عز الدين القسام درة تاج الجهاد
2024.11.28
جمانة طه
بتاريخ 20/11/ 1935 استُشْهِدَ الشيخ المجاهد عز الدين القسام على أرض فلسطين التي أحبها ودافع عن وحدتها وحريتها بروحه وماله. وتقديرًا واحترامًا لمسيرته الدينية والجهادية المشرفة أضع بهذه المناسبة الدراسة التي أنجزتها عنه، وننشها هنا بعد الاختصار.
محمد عز الدين القسام
1883-1935
درة تاج الجهاد
علّقتُ قلبي فوق شجرة ليمون وأرحت روحي داخل أزهارها، وقلت: لعل حاكورة بحرية سبق للشيخ عز الدين أنْ تَمشّى فيها تطلعني على بعض ما سمعتْ من بوحه وشجنه، فأتوصل إلى معرفة السرّ الذي صنع منه قيمة ونهجًا. ماست الشجرة طربًا، وكأنها استشفت ما يدور في خاطري، وقالت: ليس في الأمر أسرار! ومواقف الشيخ لم تكن فيئًا في ظلال شجرة ولا استراحة في بستان، وإنما هي صدق قلب وثبات جنان. وهي محبة تتفانى في إرضاء الله، من أجل كرامة وسلامة الإنسان. أدهشني عمق الجواب وصدقه، وحفزني إلى أن أتقصى مسيرة هذا الرجل الذي لا أعرف عنه أكثر من أنه رجل تقي وهو وأنا من مدينة واحدة. ولد محمد عز الدين بن عبد القادر القسام في بلدة جبلة في العام 1883م في أسرة فقيرة ماديًا متواضعة اجتماعيًا، لها حظ من العلم الشرعي وذات سمعة حسنة. تعلم في الكتّاب القراءة والكتابة والحساب، ودرس مبادئ العلوم الدينية على والده. ثم تتلمذ لشيخين عُرفا بسعة العلم والمعرفة باللغة والتفسير والحديث والفقه، هما الشيخ سليم طيارة البيروتي الأصل والشيخ أحمد الأروادي. وحين شبّ رغب والده على الرغم من ضيق يده، بإرساله إلى القاهرة للدراسة في الأزهر والتبحر في المعرفة وعلوم الدين. فانطلق اليافع عز الدين في العام 1896 من ساحل جزيرة أرواد على ظهر مركب إلى الإسكندرية، ومنها إلى القاهرة، حاملًا في ضميره وعدًا بالنجاح قطعه لوالده وفي قلبه محبة وافرة لأهله ورفاقه وبلدته. أقبل القسام على الدراسة في الأزهر بلهفة العاشق وعقل النابه، وصرف كل يومه متبحرًا في أصول الفقه وعلم مصطلح الحديث والتفسير واللغة العربية، يقينًا منه بأن العلم شجرة والعمل ثمرة. أمضى القسام حياته معلِّمًا ومتعلِّمًا، فالعلم في رأيه إن لم يتطور يركد وإن لم يُبذل للآخرين فلا قيمة له. لم يخضع في دراسته بالأزهر للبرنامج المقرر على غيره من الدارسين، بل كان ينتقل من مرحلة إلى أخرى على جهده وبمقدار ما يستوعب من العلوم. لم يهدف من دراسته إلى نيل شهادة تدلل على تضلعه في الدين، بل إلى التفقه فيه وفهم دلالات ألفاظ القرآن والحديث لكي يتمكن كداعية من التفسير والتوجيه، وهذا ما جعل منه فقيهًا وليس فقط حافظًا. بقي القسام في الأزهر ثماني سنوات، وتحصل في نهايتها على الإجازة العالية الدالة على تضلعه في العلوم الإسلامية. في أثناء وجوده في مصر ترسخت لديه قناعة بضرورة مكافحة الإقطاع والتخلص من المستعمر، فهما في رأيه وجهان لعملة واحدة. فالظلم إذا شاع وساد، يسحق الإنسان ويدمر العمران، والسبيل الوحيد لتنمية الثقة بالنفس وللتحرر من الاستغلال الاجتماعي هو العلم. بعد عودته من مصر في العام 1906 إلى جبلة، عُيّن للخطابة في أيام الجمع في جامع المنصوري. فصار المصلون يتوافدون إلى الجامع للاستماع إلى نمط جديد من الخطب لم يألفوه من قبل، يتناول فيها هموم المسلمين ومشكلاتهم