كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

«عربيّ المنزل»

من موقعه كالعربي الوحيد ضمن هيئة تحرير أسبوعية «نيويوركر» الأميركية، يقدّم إسماعيل إبراهيم في نص مقلق شهادةً شخصية كاشفة

سعيد محمد

من موقعه كالعربي الوحيد ضمن هيئة تحرير أسبوعية «نيويوركر» الأميركية، يقدّم إسماعيل إبراهيم في نص مقلق شهادةً شخصية كاشفة، تفضح أزمة الإعلام الغربي في تغطيته للعدوان الإسرائيلي على غزة: كيف يتباهى الصحافيون والمحررون بوسطيتهم وانفتاحهم، لكنهم يعجزون عن تسمية الإبادة باسمها، ويصرّون على صياغة الأحداث بطريقة تحمي صورة الاستثناء الأميركي والسردية الصهيونية وتخنق ببرود صوت الفلسطيني. عنوان النصّ الذي نشره موقع Bidoun بالإنكليزية يستعيد في صياغة عنوانه دلالة مصطلح «زنجيّ المنزل» في الأدب الأميركي، ليصف وضع الكاتب العربي – من أصل مصري - في مؤسسة يفترض أنها أيقونة الليبرالية والانفتاح في الثقافة الغربيّة. لكنها تكشف مجدداً، وهذه المرّة في ما يتعلق بفلسطين، نفاق خطابها وعمق انحيازها البنيوي.
يروي إبراهيم تفاصيل عمله مدقّقاً للحقائق في المجلة، وكيف تحوّلت مهمته من مراجعة الأفلام والروايات إلى توثيق أعداد القتلى وطرائق موتهم في غزة، بينما يُحاصر بكل أشكال العزلة والرقابة والاتهام حين يحاول تمرير أبسط التصويبات: من «إرهابي» إلى «مقاتل»، ومن «حرب الاستقلال» إلى «النكبة» إلى آخره. بين السيرة الذاتية والنقد السياسي، يتحوّل النص، الذي ترجمناه إلى العربية، إلى مرآة تكشف التوتر بين اللغة والسلطة والهوية داخل صناعة الإعلام الغربي، وتطرح سؤالاً جوهرياً عن حدود الحرية والحياد وأخلاقيات المهنة في مواجهة مأساة تاريخية كبرى بحجم الإبادة التي ينفذها «الجيش» الإسرائيلي في غزة.

كنت أعمل في «نيويوركر» مدقّقاً للحقائق، ولم يعد والداي حينها يعتبرانني فاشلاً. ليس لأنهما كانا يقرآنها أو أنهما معجبان بها، بل لأن اسمها حين يذكرانه أمام الأصدقاء والأقارب كان يلمع على ألسنتهم. لم أصبح طبيباً أو مهندساً كما تمنيا، غير أنّ هذه المجلة أضفت عليهما مسحة من الفخر: أظهرتْهما منفتحَين بما يكفي لترك ابنهما يخوض مجالاً غير تقليدي، وصارمَين في الوقت نفسه بحيث دفعاه إلى بلوغ أرفع المراتب فيه. أما أنا، فكنت أحبّ بدوري أن أذكر أين أعمل، خصوصاً عند التعارف الأول، وإن كنت أحرص على ألا أبدأ بذكر ذلك إلا إذا سُئلت.

على مدى نحو عامين، سارت الأمور بسلاسة. صار لديّ تأمين صحي، وأتقاضى مالاً أكثر من أي وقت مضى. في المكتب، كنت أراجع معظم مواد الصفحات الخلفية، ما كان يستلزم في الغالب الذهاب إلى السينما أو قراءة روايات في وقت العمل.

أكتب رسائل بالبريد الإلكتروني أقترح فيها تصويبات طفيفة: فيلم ألمودوفار الأوّل صدر عام 1980 لا 1979 كما ورد في النص، وشخصية بينيلوبي كروز تمارس الجنس في الدقائق العشر الأولى، لا في الخمس الأولى من الفيلم كما في المراجعة، وأرفقت صوراً مع التوقيت.

