بُنية البعث التنظيميّة
2025.04.18
عبد الكريم الناعم
لم تكن بنية البعث التنظيميّة شديدة التماسك، كالسوريين القوميين، والشيوعيّين، والأخوان المسلمين، وأثناء أحد الانقلابات الأولى، كان موقف أمينه العام الأستاذ ميشيل عفلق مُحرِجا له، ولأعضاء الحزب، فقد وقّع وثيقة استرحام لزعيم الانقلاب، ظلّ الآخرون من الأحزاب يُعيّروننا بها، ولم يتعرّض الحزب لملاحقة تُذكَر إلّا في عهد الشيشكلي، أمّا أيام الانفصال فرغم بعض الاعتقالات فقد كان الحكم مهزوزا، ومعزولا شعبيّاً، بينما كانت بنية الحزب في العراق شديدة التماسك والتنظيم، لدرجة تكاد تكون عسكريّة، فقد نشأ في ظروف سريّة صعبة، وملاحقة خطيرة، وهذا ما جعل الحزب في سوريّة يستعين برفاق عراقيّين لإعادة تنظيم الحزب في سوريّة زمن الانفصال.
كان الحزب، ولا أتجنّى تجمّعا، وروحاً رفاقيّة، وعواطف نبيلة متفاوتة،.. تجاه اهداف الحزب، بيد أنّ تنظيمه لم يكن بصلابة الأحزاب التي ذكرنا، أسوق كمثال الدكتور المرحوم نور الدين الأتاسي، وكان من الرعيل الأوّل في البعث، وبعد حلّ الحزب من قِبل القيادة القوميّة، لصالح إقامة الوحدة مع مصر، ذهب كلّ لشأنه، وفي أيام الانفصال، والبدء بإعادة التنظيم، كان المرحوم أخي خضر صديقاُ لشقيق الدكتور نور الدين، وكان عليه أن يأخذ له نُسخة من منشور حزبيّ صادر عن القيادة، واتّفق الاثنان على أن يُرياه للدكتور نور الدين في عيادته التي كانت في بيته، وحين وضعوا المنشور على الطاولة، وقرأ التّرويسة، أخذ المنشور بانفعال ومزّقه وهو يقول ما معناه: "أيّ حزب؟ وأيّ سخافة؟ الحزب مستحاثات"، ولستُ أُشكّك في إخلاصه لمبادئ الحزب، وأفسّر انفعاله أنه احتجاج على القيادة العليا في الحزب، وعدم ثقة بها، وهو نفسه الذي استُدعي من قِبل القيادة في دمشق بعد الثامن من آذار 1963، وعيّن وزيرا للداخليّة، ومن بعد رئيسا للدولة بعد حركة شباط 1966.
*الأحزاب السورية التي ذكرناها كانت تهتمّ بمبدعيها، وبأدبائها، وتسندهم، أحد الشعراء السوريين في الحزب الشيوعي، على سبيل المثال، كان حين يُعلَن عن إقامة أمسية شعريّة له في حمص، أو في غيرها كان يتوافد العدد الأكبر من الجهاز الحزبيّ، فما تجد مكانا للوقوف، فإذا عرفنا مَن نبغ في البعث، في حقل من تلك الحقول فبجهده الشخصي، لا بمساندة من الحزب، واستمرّ هذا حتى بعد استلام السلطة، كان هذا في سوريّة، بينما تجد الحزب في العراق يهتمّ بدرجة عالية بمبدعيه.
*قبْل استلام الحزب للسلطة لم تكن مسألة الطائفيّة فيه ملحوظة، إلّا بمقدار ما تُلاحظ في المجتمع بعامة، وبمجرّد كونه يتساوى هو والشارع في ذلك، فهذا تقصير وعدم انتباه.