اليومية، ويدعوهم إلى محاربة الفقر بالعمل والتعاون والمحبة. ويقدم لهم الإسلام كدين ومفاهيم، بعيدًا عن الخرافة والبدع. وبهذا الأسلوب كان يعبر عن موقفه الإيماني الرافض للخنوع، والاستكانة للظلم والعبودية. ومما يؤسف له أنه لم يستطع أن يحقق ما كان يطمح إليه برغم ما بذل من جهود، فاليد الواحدة لا تصفق وبخاصة في وجود سطوة الأعراف والتقاليد وصعوبة اقتلاعها أو حتى تشذيبها. وأيضًا بسبب السياسة التي اتبعها الحكم المستبد بإبعاد الشعب عن العلم والمعرفة، لكون الجهلة هم مصدر قوته والسند الأقوى لاستمراره في السلطة. هذا إلى جانب تكاتف الإقطاعيين في الساحل السوري ضده ومحاولتهم نفيه إلى مدينة إزمير التركية، تخلصًا من صوته الجريء الداعي إلى المعرفة والتحرر من قيود التبعية والاستزلام. فقرر السفر إلى الأستانة فرارًا من الحصار المفروض عليه، ورغبة في الاطلاع على الجديد من الآراء والأساليب المتبعة هناك في الدروس المسجدية. فإذا كان الجهاد بالسلاح ضد المحتل هو الهم الأول للقسام، فإن همه الثاني هو تخليص الدين من البدع والشوائب التي شوهت وجهه، بفعل الجهل حينًا والإساءة المقصودة في أحيان أخرى. لم تطل إقامته في الآستانة، فأمية الناس وعدم معرفتهم اللغة العربية وجهلهم بتعاليم الدين حتى البدهي منها، دفعته إلى العودة إلى جبلة وفي نيته البدء من جديد. ففتح في العام 1912مدرسة لتدريس اللغة العربية وعلوم الدين في النهار للأطفال واليافعين، وفي المساء للكبار. وصار يعطي في جامع السلطان إبراهيم لمن يرغب، دروسًا في الحديث وتفسير القرآن. وقصر حديثه في يوم الجمعة على توضيح ما استعصى على من يحضر فهم بعض المسائل، وتنبيههم إلى ضرورة التغلب على الفقر والبؤس بالتعاون والمحبة والعمل الجاد. فكان بهذا العمل المكثف يعبر عن احتجاج صامت على تردي الأوضاع في المجتمع، من النواحي الثقافية والاجتماعية والسياسية.
عندما احتل الأسطول الفرنسي اللاذقية والساحل السوري، كان عز الدين أول من رفع راية المقاومة في تلك المنطقة، وأول من حمل السلاح في وجه فرنسا. دعا إلى الجهاد فلبى دعوته جمع غفير من أهل جبلة وريفها، وأخذ يدربهم على استعمال السلاح وفنون القتال في موقع البحيص جنوب المدينة بخبرته المكتسبة من خلال مشاركته الجيش العثماني في محاربة الإنكليز والطليان. وعلى الرغم من الفاقة المادية الخانقة التي كانت تكبل الناس وتحطم معنوياتهم وتشغلهم عن أي رغبة في التحرر، إلّا أنه استطاع بأسلوبه الإنساني وخطبه الحماسية ودروسه الدينية أن يوقد في قلوب الناس شمعة النضال، ويحثهم على مقاومة الشر في النفس وعلى الأرض. وحينما ارتفعت وتيرة مقاومته هو ورفاقه وعجز الفرنسيون عن استمالته بالترغيب وعن استسلامه بالترهيب، ضيّقوا عليه الخناق ووضعوا مكافأة مالية لمن يدل على مكانه أو يمسك به، وأصدروا عليه وعلى عدد من رفاقه حكمًا غيابيًا بالقتل. فاضطر هو ومن معه إلى مغادرة منطقة الساحل إلى جبال صهيون، وجعلوها ميدان جهادهم. وعندما تمكن الفرنسيون من معرفة مواقعهم هاجموهم وقتلوا بعضهم، وفرقوا شمل الباقين. ونتيجة لتكاثر العدو الفرنسي عليه وعلى رفاقه وانقطاع المدد عنهم، فكر بالذهاب إلى فلسطين على نية الجهاد. فباع بيته في جبلة من أجل السلاح، وأسكن عائلته في الحفة وأوصى بها صديقه