حقول طائفيّة 4
2025.04.24
عبد الكريم الناعم
*القيادة القطرية التي نجحت إثر الانتخابات عام 1965 كانت لصالح جناح صلاح جديد، واتّسعت الشقة الخلافيّة بين القيادتين القوميّة والقطريّة، فالقطريّة ترى أنّ دور القوميّة هو العمل الحزبي القومي، أمّا الشأن القطري فهو مسؤولية القطرية، وليس للقوميّة إلّا التوجيه، والاقتراحات، أو ما يُقرَّر في مؤتمر قوميّ، وكانت القيادة القوميّة تشعر بأنّها شبه مُغيَّبة عمّا يجري في المجلس العسكري، والمجلس العسكري يرى أنّه هو الذي نظّم، وخطّط، ونفَّذ، وثقته أصلا بالقيادة التاريخية للحزب مهزوزة، لأسباب عديدة، يطول شرحها، وثمّة فارق كبير بين تنظيم عسكريّ، وآخر مدنيّ، من حيث الالتزام، والانضباط، وآخر مدني هو أشبه بالتجمّع كما ذكرنا.
اشتدّ الخلاف، وأرادت القوميّة الإمساك بزمام الأمور، وفي تلك الفترة تمّ استدعاء اللواء محمد عمران من إسبانيا التي أُبعِد إليها من قِبل مَن أبعدوه، وقد ذكرتُ ذلك،.. استدعوه لعلهم يجدون سنداً كافيا في القوات المسلّحة، فللواء عمران سمعته، وله محبّوه فيها، وهم كتلة يُحسب لها حساب، وكان هو رئيس هذه اللجنة، ذات يوم، وشُكِلت وزارة، وعيِّن اللواء عمران وزيرا للدفاع فيها، وعاد اللواء عمران، ومن خلال معرفته بالمفاصل الدقيقة للجنة العسكريّة، ولتركيبة الجيش، لم تطل إقامته في الوزارة، ووجد نفسه عاجزا عن تحقيق رؤاه الحزبية، والمجتمعيّة، ففي 18شباط 1966، أي قبل خمسة أيام من حركة شباط، وكان مقتنعاً أنّ رؤيته البعيدة والقريبة لا تتّفق مع المعطيات، ولا يريد أن يكون ساتراً،.. فقدّم استقالته من منصبه كوزير للدفاع، وأرسله للقيادة، ولكنّ القيادة لم تُذع ذلك.
القيادة القطرية الجديدة وجدت أنّ بقاء الأمور على ما هي عليه سيشل البلد والحزب والدولة، فقرّرت الحسم العسكري.
ليل 23 شباط 1966 تحركّت قوّة من المغاوير، مدعومة بدبابات يقودها العقيد عزّت جديد، قائد اللواء سبعين المدرّع، أقوى لواء في الجيش آنذاك، وهو موثوق بدرجة كبيرة من اللواء جديد، - بالمناسبة هو لا يمت إليه بأي درجة من القرابة-، وهاجمت القوات سكن الفريق أمين الحافظ، فقاوم هو وحرسه بشراسة، وقيل إنّ ابنته فقدتْ إحدى عينيها في تلك المعركة، وسالت الدماء مرّة أخرى في صدام عسكري، وحين شعر أمين الحافظ أنّ لا فائدة من المقاومة، للفارق الكبير بين حرس سكنه والقوات المهاجمة، فأطلّ من إحدى الشرفات ونادى عزّت جديد بالاسم، فأجابه: "أخرج، وأوقف إطلاق النّار، وأنت في ذمّتي"، فتوقّف إطلاق النّار، وأخذه عزّت جديد، وأوصلوه إلى سجن المزّة، واعتُقل اللواء عمران، وعدد من الضباط والمدنيّين المحسوبين على الجناح القومي، وتعرّض بعضهم للتعذيب، وكان الذين وقفوا بجانب القيادة القوميّة من مختلف الطوائف، وأُحيل عدد من العسكريين إلى السلك الخارجي، كمدنيين، للتخلّص منهم.
