كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

عن رحلة بدأتها منذ خمسين عاماً (4)

ابراهيم معروف- فينكس
وابتسم (الأبيض) الممتد من اسكندرونة إلى جبل طارق!
أتاح لي صيف 1974 فرصة التعرف على أصدقاء جدد كثيرين، كنا نلتقي بشكل خاص في الحي الجامعي في بلفور، القريب من حي الحراش الشعبي. ومع اقتراب نهاية الصيف أخذت أعداد من الطلبة بالعودة استعداداً للدخول الجامعي القادم، مما جعل اللقاءات تزداد أكثر فأكثر.
ذات لقاء لاحظت وجهاً ليس غريباً عني، قلت ربما هو شبه لأحد أصدقائي في سورية، فقد كنت أرى في وجوه الكثيرين ممن ألتقيهم وجوه إخوتي وأصدقائي في سورية، حتى أنني درجت على عادة ماتزال مستمرة عندي حتى اليوم، فمن ألتقيه ولا أعرف اسمه أطلق عليه، بيني وبين نفسي، إسم أحد إخوتي أو أصدقائي. في نهاية اللقاء اقترب مني صاحب هذا الوجه، ووجه لي سؤالاً مباشراً: ألست ابراهيم معروف؟ قلت نعم. قال ربما لم تتذكرني، أنا فلان (أ. أ.) كنا معاً في قسم العلوم الجيولوجية في جامعة دمشق بداية السنة الجامعية 1968-1969، وقد حزت على منحة وجئت إلى الجزائر. ونظراً لقصر مدة اللقاء، ولكونه جرى في السنة الأولى، سنة التصفيات في جامعة دمشق كما هو معروف، فلم يكن لدينا متسع من الوقت للكثير من اللقاءات والتعارف. المهم أن الصديق (أ. أ.) أخبرني أنه يتابع الدراسة في المعهد الوطني للوقود والكيمياء في بومرداس، وهي مدينة صغيرة تقع على شاطئ البحر، تحدث لي عن هذه المدينة وعن المعهد الذي يدرس فيه، وعن الأساتذة وجميعهم من الإتحاد السوفييتي، وعندما علم بسبب مجييء إلى الجزائر، دعاني بإلحاح لزيارته، وزيارة المعهد، مضيفاً أنه تقرر أن يبدأ المعهد في العام القادم بفتح المجال للدراسات العليا (الدكتوراه)، وأن مسؤول الدراسات العليا هو رئيس القسم الذي يدرس فيه، مشيداً بهذا المسؤول، وأبدى استعداده ليعرفني به إن كنت أرغب بذلك. اتفقنا على الزيارة قريباً. وفعلت قمت بزيارته، فوجدت مدينة صغيرة، منظمة، نظيفة، هادئة، مدللة على شاطئ البحر، يتواجد فيها عدد من المعاهد العليا لإعداد المهندسين والتقنيين الساميين، ومعظم سكانها طلبة وأساتذة (أكثريتهم الساحقة سوفييت) وإطارات عليا لبعض الشركات الوطنية، وخاصة إطارات الشركة الوطنية للنفط (سوناطراك). وكان الحديث وقتها أن المدينة ستصبح مدينة أكاديمية، تساهم بشكل مباشر وفعال في "الثورة الصناعية"، إحدى الثورات الثلاث (الزراعية والصناعية والثقافية) الواردة في استرايجية البناء والتنمية العزيزة على الرئيس الهواري بومدين رحمه الله.
والمعهد الوطني للوقود والكيمياء (INHC)، معهد ضخم، لإعداد المهندسين والتقنيين الساميين في تخصصات كثيرة (الجيولوجيا والجيوفيزياء والكيمياء الصناعية والانتاج والتكرير والنقل...). يقوم بالتدريس فيه أساتذة سوفييت، كما سسبق الحديث، والسكن مؤمن للجميع، وكذلك الأكل، ولا حاجة للنقل فمساحة المعهد ضمن دائرة لا يتجاوز قطرها كيلومتر واحداً، تضم قاعات الدراسة، وأجنحة االإقامة ومركب المطاعم، وملاعب رياضية، وقاعة السينما (نعم كان هناك قاعة للسنيما) تعرض أفلاماً منتقاة، كل الطلبة يمكنهم الدخول إليها، طلاب كل سنة لهم يوم محدد في الأسبوع. وكل ذلك الدراسة والكتب، والإقامة، والأكل مجاناً. يضاف إلى ذلك منحة شهرية، لا يحتاج إليها الطالب فعلياً إلّا إذا أراد مساعدة أهله، أو السفر في العطلة الصيفية إن أراد السياحة. هذه هي ديمقراطية التعليم أيام المرحوم بومدين، التي سمحت لأبناء الطبقات الشعبية أن يدرسوا في ظروف مثالية.

إغراءات هذه الظروف لا تقاوم. وخلال زيارتي للصديق (أ. أ.) والمدينة التقيت بمساعدته مسؤول الدراسات العليا الدكتور خالد الشيخ الذي رحب بحرارة أن أكون بين أوائل المنتسبين لتحضير الدكتوراه في قسم جيولوجيا البترول، مع العمل كمعيد في القسم نفسه، واخترت بموافقته تخصص هيدروجيولوجيا البترول والغاز) وأخبرني أنه سيأخذ لي موعداً مع مسؤول الموظفين لتوقيع عقد العمل قريباً.