المجاهد الشيخ صالح العلي. غادر الشيخ عز الدين ورفاقه جبال صهيون (الحفة) في رحلة شاقة للوصول إلى فلسطين، فعبروا الأرض اللبنانية البرية وصولا إلى صيدا ومنها وصلوا عكا بقارب صيد في نهاية العام 1920. وفي العام 1921 انتقل منها إلى حيفا، التي كانت قاعدة الأسطول البريطاني وترسانة سلاحه. ويؤكد على هذا التاريخ ورود اسمه في وثيقة مؤرخة في العام ذاته، تطالب المندوب السامي البريطاني بتعيين محمد أمين الحسيني مفتيًا. ومن جديد استأنف القسام في حيفا رحلة النضال العلمية والجهادية، فعلَّم الدين واللغة للعمال وللفلاحين وعمل على تحسين أحوالهم المعيشية وخطب في عدد من جوامعها، إلى أن استقر في جامع الاستقلال وتولى شؤونه. وكان ينبه ويقول باستمرار من خلال خطبه وكتاباته إلى أن اليهود يريدون اقتلاعكم من فلسطين، في الوقت الذي كان هنالك فلسطينيون وعرب يرون أن الوجود الصهيوني مجرد حلم. وبسبب تخوفه من الآتي، دعا الجهات الاقتصادية في البلد إلى شراء الأسلحة من أجل الجهاد وتحرير الوطن. وأنكر على المجلس الإسلامي الأعلى تزيينه المساجد، وبناء الفنادق. وأشار بوجوب تحويل الجواهر والزينة في المساجد، إلى أسلحة. وقال: "إذا خسرتم أرضكم، فإن الزينة على الجدران لن تنفعكم". ونادى بتأجيل فريضة الحج، وتحويل نفقاته إلى شراء الأسلحة. "فالحج لمن استطاع إليه سبيلا بعد تأمين نفقة الأهل عند غيابه. وكيف يكون مستطيعًا الحج، مَنْ إذا سافر لا يأمن العودة إلى بيته المهدد من الأعداء؟ فَالْأَوْلى به أن يحمي بيته، بسلاح يشتريه بنفقة الحج". عمل القسام مدرسًا في أكثر من مدرسة في حيفا، وجمع في تدريسه بين المنهج الدراسي والتوجيه التربوي. وفي أثناء تدريسه ركّز على المهن وأهميتها، وحث الطلاب على اختيارهم منها ما يتناسب مع قدراتهم وتطلعاتهم المستقبلية. واستخدم المسرح المدرسي وسيلة لغرس روح الجهاد، في نفوس الناشئة. واتبع في التدريس أسلوب الحوار مع الطلاب، فكان يحمل العصا ولا يضرب بها.
إن مشاركة عز الدين القسام في محاربة الانتداب الفرنسي على سورية، والوجود البريطاني والصهيوني في فلسطين أمر غير مستغرب. فسورية وطنه، وفلسطين من بلاد الشام التي هي كل الوطن. ولكن أن يسعى للذهاب إلى ليبيا ومساندة الأشقاء في مقاومة الاستعمار الإيطالي، فهذا كرم ما بعده كرم وشهامة ما بعدها شهامة. فحين بادر القسام إلى تجنيد الشباب من جبلة وغيرها من مدن وقرى الساحل السوري وتدريبهم على حمل السلاح للذهاب معه إلى ليبيا، كان يرغب في أن يبعث الروح في حركة الجهاد المبنية على فكرة وحدة الأمة. لكن رغبته لم تتحقق، فقد أخلّت الحكومة العثمانية بوعدها له ولم تنقل المجاهدين بحرًا من إسكندرونة إلى طرابلس الليبية. وقيل بأن الشيخ لم ييأس بل تابع المحاولة إلى أن تمكن من مؤازرة المجاهدين في الحد الأدنى، ونقل إليهم ما تم جمعه من مال وعتاد. اتخذ القسام من مقولة للشيخ جمال الدين الأفغاني تميمة حفزته على بدء الجهاد ومتابعته حتى النفس الأخير: " لسنا نعني بالخائن من يبيع بلاده بالنقود، ويسلمها إلى العدو بثمن بخس أو غير بخس، فكل ثمن تباع به البلاد هو بخس. بل خائن الوطن مَنْ يكون سببًا في خطوة يخطوها العدو في أرض الوطن، أو يدع قدمًا لعدو تستقر على أرض الوطن، وهو قادر على زلزلتها".