حين حدثت نكسة حزيران، أُخرج جميع الموقوفين من سجن المزّة، ومعظمهم غادر إلى لبنان، وفيهم أمين الحافظ، واللواء عمران، أمين الحافظ، وعدد من المحسوبين على القيادة القوميّة، حين نجح الحزب في العودة إلى السلطة في العراق عام 1968، سافروا جميعا إلى العراق، وأقاموا هناك حتى احتلال أمريكا للعراق عام 2003، وكان بينهم أسماء معروفة على المستويين العسكري والمدني، وللأستاذ ميشيل عفلق، تاريخيا، تبجيل خاص لدى البعثيين العراقيين، وكان منهم شبلي العيسمي، والدكتور الياس فرح، وأحمد أبو صالح، والشاعر خليل خوري، وآخرون، أمّا محمد عمران فقد اختار مدينة طرابلس في لبنان، وظلّ فلَكاً وحيداً.
تجدر الإشارة إلى أنّ ضباطا موالين لجناح جديد، ذهبوا ليل 23 شباط إلى أهمّ المواقع العسكرية التي قدّروا أنها قد تقاومهم، فعطّلوا كلّ تحرّك فيها، وسيطروا عليها، وقد فصّل ذلك محمد إبراهيم العلي في كتابه "حياتي والاعدام".
بعد أن استقرّ الوضع للقيادة الجديدة، اختير اللواء حافظ الأسد وزيرا للدفاع، وقد ذكرتُ سابقا كيف اشترط أن لا يتدخّل احد في شؤون وزارته، وكان له ذلك،
برزَت مقولات اليسار المُمَرْكسة، إلى حدّ واضحة مع هذه القيادة، واختير الدكتور نور الدين الأتاسي رئيساً للدولة.
الجدير ذكره أنّ مقولة اليمين واليسار لم تكن بارزة في الحزب قبل استلام السلطة في كلّ من العراق وسوريّة، وقد برزتْ بقوّة بعد المؤتمر القومي السادس، وما تقرّر فيه، وكان بارزاً في المنطلقات النظريّة، الذي صدر، حضور المفاهيم الماركسية بقوّة، الأمر الذي اختلف معه العديد من الجيل الأوّل في الحزب، وربّما جرى الترحيب به من قِبل الكثيرين، لما فيه من آفاق تجعل العلاقة مع المنظومة الاشتراكية أعمق وأوسع، وقد تشي عند البعض بوضع قَدم في العصر من منظوره التقدّميّ.
نفحة اليسار هذه هبّت من أحد أجنحة الحزب في العراق، فقد كان واضحا للمتابع منذ البدايات أنّ ثمّة تيارين، الأول يتزعّمه طالب شبيب وزير خارجية العراق، ومَن معه، وكان الأمين العام ميشيل عفلق داعماً لهذا التيار، بعد 1963، والثاني يتزعّمه علي صالح السعدي ومن معه.
أشير إلى أنّه أثناء انعقاد المؤتمر القومي السادس، وكان للعراق فيه تمثيل كبير، بشقيه اليميني واليساري، في ذلك المؤتمر نُقل لنا أنّ أحد أعضاء المؤتمر، واسمه كريم شنتاف، قد حذّر من شدّة الخلاف غير الظاهر بين كتلتي الحزب في العراق، وقال ما معناه إنّه إنْ استمرّت الأمور على هذا الحال، فقد لا يستطيع الحزب الاحتفال بالذكرى الأولى لاستلام السلطة"، وبطريقة رفاقنا العراقيين ردّ عليه الطرفان بقسوة، وخوّنوه ، وبالفعل حدث ما حذّر منه.
هنا أشير أيضا إلى أنّ قيادات الحزب في سوريّة حاولت تضييق الشقة بين الطرفين، وذهب عدد منهم بهذه المهمة للعراق، صلاح جديد، ونور الدين الأتاسي، وكان وزيرا للداخلية، ومحمد عمران، وقد سألتُ اللواء عمران عن أزمة الحزب في العراق، فقال لي بالحرف: "العراقيون يكذبون علينا".
