كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

عودة إلى الذكريات.. المقدّمات التي سبقت ٨ آذار ١٩٦٣

سمير جبارة:

لم يستمر فرح والدي بانقلاب الانفصال طويلاً.. بعد حوالي شهرين صار يتحدث عن ضباط الانفصال (الذين كان يعرف بعضاً منهم شخصياً) باحتقار..
كان يقول لأصدقائه الذين يزورونه: "كان بيناتهم واحد شريف و نظيف هو أبو راكان.. غدروا به و اعتقلوه و دكّوه بالمزّة"... و كان يقصد المقدّم حيدر الكزبري..
جرت انتخابات نيابية سبقتها مهرجانات وتم انتخاب رئيس للجمهورية هو المرحوم ناظم القدسي..
لم يمضِ على انتخاب القدسي ثلاثة أشهر حتى فوجئ الوالد بإذاعة دمشق تعلن عن انقلاب جديد..
الغريب أن البلاغات لم تبدأ بالبلاغ رقم واحد بل بالبلاغ رقم 26...
عرف الوالد في صباح ذاك اليوم نفسه أنّ الذي قام بالانقلاب هو المقدم عبد الكريم النحلاوي الذي كان قائد الجيش الفعلي ويصدر تعليماته لقائد الجيش اللواء عبد الكريم زهر الدين فينفذها..
والمقدم النحلاوي نفسه هو الذي كان قد قاد انقلاب الانفصال قبل ذلك بستّة أشهر تماماً..
اعتقل النحلاوي رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والنواب (الذي قام هو ذاته باختيارهم و تزوير الانتخابات لصالحهم كما كان والدي يقول) وزجّ بهم جميعاً في سجن المزة..
سمعنا من إذاعة لندن مساء أن تمرداً عسكرياً قام به ضباط ناصريون وبعثيون في حلب ضد انقلاب دمشق الصباحي..
فوضى الأنباء المتضاربة جعلت والدي ينام متأخراً دون أن يفهم الكثير مما يحدث..
كان ذلك يوم 28 آذار 1962
لم يمضِ أسبوعان على انقلاب النحلاوي الجديد حتى أعلنت الاذاعة أنّ الرئيس ناظم القدسي قد خرج من السجن و عاد إلى منصبه رئيساً للجمهورية..
أصدر الرئيس القدسي فور عودته للمنصب مرسومين: الأول تعيين رئيس حكومة هو الدكتور بشير العظمة و تكليفه بتشكيل حكومة جديدة..
و الثاني حلّ مجلس النوّاب..
كما أعلنت الاذاعة عن مؤتمر عسكري حضره قادة المناطق العسكرية وقادة الألوية و بعض ضباط الأركان العامة قد حصل.. و قد نتج عنه انتخاب اللواء عبد الكريم زهر الدين قائداً عاماً للجيش..
المضحك في الأمر أنّ انتخاب الضباط لقائد الجيش هي سابقة لم تحدث من قبل ولا من بعد في كل دول العالم..
كما قالت الاذاعة أنّ الضباط المتمردين في حلب قد تم اعتقالهم وأودعوا سجن المزة في انتظار محاكمتهم (وقد كان بينهم ضباط على رأس عملهم مثل العميد لؤي الأتاسي والرائد حمد عبيد أو ضباط مسرحين بينهم الرائد حافظ الأسد والنقيب مصطفى طلاس)..
وكان ضمن مقررات المؤتمر أيضاً إبعاد المقدم عبد الكريم النحلاوي خارج سوريا وتعيينه ملحقاً عسكرياً.. وقد فهم الناس فيما بعد أنّ مساعٍ قام بها المرحوم خالد العظم هي التي أدت إلى هذه التسوية..
كنتُ أستمع لوالدي و أصدقائه يقولون بأنّ هذا العهد الممتلئ بالفوضى لا يمكن أن يستمر.. وأنّ الناصريين والبعثيين لن يتأخروا عن القيام بانقلاب جديد سيعيد الوحدة مع مصر..
وسمعتُ من أحدهم يقول: يرجع عبد الناصر.. الدكتاتورية أحسن من الفوضى..
وأجابه والدي: كلّه "أخرى" من بعضه..
كان هذا في 14 و 15 نيسان 1962.