه مصطفى طلاس، وكثيرا ما سهرنا معا حتى الصباح.. زرتُه في بيته فوجدتُه يائساً، وقال برنّة حزن ما معناه، كلّ شيء منتهٍ، ونحن بانتظار البيان رقم واحد، لقد شكّل الأسد جبهة وطنيّة، وأجرى جميع اتصالاته بهذا الشأن.
في تلك الفترة رُوي لنا أنّ عبد الكريم الجندي، كان يذهب إلى مكتبه في القيادة القطريّة، فيقف في مدخل الممرّ المؤدّي إلى مكتبه، ويصرخ بصوت عال يسمعه الجميع: "أمريكااااا.. أمريكااااا"، والجندي كان آنذاك رئيسا للأمن، ويبدو أنه كانت له مقترحات لكي لا تصل الأمور إلى ما وصلت إليه، غير أنّها لم تلق آذانا صاغية من قِبل اللواء جديد.. رُوي أنّه قبل أن ينتحر، اتّصل باللواء جديد وقال له ما مفاده (انبسطتْ)، اسمع، وكان يُمسك سماعة الهاتف بيد، والمسدس بالأخرى، وأطلق رصاصة في صدغه.
المؤتمر اتّخذ قرارا بحقّ الأسد، ولكن مَن يستطيع تنفيذه؟! وهذا بحدّ ذاته يبيّن أنّ الأمور بين القيادة والأسد قد بلغت سدّاً يصعب ردْمه.
تشكّلت في تلك الفترة لجنة من بعض الضباط الذين أرادوا جسر هذه الهوة بين القيادة والأسد، وقابلوا الأسد فكان جوابه ليضعْ أيّ منكم نفسه مكاني، القرار ظالم، وغير مقبول، فذهبوا لمقابلة رئيس الدولة الدكتور الأتاسي، فرفض استقبالهم، فأصرّوا، وأصرّ، فجلسوا في بهو القصر منتظرين، وحين يئس الأتاسي من مغادرتهم، نزل من الطابق الأعلى، فوقفوا له احتراماً، فبادرهم بالقول إذا كنتم جئتم لتبلّغوني قبول الأسد بالقرارات، فأنا مستعدّ للاستماع، أمّا غير هذا فلن أسمعه، فغادروا يائسين.
وليلة 12 تشرين الأول 1970، قامت قوّات أمن القوى الجويّة باعتقال القيادة القطريّة، وبعض العسكريين، ومعهم أعضاء مدنيون آخرون، وسيقوا إلى سجن المزّة العسكري، وعُذِب مَن عُذب، ولم تُرق قطرة دم في هذه الحركة، وبقي المسجونون زمناً، بعض الضباط أُفرج عنهم بعد أكثر من أربعة أعوام، وأحيلوا إلى وظائف مدنيّة، ومنهم مَن أمضى أكثر من ربع قرن، ومنهم مَن مات في السجن كاللواء جديد، أمّا الأتاسي فقد أصيب بسرطان بعد زمن طويل من السجن، فأُطلق سراحه، وعاش بعد ذلك ستة أشهر. وأعلن الأسد قيام الجبهة الوطنيّة، وأهمّ مَن ضمّتهم أحزابا ناصرية: الوحدويين الاشتراكيين، والاتحاد الاشتراكي.. وجناح الاشتراكيين العرب، والشيوعيين.
الجدير بالملاحظة أنّ عدداً من الضباط الذين آزروا الأسد في تصحيحه كانوا محسوبين تاريخيا على جناح اللواء عمران، ومن أبرزهم إبراهيم صافي، وعلي حيدر قائد الوحدات الخاصة، واللواء عبد الغني إبراهيم، وآخرون، وبدأ في سورية عهد جديد، هو ما سمّي مرحلة حافظ الأسد.
بعد ذلك زار الأسد أبرز المدن السوريّة، واستُقبل استقبالا هائلا في المدن التي زارها، ممّا ذكّر بالاستقبالات التي حظي بها عبد الناصر، زمن الوحدة، فقد استبشر الناس خيرا، وهذا يدلّ على الفجوة التي كانت بين الناس، والحكم السابق.
*******
عام 1975 قدّمتُ طلب إعارة للجزائر، لأرمّم ما يمكن ترميمه في مواجهة الحياة، وفوجئتُ أنني ممنوع من السفر، وباختصار أقول، إنني استنفرتُ كلّ من لي عليه دالّة، وبالمصادفة التقاني صديق قدّمتُ له خدمة ما، فلم ينسها، وكنتُ قريبا من مقهى الهافانا القديم، فسلّم، وسألني إذا كان بإمكاننا أن نجلس قليلا في الهافانا، فاستجبت، فسألني "أنت ممنوع من السفر"؟ قلت يبدو أنّك تعرف شيئا، قال: "نعم، وكان يؤدّي الخدمة الإلزامية في الأمن الذي كان يرأسه ناجي جميل، وتابع "ليلةً كنتُ مناوبا، وأحببت الاطلاع على أضبارتك، فوجدتُ تقريرا صادراً من أمن حمص، عام 1972 خلاصته أنّ بيتك مُلتقى لعدد من الضباط، يجتمعون عندك بهدف القيام بانقلاب عسكري، وقد كتب عليه ناجي جميل بخط، بالقلم الأخضر "للمتابعة والمراقبة، علماُ أنّ مثل هذه النشاطات قائمة"، سأختصر: ذُكر في التقرير كما قال لي أسماء أكثر من خمسة عشر ضابطاً، كلهم علويون، -وهنا مربط الفرس،- الأسماء التي ذكرها لي لا أعرف إلّا اثنين منها، أحدهما كان قائد لواء مدفعيّة، والثاني كان قائد لواء مدرّع، وآخر مرّة شاهدتُ فيها أحدهما كانت قبل حوالي عشر سنوات.
في اليوم التالي يسّر لي البعض مقابلة رئيس فرع الأمن الخارجي، وسأختصر أيضا، وكان ممّا قلتُه له، أستنتج أنّ هاتف بيتي كان مراقَبا، وتحرّكاتي مرصودة، لمدّة ثلاث سنوات، فهل أنا أرسين لوبين؟!! ثمّ إذا كنتُ بهذه الخطورة فمن مصلحتكم أنْ أغادر البلد، ابتسم الرجل وقال ستسافر ان شاء الله، وستجد أنّ هذا البلد خير من غيره، وسافرتُ بعد مشقّة، سردتُ تفصيلاتها في مخطوطي، "مدارات 2"، ذهبتُ لأرمّم شيئا من عُسرٍ رافقني، ولكنْ.. ما كلّ ما يتمنّى المرء يُدركه...
أرسل بتاريخ 24/10/2024