بعدها كنت أقضي بقية بعد الظهر جالساً في مقعدٍ قرب النوافذ، أراقب ضوء الشمس وهو يعزف تآلفات متكسّرة على صفحة الماء في نوافير نصب 11 أيلول التذكاري.

«نيويوركر» مكتظة بأشخاص غريبين محبوبين قد يعرف أحدهم تفاصيل مفرطة عن الخط المسماري والآخر عن تربية المواشي، ويكاد أحدهم يصطدم بك في الممرات لأن وجهه مطمور في بروفات ورقية. كثير من زملائي تفوح منهم رائحة الثروة: أسماء مرموقة، خواتم بأختام عائلية، مدارس خاصة، نظارات من ماركة «برادا». عائلتي كانت ميسورة بدورها، لكني لا أظن أنني حصلت على الوظيفة بفضل أصولي الاجتماعية، بل لأنني كنت أتقن العربية والإنكليزية من دون لكنة ظاهرة.

التدقيق في الحقائق يكافئ تلك النزعات العصابية التي تجعلني غير محتمل لدى الأصدقاء أو العائلة. في المكتب، يمكنني أن أتحدث بلا حرج عن سبب تفضيلي السيمفونية العاشرة لماهلر على تاسعته، أو عن الأصول الفاشية للنقوش على أعمدة «غراند آرمِي بلازا». لكنني كنت أعلم أنّ بعض الأمور تبقى خارج حماية الغرابة المقبولة، فكنت أتظاهر بأن عدائي العام لأميركا ليس إلا سخريةً، نتيجة قراءة مفرطة للنظرية النقدية في الجامعة.

تمثّل سياسة المجلة ما يُعَدّ «يسار الوسط» في الولايات المتحدة. أخبرنا رئيس التحرير ذات مرة أنّ التوزيع الجغرافي لاشتراكاتنا يكاد يطابق خريطة فوز أوباما في انتخابات 2008.

أينما ذهبتُ في نيويورك، كنت أرى بيضاً من مختلف الأصناف يحملون حقيبة القماش التي تحمل اسم «نيويوركر» كأنها تعويذة، من دون أن أفهم تماماً ما الذي يظنّون أنهم يصدّونه بها. وكان يدهشني أن أجد نفسي بين أشخاص أذكياء بوضوح، لكنهم يعتقدون مثلاً أنّ انتخاب دونالد ترامب كان مفاجئاً، أو أنّ أي إعادة توزيع جادّة للثروة أمر مستحيل سياسياً، أو أنّ الفاعلين الرئيسيين في التاريخ هم الأفراد لا المنظومات.
 العقيدة السائدة بينهم أنّ قتل الشرطة، وانقلابات الـ «سي. آي. إيه» والتعذيب في السجون السرية، والتمييز الجنسي المؤسسي ليست سوى انحرافات عن «النموذج الأميركي» الذي سيصحّح نفسه يوماً ما حين ينحني قوس الكون الأخلاقي، مهما طال.

كنت أحمي نفسي من هذا اللون من البلاهة بتجنّب الأخبار بعناية. لكنني كنت أعلم أنّه في يوم ما، سيُقدم بعض المسلمين على قتل غربيين، وسأجد نفسي مضطراً إلى تمرير مقالات توحي ــ من دون أن تقول صراحة ــ أنّ العرب مولعون بسفك الدماء. كنت أكره الغرب أنا أيضاً: أكره كيف يصرّ الغربيون دوماً على تقاسم الفاتورة في المطعم، وكيف لا يتحمّلون مسؤولية ابتكار الفاشية والأسلحة النووية، أو التسبّب في مجاعة البنغال. لغتهم في الخصام لغة إدارات الموارد البشرية، وطعامهم باهت يبتلعونه بوجوه محتقنة رطبة.

لم يبلغ كرهي حدّ التمنّي بالقتل، لكنه وضعني في مأزق. لم أستطع العودة إلى الوطن، إذ لم يكن لي «وطن» أعود إليه: مصر حيث يقيم أهلي غارقة في تضخّم ودكتاتورية عسكرية، والإمارات حيث نشأت ليست سوى أرض عبودية مقنّعة. فوق ذلك، كنت أريد أن أصبح روائياً، والروائيون يعيشون في نيويورك.

