كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

فلسطين والتاريخ

نصر شمالي

ما كادت الحرب العالمية الأولى تنتهي باحتلال المشرق العربي حتى أعلنت لندن وواشنطن عن البدء بتحقيق الحلم القديم.. حلم إقامة القاعدة الإسرائيلية على الأرض الفلسطينية.. وبدأ فعلاً تدفق المستوطنين!..
أما عن العمق الحقيقي لهذه القاعدة/الدولة (العمق السياسي والاقتصادي والعسكري) فهو بريطانيا وأميركا وحليفاتهما، على أن تظهر القاعدة الإسرائيلية رسمياً بمظهر الدولة الصغيرة الحديثة الشجاعة المحاصرة، وذلك تسهيلاً لأدائها مهامها العظمى!
وأما مهامها فتتلخص في الحيلولة دون نهوض الأمة العربية وإبقائها تحت سيطرة الغرب، وفي التغلغل في أفريقيا وآسيا لصالح الغرب باعتبارها دولة صغيرة متطورة لن يخشاها الأفارقة والآسيويون الذين يخشون الدول الاستعمارية الكبرى! ولقد كان ممكناً أن يقوم الكيان الإسرائيلي في تونس أو في يوغندا (يوغندا التي اقترحوها فعلاً) لكن فلسطين كانت مناسبة أكثر من غيرها، فهل يواجه الفلسطينيون هذا العدو الرهيب، بعمقه الدولي وبأهدافه الدولية كأنما هو مشكلتهم وحدهم، فقط وحصرآ؟
اليوم، بعد مرور حوالي مائة عام على انطلاقة المشروع بعمقه الأطلسي العميق، فإن الكيان الإسرائيلي ما زال في حالة حرب مع الشعب الفلسطيني الذي يواجهه نيابة عن العرب والأفارقة والآسيويين! الشعب الفلسطيني الذي يفترض أنه استسلم بل يفترض أنه زال من الوجود قبل عشرات السنين!
وإنها لمعجزة حقاً أن شعب الجبارين لا يزال على قيد الحياة مقاتلاً متجدداً متطوراً مبدعاً، ومصمماً على استرداد كامل وطنه، بينما الكيان الإسرائيلي يراوح في مكانه عند حدّ لم يستطع تخطيه!
أليس استمرار الشعب الفلسطيني في مواجهة حلف الأطلسي هو في حدّ ذاته دليلاً قاطعاً على حتمية خلاص الأمة وعلى أنّ الخلاص متوقف على لحظة تاريخية مؤاتية تتوافر وتتآلف فيها الشروط الضرورية الذاتية والموضوعية لتحقيق النصر والنهوض؟
 ******

بعد الحرب العالمية الثانية، في النصف الثاني من الأربعينيات، بدأت مرحلة تعزيز وفرض قيادة وسيادة واشنطن على العالم، وعلى حلفائها وخصومها، وانطلقت واشنطن تنشر في المستعمرات طريقتها في الاستعمار الحديث غير المباشر، بوساطة القروض والمخابرات والإعلام، وذلك بعد أن كنست جيوش الأوروبيين من المستعمرات، وسادت في الأسواق التجارية الدولية البضائع الأميركية بصفتها سيدة البضائع وساد في الأسواق المالية الدولار الأميركي بصفته سيد العملات!..

ولكن، بعد حوالي عشرين عاماً، وتحديدا ابتداء من العام 1969، بدأت الموازين الدولية التجارية والمالية تتغير في غير صالح واشنطن لصالح حلفائها، بحكم الأعباء الدولية المالية الحربية الهائلة التي ترتبت عليها، وأيضاً بحكم التطور في بنية النظام العالمي الرأسمالي حيث كان حلفاؤها معفيين إلى حد كبير من نفقات الأعباء الحربية ومنصرفين إلى حد كبير لميادين المال والأعمال، فكان أن راجت بضائعهم في العالم من جهة، وتراكمت الكتلة النقدية العالمية بمعظمها في خزائنهم من جهة ثانية!.. وهكذا وجدت واشنطن نفسها في آخر الستينيات وقد أصبحت لأول مرة في تاريخها مديونة ومستوردة، إزاء حلفائها وليس إزاء أعدائها، أي إزاء الأوروبيين واليابانيين!
فكانت بداية تلك الإجراءات التي اتخذها الرئيس نيكسون بإرغام حلفائه على دفع الأتاوات لبلاده!..
ومنذ ذلك الخطاب المتلفز الذي ألقاه نيكسون بدأت عمليات ترتيب أوضاع العالم قسرا بالصورة التي تلائم الأميركيين وتخدمهم! ومنطقتنا العربية، منطقة النفط الأولى في العالم، أو "المنطقة العالمية المفتاح" كما يسميها الأميركيون، كانت أولى المناطق التي تناولتها الترتيبات والمبادرات الأميركية، وهي الترتيبات التي ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا.. الخ!
******