كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

بقية اللّه على الأرض

باسل علي الخطيب- فينكس

الشيخ علي الصاروخي.....
نعم، العنوان يبدو غريباً، و لكن هذه حكاية من نور و نار، و ليست من لحم و دم فحسب....
التقيته بعد غياب، كانت قد باعدت بيننا المسافات و ساحات القتال المختلفة، كنت مشتاقاّ لرؤية وجهه، بل كنت محتاجاً لرؤية وجهه، فقد كنت أشعر بضيق شديد، و كأنني أحمل صخرة على صدري، إجازتي كانت حتى صباح اليوم التالي... استقليت سيارتي و ذهبت إليه حيث هو، أخبره أحد العساكر أنني قد وصلت، خرج من خيمته، التقينا، يا رباه ذاك المحيا، ذاك المحيا وكأنه قد قد من هذا الجبل طيبة وحدة وصفاء... يا رباه تلك الابتسامة، كان يكفي أن تفتر شفتاه عن تلك الابتسامة حتى يسلب بها كل نياط قلبك....أهلاً بك يا أخي، هي ثلاث كلمات عادية و حسب، و لكن و كأن ذاك الحمل قد انزاح عن صدري...... تناولت مايشبه الكرسي لأجلس، مازال علي كما هو، مع تلك الانحناءة الجميلة في ظهره، كان لشدة حيائه لا يكاد ينظر إليك، عيناه دائماً ترنوان للأسفل....
قال لي: اعذرني، لا بد أنك تريد أن تشرب المتة، و لكن يا أخي لم يدخل جوفي منذ الصباح أي طعام، دعنا نأكل أولاً، و من ثم نمارس المتة....
ضحكت... تابع يقول: على كل الاحوال لا يستغرق الإبريق وقتاً حتى يسخن فالماء عندنا ساخنة أصلاً.... في حضرة علي لايمكن إلا أن تستسلم وتشعر بالسكينة، تشعر كم هي هذه الدنيا واسعة و رحبة وتافهة...
في الزاوية كانت هناك طاولة خشبية عليها بصل و بندورة على شكل شرائح.... ما رايك بالجظ مظ؟.... ابتسمت، وضع المقلاة على غاز صغير، ما أن سكب الزيت حتى صدح جهاز الاتصال: علي، أين أنت يا علي؟ نعم، سيدي..... نقيب علي. هناك رتل للإرهابيين مكون من 38 عربة مختلفة قد خرج لتوه من قرية السعن، سنرسل إليك بعد قليل المسار الذي سلكوه، تعامل معه.... حاضر سيدي..... وصلت المعلومات بعد أقل من دقيقة، تناول النقيب علي (التاب) و أمر جنود بتذخير الراجمة...... قلت له هذه 38 مركبة و تقوم بتذخير راجمة واحدة؟ لم يلتفت إلي، كانوا اربع جنود يقومون بالتذخير، اثنان من دير الزور و الثالث من حلب و الرابع من طرطوس، دقق النقيب علي مسار عربات الإرهابيين على التاب حسب المعلومات التي وصلته، توجه إلى الراجمة، قام بضبط اتجاهها، كان كمن يقرأ من كتاب......على بركة اللّه، بسم اللّه الرحمن الرحيم، و ما رميت إذ رميت.... نار.... و خلال أقل من دقيقة انطلق أربعون صاروخاً.... عندما انتهى الأمر، التفت لي و قال: الآن نستطيع أن نأكل و قد أدينا عملنا.... أعاد تشغيل الغاز، بعد دقيقة وضع البصل.... فجأة صدح جهاز الاتصال مرة أخرى.... الصوت صوت قائده: علي، علي... نعم سيدي... على ماذا فعلت يا علي؟ علي ماذا فعلت؟ علي، علي، من أنت يا علي؟ قل لي، من أنت...... و انقطع الاتصال..... تهاوى علي على بقية تلك ( الفرشة) التي ينام عليها، سادت دقائق من الصمت... قطعها صوت أحد الجنود يخبرنا أن هناك سيارة دفع رباعي تتجه نحونا، خرجنا من الخيمة، كان الغبار يغطي السيارة لشدة سرعتها، وصلت السيارة خلال دقيقة، ترجل منها العميد الذي اتصل به، ركض مهرولاً نحوه، و كاد أن يجثو يريد تقبيل ركبته،.... دعني أقبل ركبتيك، صاح العميد، دعني أقبلها.....جثى علي معه، معاذ اللّه يا سيدي... نظر إليه العميد، أيعقل هذا؟ 40 صاروخاً و 38 عربة مدمرة... من أنت، من أنت؟....من أنت يا رجل؟....