وقع هجوم السابع من أكتوبر يوم سبت، بينما كنت في البيت أحاول كتابة مراجعة «محايدة» لرواية سيّئة. مع تتابع الأخبار ــ طائرات شراعية، بنادق كلاشنيكوف، مهرجان موسيقي ــ تركت المراجعة وقضيت يومي على الإنترنت. تابعت لحظة بلحظة كيف يتكوّن «الإجماع»: وبحلول صباح الأحد، صار الجميع مقتنعاً بأن أحداث اليوم السابق لا يمكن فهمها إلا كتوحّشٍ عبثي أو كمؤامرة إيرانية، لكن قطعاً ليس كتعبير مقروء عن غضب شعب تُرك ليموت.

شعرت أنّني أفقد عقلي. ذهبت مع صديق إلى مسيرة بعد الظهر، وسهرت أكتب بعض أفكاري، فنُشرت بعد يومين في مجلة أصغر، أكثر يسارية. دهشت من صرامة قناعاتي، وقلقت من أنني ربما أنهيت، بشيء من تضخيم الذات، ما كنت أسميه «مسيرتي المهنية».

حين عدت إلى العمل، أبقيت سماعاتي فوق قلنسوة سترة مرفوعة حتى لا يحاول أحد محادثتي. كنت غارقاً في تدقيق مادة صعبة عن الاحتيال في سوق «الكربون»، ومستعداً لاستخدام الانشغال ذريعة لتجنّب الأحاديث العابرة. لكن ذلك لم يكن ضرورياً: الناس أنفسهم بدوا حريصين على تجنّبي. كانت القنابل قد بدأت تنهال على فلسطين، والقتلى يتزايدون كل يوم. لم يكن يخطر في بالي سوى كل الطرق التي جرى فيها سحق العرب والمسلمين، في هذا القرن والقرن الذي سبقه، وكم أنّ أحداً لا يكترث.

في أرجاء الولايات المتحدة، أُلغيت فعاليات عامة لمجرّد أنها انتقدت إسرائيل. أشخاص طُردوا من وظائفهم لأنهم طالبوا بوقف إطلاق النار أو عبّروا عن التضامن مع فلسطين. توقعت أن أصبح أحد هؤلاء.

جاء رئيس التحرير إلى مكتبي. كان زملائي ومديريّ يصفونه دوماً بأنه «رجل طيب». يقولون «إنه يهتم بنا»، ويطلقون عليه لقب «الأب». الجميع يعلم أنّه قادر على صناعة مسيرة أيّ صحافي المهنية أو تدميرها، وكانوا يتوقون إلى رضاه. حين كان يسرّح موظفين، يحرص أن نعرف كم هو أمر صعب عليه. يشتم ويضحك، ويحفظ أسماء أطفال موظفيه، ويشرب معنا نبيذاً رخيصاً حين نحتفل بجائزة أو ترقية. كنت واثقاً أنه يظهر في أحلام موظفيه في كل فصل مرّة على الأقل. قال لي مرّة إنّه يندم كثيراً على تأييده حرب العراق، وإنها أكبر خطأ ارتكبه. «لقد جرفني المزاج العام، يجب أن تتفهم»، قال، كأنني أتفهم مسبقاً.

ارتبكت حين جلس بجانبي، متوقعاً أنني على وشك الطرد من وظيفتي، رغم أنّه كان غريباً أن يفعل ذلك أمام الزملاء بدل استدعائي إلى مكتبه.
قال: «إش». كنت قد اتخذت هذا اللقب منذ صغري، حين تبيّن أن الألسن الأنغلوفونية لا تستطيع نطق حرف العين.
نبرته كانت جنائزية.
- كيف حالك؟.
أجبت: «تعرف… لست بخير».