تمكن القسام بعد عمل شاق من تأسيس أول تنظيم سري جهادي قوامه العمال في المدن والفلاحون في الأرياف، عُرف باسم "العصبة القسامية". وقد أعطت هذه البذرة الطيبة التي أنبتها في أوساط الشعب الكادح أكلها في أكثر من معركة وهجوم، وأوقعت عددًا من الهزائم في الجيشين الصهيوني والبريطاني. وقد استمر هذا التنظيم المسلح الذي أسسه القسام قائمًا عاملًا مدة ثلاث سنوات من 1936-1939، بفضل العمال والفلاحين الذين دُعوا بالقساميين، التزامًا بمسيرته وتقديرًا لوفائه واستشهاده في سبيل قضية مقدسة. في العام 1935 شددت السلطات البريطانية الرقابة على تحركات القسام في حيفا، فانتقل إلى الريف وأقام في قضاء جنين ليبدأ عملياته المسلحة، إلّا أن القوات البريطانية كشفت أمره. فتحصن هو وبعض رفاقه بقرية "نزلة الشيخ زيد" فلحقت بهم القوات البريطانية وقطعت الاتصال بينهم وبين القرى المجاورة وطالبتهم بالاستسلام. لكنهم رفضوا، ودارت بين الطرفين معركة انتهت باستشهاد القسام وثلاثة من رفاقه في حرش يَعْبدْ في العشرين من شهر تشرين الثاني/نوفمبر في العام 1935، فكان لاستشهاده الأثر الأكبر في اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936 ونقطة تحول كبيرة في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية. كما كان وقع الاستشهاد أليمًا في جميع أنحاء فلسطين، فأعلن الإضراب العام في حيفا وتحولت جنازة الشهداء إلى تظاهرة وطنية جبارة، وحمل نعشه على الأكتاف إلى قرية الياجور التي تبعد عنها عشرة كيلومترات. وفي مسجد النصر أقيمت الصلاة، ثم حملت النعوش على الأكف وسط مظاهرة صاخبة، وصفها أكرم زعيتر 1909-1996 في مقالة مهمة في جريدة الجامعة الإسلامية، ختمها بقوله للقسام: "لقد سمعتك قبل اليوم خطيبًا مفوهًا تتكئ على السيف، وتهدر من على المنبر. وسمعتك اليوم خطيبًا تتكئ على الأعناق ولا منبر تقف عليه. والله.. أنت اليوم أخطب منك حيًا".
***
انطلق هذا الفتى - الشيخ في سماء العروبة مثل شهاب ثاقب، يحمل في ضوئه النور والنار. النور الهادي لأهله وشعبه، والنار الحارقة للأعداء المحتلين أعداء العروبة والإسلام. فصار للأعداء هدفًا، وللأصدقاء ملاذًا. رجل وطني رائد في وطن محتل، معلم في مجتمع جاهل مظلوم، جريء أمام غاز طامع، صريح في محاربة البدع والترهات، رافض للذاكرة الجاهزة وللصورة القارة في أذهان الناس. وإذا كانت الأرض السورية قد أنجبت على مر الزمان أبطالًا يدفعون عنها وعن الأرض العربية الأذى، فإنه من اللافت حقًا أن يولد في بلدة صغيرة وفي مجتمع فقير ماديًا ومتخلف علميًا، فتى بمثل هذه القيم النبيلة المطهرة من وباء التعصب الديني، والطافحة بالغيرة على الوطن والأمة.
***
يسوقني ما تقدم عن المجاهد الشيخ عز الدين القسام إلى القول: حريٌّ بأهل جبلة أن يفاخروا بهذا الفتى والرجل الظاهرة الذي ولد فيها ودرج على مرابعها، مثلما يفاخرون بسلطان الزهاد إبراهيم بن الأدهم المدفون في ترابها، ويصبح اسمها "جبلة العِزّ الأدهمية".
المراجع
1-عز الدين القسام: شيخ المجاهدين في فلسطين/تأليف محمد حسن شُرّاب، دمشق: دار القلم، ط1، 2000، سلسلة أعلام المسلمين (77). 2-عز الدين القسام/الشيخ حمدي الحريري، مجلة منار الإسلام الإماراتية، العدد4، السنة 15 3-الوادي الأحمر: صفحات خالدات من سيرة الإمام عز الدين القسام/تأليف عبد الله الطنطاوي، دمشق: دار القلم، ط1، 2004 4-عزة دروزة/مقالة في مجلة الأمان الغراء، العدد 130، تاريخ 11/11/1994 5-رسالة للمؤرخ الأستاذ محمد سعيد الطنطاوي/ نشرت ضمن (رسائل مسجد الجامعة)، القسم الثاني/ المكتب الإسلامي.