تفكرت قليلاً، استذكرت علماء الرياضيات الكبار غاوس و برنولي، حتى علم الاحتمالات ليس فيه هكذا احتمال.....
انهى علي إعداد الجظ مظ، تناولنا جميعاً الطعام مع سيادة العميد و مرافقه، كان اسم مرافقه علي كلثوم، علي كلثوم استشهد لاحقاً و لكن تلك قصة أخرى.. قد تكون تلك اللقمات أطيب ما أكلت في حياتي....لم يشرب معنا العميد المتة لانه لا يشربها بلا سكر، و النقيب علي لم يكن عنده سكر... لاحقاً عرفنا أن الروس قد أرسلوا طائرة مسيرة استطلاعية لتصوير موقع الضربة، لأنهم لم يصدقوا الخبر عندما وصلهم...
نمت ليلتها عند علي في الخيمة على فراشه، أما هو فقد افترش عازلاً على الأرض و نام عليه... كان نومي قلقاً نوعاً ما، استيقظت قرابة الفجر، لم أجد علي، كان خارج الخيمة يصلي... وضعت الإبريق على النار، بعد قليل دخل علي الخيمة، و كان نوراً ولج الخيمة، كانت عيناه وكأن فيهما أثار دموع... لماذا لم توقظني لنصلي سوية؟... لم ينظر إلى كعادته، أشفقت عليك يا أخي، لأنك لن تستطيع احتمال صلاتي...
أنه النقيب علي قاسم، من قرية بيت الوادي من الدريكيش، هو نقيب مهندس اختصاصه هندسة طيران، وكان يدرس لينال الدكتوراه عندما بدأت الحرب.... أحياناً تختار لنا الأيام درباً لم يكن يخطر على بالنا أبداـ....
و كل هذه القصة تتلخص في ذاك المنام، كان و كأن ذاك النور يستعجله أن يعود إليه،...
كم من مرة سمعنا عنهم إياهم من أنهم كأنهم كانوا يشعرون أنهم ذاهبون إلى حتفهم فتراهم يودعون من يحبون...علي عرف الحب مع الفتاة الاولى، كانت تلك الصبية كأنها بضعة منه، كانت برداً يخفف بعض لهيب تلك الأيام....
فجأة فسخ علي الخطية، لم أصدق عندما سمعت، ظننت أنها هي من فسختها، سألته ماذا خصل، أجاب: هي فتاة جميلة وصغيرة والحياة تنتظرها، فلماذا اجبرها أن تنتظرني؟.. وانا لا اعرف متى اعود، وقد لا اعود اليها الا ملفوفاً بالعلم...ال يكفيني وزراً أن ابي وأمي ينتظراني حتى أضيف على كاهلي ذنب شخص آخر؟....
كان علي يحقق معدل إصابات في الرمايات كبير جداً، حتى أن رفاقه أطلقوا عليه لقب الشيخ علي الصاروخي، كان كأن هناك من يصوب رماياته..... ذات مرة طلب منه العميد أن يضرب قبواً، وصلت إليهم اخبار أنه سيعقد فيه اجتماع لقادة في جبهة النصرة الارهابية، القبو يظهر من بنيانه فوق سطح الأرض قرابة المتر فقط، وفيه بعض النوافذ....كنت مع علي يومها، كان موقعه يبعد قرابة 18 km عن موقع القبو، تقدم علي إلى ساتر أمام الراجمة، وقف عليه، وضع يده أعلى عينه يغطيها من أشعة الشمس وكأنه يناظر موقع القبو، نظرت إليه مشدوهاً، ماذا تتاظر؟... لم يرد...امسك ورقة وبدأ يخط عليها بضعة ارقام، تقدم الى الراجحة وبدأ يقوم بضبضها، تم تلقيمها بصاروخين فقط، على بركة الله، ومارميت إذ رميت، نار.....