قال: «الأمر محزن جداً. هذه النشوة التي يشعر بها هؤلاء بالقتل». طأطأ رأسه وهزّه. وسألني: «عائلتك، هل هي بخير؟».
فهمت حينها أنه لا يوشك على تأنيبي، بل يبحث عن أرضية مشتركة معي، كوني العربي الوحيد في هيئة التحرير. لم يخلُ الأمر من لمسة إنسانية، رغم أنني شبه واثق أنه كان يعلم أن عائلتي مصرية.

قلت: «هم في القاهرة، بعيدون عن القصف. لكن لنرَ كيف ستتطور الأمور في الأشهر المقبلة».
قال: «محزن جداً. لا أفهم. لماذا تفعل «حماس» هذا؟».
لم أفهم بدوري كيف يطرح هذا السؤال. كان بديهياً عندي أنّ «سجن الهواء الطلق» ليس مجرّد استعارة.
قلت: «لا أدري… ربما ليموتوا واقفين؟».
نظر إليّ مذعوراً.
«انظر، أنا لا أبرر»، تلعثمت، «لست أقول إنه أمر جيّد، فقط…».

قاطعني: «صعب جداً أن أسمع هذا الآن». نهض ومضى. وفي وقت لاحق من الأسبوع، سافر إلى إسرائيل ليكتب تقريراً عن الجنازات والحِداد في الكيبوتسات، ومع ذلك لم يطردني.
توقّفت عن تدقيق مراجعات الأفلام، وصرت أقضي الأشهر التالية في توثيق عدد الذين قُتلوا في فلسطين وطرائق موتهم. أتّصل بالناس هاتفياً لأستوضح كيف قُتل أقاربهم بالضبط. أوكلت المهمة إليّ وحدي لأنني كنت المدقّق الوحيد الذي يتقن العربية. في البداية، بدا الأمر بالغ الأهمية: أن تعكس لغتنا هول ما يجري. لكنني سرعان ما هُزمت وأنا أحاول تمرير أبسط التغييرات:
من «إرهابي» إلى «مقاتل».

إضافة كلمة «المحتلّة» بعد «الضفة الغربية».
من «حرب الاستقلال الإسرائيلية» إلى «النكبة الفلسطينية».
وضعت دليلاً أسلوبياً ووزعته على المدققين والمحررين، لكنني لا أعلم إن كان أحد قد استخدمه. بدأت أشعر بأن دائرة استهداف تُرسم على ظهري، فتوقفت عن المقاومة. الإرهاق كان ينهشني، والنوم يفلت منّي. أسهر أتقلب على تويتر وأشاهد «الجزيرة». موجات الصور عن الدمار والموت تغمرني حتى أبقى مشدود الأعصاب، أشبه بالمخبول. وحين يسألني أحدهم عن حالي، أضحك وأجيب: «فظيع» كأنها نكتة. بعض الزملاء (الطيبين) أسرّوا لي أن القدامى في المجلة صاروا يصفونني بـ «المتعاطف مع الإرهاب».

وبعد نحو أربعة أشهر على بدء الحرب على غزّة، كان باحثو دراسات الإبادة قد بلغوا شبه إجماع: ما يجري في فلسطين إبادة جماعية، «جريمة الجرائم». كنت أنتظر أن تقول «نيويوركر» ذلك أيضاً. حاولت أن أحدّث رئيس التحرير عن ضرورة استخدام الكلمة في تغطيتنا، لكنه أجاب أنّه لا يعتقد أنها «إبادة جماعية». غياب الكلمة كان لافتاً، حتى خُيّل إليّ أنه منع استخدامها صراحة. كان ذلك استثناءً واضحاً عن منهجية المعرفة المتّبعة: بعد أشهر من عملي، سمعت زميلاً يتصل بباحث في الإدمان، ليؤكد أن القمار إدمان فعلاً. أما أنا فلم يبقَ فيّ ما يكفي من طاقة للاستمرار في المعارك. أقنعت نفسي بأنّ آلة الحرب لن تتوقف بتعديل لفظي أقترحه في مجلة لا يقرأها الأميركيون إلا على عجل وهم في الحمام.