*في بدايات استلام سلطة الحزب في سوريّة كان الحماس العفويّ يأخذ الجميع، وبدا حضور العلويين، بشكل ما في القوات المسلّحة، وهذا لم يكن ناتجا عن عمل حزبي لأحد، بل هي ظروف الحياة، فالجبال والقرى التي يسكنها العلويون فقيرة جداً، وكان المتطوّع في الجيش يجد لباسه، وطعامه، وراتبا في آخر كلّ شهر يعيله، في تلك الأيام، فاندفع الكثيرون، ولا سيّما جنوداً، وصفّ ضباط، وأنا ذكرتُ في مدارات 1، أنّه في اللواء المدرّع الخامس، والذي كان مقرّه في حمص، وأثناء اتصالنا بهم، تهيئة للقادم،.. ما من دبّابة إلّا وكان لنا فيها السائق، أو القائد، أو الرامي.
*في العراق مثلا كان، بحسب ما قرأت، ثمانون بالمئة من صفّ الضباط والجنود من الشيعة، انتسبوا للجيش بسبب أوضاع ماديّة، بينما كان معظم الضباط من السنّة.
أشير هنا أنّ التمرّد العسكري الذي حدث في حلب، قبل آذار 63، وكان من أبرز ضباطه الملازم الأوّل المظلّي محمد إبراهيم العلي،.. هذا التمرّد، حوكم عدد من ضباطه، ولم يصدر حكم بالإعدام إلّا على محمد إبراهيم العلي، وهذا ما خلق حساسية واضحة لدى العلويين، في الجيش وخارجه، وربّما أجّج المشاعر للاستجابة فيما بعد، ويُقال إنه جعل اللجنة العسكريّة تُسرع في إقامة تحالفات مع النّاصريين، وزياد الحريري، لإنقاذ محمد إبراهيم العلي.
*نتوقّف قليلا عند بنية القوات المسلّحة في ذلك الوقت، فقد شكّل المولودون من أبوين علويين نسبة ملحوظة، كما ذكرنا كصف ضباط أو جنود، مثلهم مثل غيرهم من أبناء المناطق الفقيرة، كأبناء أرياف السويداء، وحوران، وحلب، والجزيرة، والبدو، أمّا الضباط فقد كانوا من منابع مختلفة، غير أنّ ثمّة كُتلة تُدعى كتلة (الشّوام) وهم أبناء ينتسبون طبقيّاً للبورجوازية الدمشقيّة، وبعضهم من أوساط تنتمي إلى طبقة التجار، وهم الذين قاموا بحركة فصل الوحدة بين سورية ومصر، وثمّة كتلة الناصريين، وهذه مؤلّفة من مختلف الطوائف، ومنهم ضباط لامعون من العلويين، ومن أبرزهم الرائد محمد نبهان، الذي كان بعثيّاً قبل قيام الوحدة، وكان من ضباط ما سُمّي المكتب الخاص، في عهد الوحدة، وكان ذا دور بارز في حركة 18تموز 1963 والتي سنمرّ على ذكرها.
حتى ذلك الوقت لم تكن ملامح بروز شيء طائفيّ ملحوظة.
البعثيون، مع الناصريين، وجماعة العميد زياد الحريري، الذي كان قائداً للجبهة الجنوبيّة، قاموا مشتركين بالتحرّك صباح 8آذار1963، وكان حُكم الانفصال مهلهلا، ومرفوضا من معظم شرائح المجتمع السوري، وقد كان معظم الضباط البعثيين الموجودين في القوات المسلّحة ذوي رُتب صغيرة، أعلاها رتبة نقيب، ويُريدون أن يكون على رأس العمل ضابط برتبة كبيرة، وله اسمه ووزنه، فاتّفقوا مع الحريري، واختير الفريق لؤيّ أتاسي رئيسا لمجلس قيادة الثورة، وكان قبل ترفيعه برتبة عقيد، ومُبْعدا كملحق عسكري، في الولايات المتحدّة، إن لم تخني الذاكرة.