في اليوم كانت جبهة النصرة تنعي 17من قادتها قتلوا كما قالت بقصف صاروخي عنيف من قوات (النظام)...ذاك القصف الصاروخي العنيف لم يكن إلا صاروخي علي....على فكرة كلا الصاروخين دخلوا من نوافذ القبو، علي كان يرمي من راجمة تعود لثمانينات القرن الماضي وليس من طائرة ميغ 31...
آخر مرة التقيته في حلب، كان قد مضى علي قرابة الشهرين لم آخذ إجازة، مررت بموقعه قبل سفري، قلت له لنذهب سوية فأنت قد مضى عليك وقت طويل لم تزر أهلك.... كان متعباً ومرهقاً..... أجابني: ألا ترى كم هي المعارك محتدمة هنا؟ ورفاقي يحتاجوني... كان علي مطلوباً على كل الحبهات، كانت رماياته لاتكاد تخطيء، ، كان عليه ضغط رهيب، وكان الضغط الأكبر من نفسه أنه لايتقاعس عن أداء أي واجب....قال لي لا أكاد أجد وقتاً لأنام أو آكل....تأملته كان قد نقص وزنه كثيراً، ولكن ذاك المحيا المشرق مازال اياه، وتلك الابتسامة الطيبة الطيبة إياها.....شد على يدي وانا اودعه، كان من المرات القليلة التي نظر فيها في عيني، لكم أنا مشتاق يا أخي لكي اذهب قريتي اشم رائحة يد امي واقبل قدمي ابي، سلم لي عليهم، وقل. ابنكم سيأتيكم قريباـ....صمت قليلاً ثم قال ، لي رجاء عندك يا أخي، ادعي لي عندما تبتهل للمولى أن يخلصني من ذنبي، لقد تعبت يا أخي لقد تعبت.....لا أعرف لماذا أنقبض قلبي بشدة آنذاك ، وتوقفت تلك الغصة في خلقي....
كانت تلك ليلة باردة عندما استشهد علي، احتدمت المعارك في خلب، اقترب علي براجماته إلى موقع كان تحت مرمى قناصات الارهابيين، إصابته رصاصة قناصة...ذهبت إلى مشفى مصياف حيث نقلوا جثمانه إلى هناك، كان يجب أن أودع وجهه، كان ذلك بعد اسبوعين من لقائنا الأخير، كم كان ذاك المحيا جميلاً وشفتاه تبتسمان، خداه غائرتان، ولحيته مغبرة شعثاء وجسده ازداد نحولاـ....بكيت، بكيت كما لم أبكي يوماـ... بكيت أنني شعرت أننا صرنا كلنا يتامى باستشهاد علي، كنت مطمئنا أنه في كل مرة سأشعر فيها بالضيق أو كأن الدنيا قد ضاقت، كان يكفي أن أرى محياه أو حتى أن اسمع صوته عبر التلفون يقول لي (هينة يا أخي....) والان لمن سألجأ، لمن سيلجأ الكثيرون الذين كانوا يرون في علي قاسم حضناً وسقفاً واماناً؟.....
قرب بيت أهله في القرية هناك ارض صغيرة، كان ينوي والد علي أن يبني له فيها منزلاً، هناك دفنوا علي ، وبنى له والده فوق الضريح غرفة، عندما دخلت بيت أهله في القرية اول مرة، لفت انتباهي على حائط غرفة الضيوف كم كبير من شهادات التفوق، كانت كلها لعلي، علي كان متفوقا في كل مراحل عمره الدراسية، كنت أقف أتأملها، وقف ابو علي بجانبي، قال: مازال علي يأتي أمه في المنام، أنا لم يأتني ولا مرة حتى الآن..... شعرت أن هناك دمعة حبستها عيناه، لم أنظر اليه، أترانا لم نكن نستاهله اكثر من هذا؟....
وكان أن عاد بعض بعض ذاك النور إلى ذاك النور كله....