كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

رمضان في غابر الأزمان

صفوان زين

في لحظة ورعٍ طفولي مفاجيء عقدتُ النيةَ على أن أصوم. أبلغتُ والدتي بِنيّٓتي، فوافقت دون حماس، وألححتُ عليها ان توقظني على السحور، فوافقت، انما أيضاً دون حماس، يبدو أنها في الحالتين لم تحمل صيامي على محمل الجد.
تناولتُ وجبةٓ سحور شهية (كان للسحور في الماضي بهجته ورونقه) وأصغيتُ بشغف الى "المسحّر" وطبلته، ومع الأيام حفظتُ بعضاً من أناشيده وأدعيته.
استيقظتُ صبيحة اليوم التالي صائماً بإذن الله، وقد تولاني الإحساس بأني على استعداد لأن أصوم الدهرَ كُلَّه. لم تمضِ سويعات الا وبدأ نشاطي يخبو وهمتي تفتر بعد أن تبين لي أن بلوغ أعلى المئذنة دونه صعود العديد من الدرجات.
أذّن الظهر وكان صيامي ما زال مستمراً، أذّن العصر فتمنيت في سري لو أن الله شرَّع للصيام حتى العصر بدلاً من المغرب، وكدتُ، لولا الحياء، ان أفتي لنفسي بحلول موعد افطاري مع آذان العصر.
بين العصر والمغرب مضى الوقت بطيئاً متثاقلاً، كنت أعود خلاله الى أخوتي (كنت وقتئذ الأصغر عمراً بينهم) مستفسراً بنفادِ صبرٍ عن الوقت المتبقي، ملقياً باللائمة على الميقاتي جدي لوالدتي الشيخ عارف الصوفي وساعته العربيةَ التوقيت المقصّرة دوماً (شأن كل ما هو عربي!).
مع اقتراب موعد الإفطار تسمرتُ أمام إحدى نوافذ منزلنا المشرعة جميعها على القلعة، محدّقاً بلهفة في مدفع رمضان العتيق الرابض قبالتي فوق رابيتها الجميلة قريباً من حاووز الماء الذي يروي المدينة بكاملها، الآلاف من البطون الخاوية تترقب بفارغ الصبر سماعَ قذيفة الافطار التي يتوقف اطلاقها على صيحة "واردا" المدوية تطلقها حنجرة آمر المفرزة العسكرية بمجرد أن تشع مئذنة جامع الجديد بالأنوار التي لم تكن بدورها لتشُعّ قبل أن يوعز الميقاتي برفع أذان المغرب.
في الدقائق الأخيرة المثيرة استعدتُ مشهداً لطالما شدني وجذب انتباهي، هو مشهد جدي الشيخ عارف يروح جيئةً وذهاباً على سطح منزله الملاصق لجامع الجديد وقد استل ساعتَه القديمة من جيب جُبَّته، يحدق بها تارةً وبالشمس الآيلة الى المغيب تارةً ثانية، وبالمؤذن 'بكري' تارةً ثالثة، كي يتحقق من جاهزية الأخير لالتقاط الإشارة بإضاءة مئذنته والانطلاق في آذانه متبوعاً من كافة مؤذني جوامع المدينة، حبستُ أنفاسي وتسمرت عيناي على المدفع قبالتي، في هذه الأثناء كانت والدتي تضع اللمسات الأخيرة على الأطباق الشهية، وفي طليعتها شوربة رمضان الشهيرة، وإخوتي يتولون مساعدة الخادمة في نقل الأطباق من المطبخ الى غرفة الطعام، ووالدي يسترقُّ السمعَ بصعوبة الى التلاوة الرخيمة للمقريء الشيخ محمد رفعت على الموجة القصيرة لإذاعة القاهرة.
جلس الجميع الى المائدة بانتظار ساعة الصفر، مرددين "ياعظيم"، ولهب الشوربة الشهية يزكم أنوفَهم ويُسيل لعابَهم، وأنا ما زلت متسمراً في مكاني أمام النافذة المشرعة على القلعة بانتظار لَهَبٍ آخر. ما إن دوى مدفع الإفطار يسبقه بريقُ نارِه حتى دوت في أعقابه حناجر المئات من صبية الحي بصرخات الفرح والابتهاج أثناء عَدْوهم السريع الى بيوتهم للِّحاق بإفطارهم، مختلطةً بأصوات العشرات من مؤذني المدينة.
عدوتُ بدوري وبسرعة البرق الى مائدة الإفطار مقلداً صبيةَ الحي في صراخهم المحبب. جلسنا جميعاً الى المائدة وكنت ضيفَ الشرف بلا منازع، كنت فخوراً بانجازي وكان الجميع فخورين بي، أخيراً نجحتُ في تسلق المئذنة الى أعلاها.
للأسف لم يطل الأمر كي أعود أدراجي الى "درجات المادنة"، كان عليّ أن أكرر محاولات التسلق من جديد، نجحتُ في بعضها وفشلتُ في بعضها الآخر، لم اكن يوماً بارعاً في التسلق!