زرتُ الدكتور الأتاسي في وزارة الداخلية، وسألته عن الأوضاع في العراق، فطمأنني، وقال لي بغداد مطوَّقة بأكثر من عشرين ألف فلاح، بالسلاح الكامل للدفاع عن الحزب، فكتبتُ في ذلك المساء في الزاوية التي كنتُ أحرّرها في الصفحة الأخيرة، على عمودين، من صحيفة البعث، أوقّعها يوماً باسمي الصريح، وفي اليوم الثاني اوقّعها بـ"ابن الرّيف"،.. كتبتُ مقالة أطمئن المهتمّين، وأنّ وضع الحزب أمتن بكثير ممّا يريده الأعداء، وصدرت الصحيفة في اليوم الذي أنهى فيه عبد السلام عارف وجود الحزب في السلطة، وكم خجلتُ أن يراني أحد فيسألني عمّا آلت إليه الأحداث، وجرى انشقاق في الحزب، فتشكّل، على أسس يسارية، حزب العمال الثوري، بقيادة حمدي عبد المجيد، وآخرين من رفاقه، ومَن يريد بعض التوسّع يستطيع العودة إلى كتاب هاني فكيكي أحد أقطاب اليسار في البعث، والذي عنوانه "أوكار الهزيمة"، وإنْ لم يخلُ من بعض التجنّي والتطرّف.
بعد أن تمّ إبعاد جناح القيادة القوميّة، وسُجن مَن سُجن، انصرف صلاح جديد بتياره لبناء تنظيم الحزب، فجعله أكثر تماسكاً، وابتعد هو عن شؤون الجيش، ولكنْ لم تمض أربعة أشهر حتى كانت نكسة حزيران 1967، وكان إحراجاً كبيرا لكل من سورية ومصر عبد الناصر، وإذا كان ناصر قد قدّم استقالته معترفاً بتحمّل المسؤولية، ففي سورية لم يجر شيء من هذا، رغم عدم وضوح بعض المسائل كإعلان سقوط القنيطرة، كما يُقال قبل سقوطها، وإطلاق سراح المعتقلين من البعثيين من سحن المزّة، وكان الحكم بعامّة يعاني من عُزلة على أكثر من جهة.
بدأت تظهر في الحزب معالم (تَمَركُس)، ففي مدينتي (حمص)، بمناسبة مرور مئة عام على ميلاد لينين، امتلأت شوارع وسط المدينة بملصقات عليها صور لينين، وبعض أقواله، وأقيمت ندوة في المركز الثقافي القديم عنه، وعن نضاله، وعن أقواله، وحضرها أمين فرع الحزب، وهو من المحسوبين بشدّة على اللواء صلاح جديد، وكان يرتدي الفيلد، الذي انتشر آنذاك كعلامة على الانتماء التقدمي الماركسي!! وكان رجلا فظّاً، متعالياً، لا يحترم حتى رفاقه في القيادة، وهو نفسه، صار أمينا لفرع الحزب بعد الحركة التصحيحية، بعد أن ابتعد قليلا وعاد.. ويبدو أنّ هذا قد أثار حساسية جهة ما في المدينة، وأرجّح أنّهم جماعة (الاخوان)، وكان عيد المولد النبوي قريبا من ذلك التاريخ، وقد فوجئنا أنّ وسط المدينة، بتفرّع شوارعها قد احتشد بأقواس النصر المزيّنة بأغصان الأشجار الخضراء، وبلافتات تحيي المناسبة، والمؤكّد أن فاعليات في المدينة من تجار وغيرهم قد استجابوا، فكان ذلك ردّا مباشرا على الاحتفاء بلينين.
هنا لابدّ من القول المنصِف أنّ صلاح جديد كان نظيف اليد، والسلوك، ولم يُشاهد في أيّ مقصف أو مطعم، وشبه متقشّف.
اعتمد الحزب بعد احتلال الجولان خطة أن لا يرفَّع إلى العضويّة العاملة إلّا من يتّبع دورة عسكرية، ويقوم بدخول الأرض المحتلّة في الجولان، في عمليّة، وقد جُرح بعض الرفاق في مهماتهم، وسرى كلام مفاده أنّ صلاح جديد يريد أن يجعل من الحزب منظّمة قادرة على القتال في وجه مَن تحدّثه نفسه بالمساس بسلطة الحزب.
عانى الحكم في سورية من عُزلة واضحة، عربيّاً، ولم تظهر أية بوادر طائفيّة على السطح، وظلّ، كما كان ما هو في النفوس، من أنّ ثمّة حضورا وازناً للعلويين، وربّما تربّص مَن تربّص من حركات سياسية أخرى، بانتظار ما ستسفر عنه الأيام، بعد تلك الانشقاقات التي حدثتْ...
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
أرسلت في 20،10،2024