بدأت أشارك في اجتماعات سياسية داعمة لفلسطين. الناس الذين التقيتهم هناك لم يخلطوا بين «الواقع» و«الضرورة». كانوا يؤمنون أن العالم يمكن أن يُعاد صنعه.
في شقق ضيّقة مضاءة بمصابيح صفراء حيث يُسمح بالتدخين، أو في استوديوهات بيضاء عالية السقف في تشيلسي، كنت أتأمل الوجوه المحيطة بي، فيتوقف الزمن. كل إيماءة يد، كل كلمة كانت بالنسبة إليّ تمثالاً أبدياً. كان الأمر ــ وأقوله بصدق ــ متعالياً، كأن هذه اللحظات ستهرب من سطوة الزمن حين يعود إلى الدوران.

كلّفت في وقت لاحق بتدقيق مادة عن سلسلة من جرائم القتل وسرقة الأراضي في الضفة الغربية منذ السابع من أكتوبر، نُفذت جميعها بلا عقاب.

ركّز التقرير على مستوطنة واحدة حيث خرج رجل ليقطف الزيتون من أرضه في أحد أيام السبت، فأطلق عليه جندي إسرائيلي خارج الخدمة النار وأرداه قتيلاً. أُعدم الرجل أمام الكاميرا. النص ضمّ مستوطنين، وحاخامات ضد الاحتلال، وفلسطينيين عاشوا أعمارهم يخشون أن تُسلب بيوتهم، وأنه إن قُتلوا أو شُرّدوا، فلن ينصفهم أحد. التقيت محرر القصة في الممر، فقال إنه يجد صعوبة في موازنة السرد، لأن كل الشخصيات الإسرائيلية بدت شريرة، بينما جميع الفلسطينيين ملائكة، فقُصّت مقاطع طويلة كانت توثق - من دون أي تعليق - بأن سلب الفلسطينيين مستمر منذ زمن بعيد قبل السابع من أكتوبر، ولم يبقَ منها سوى فقرة واحدة بعد جولات سجال بين رئيس التحرير والمحرر من جهة، وبيني وبين الكاتبة المستقلة من جهة أخرى.

رغم أن عملية القتل وُثّقت بالفيديو، فإن عمل المدقّق يفرض أن يطلب تعليقاً من أي طرف متَّهم بارتكاب جريمة. اتصلت بمحامي الجندي. أجابني من مقهى، والموسيقى الإلكترونية الصاخبة تتسرّب من خلفه. قال لي إن موكله أطلق النار فعلاً على الرجل الذي كان يقطف الزيتون، وإن الرجل مات، لكن المحكمة العسكرية الإسرائيلية برّأته من تهمة القتل لأنّ «قاطع الزيتون كان إرهابياً يرشق الحجارة». الفيديو لم يُظهر شيئاً من ذلك، ومع ذلك أكّدت المحكمة أنّه كان يرشق حجارة، وبالتالي لم يُقتل، ولم يُرتكب أي جرم. النتيجة: لا يجوز لنا أن نقول غير ذلك وإلا وقعنا في «التشهير».

حين أنهيت المكالمة، سألت زميلة إن كانت تمانع في أن تتولى هي بقية الاتصالات مع المستوطنين، فوافقت بارتياح. قضيت الأسبوعين التاليين أهاتف فلسطينيين من القرية نفسها حيث جرت الإعدامات. كانوا يتحدثون لهجة ريفية فلسطينية استصعبت فهمها أحياناً، فكنا نتحدث ببطء، لساعات طويلة، ونتبادل الرسائل الصوتية على واتساب. وجدتهم متدينين، تائهين بطريقة مألوفة عندي، وإن كانوا يعيشون على حافة من القسوة لا أحتملها. اثنان منهم سبق أن اعتُقلا وتعرّضا للتعذيب والاغتصاب الشرجي، وشعرت بالخجل وأنا أطلب منهما أن يسردا تفاصيل إذلالهما. كثيرون منهم سألوني: «ماذا فعلنا لنستحق هذا؟». وأكدوا أنهم يُدعون كل يوم أن يعيش الجميع بسلام تحت بركة الله، حتى المستوطنون الذين قتلوا جيرانهم. كنت أختبئ بين المكالمات في مكتبة المراجع أو في الحمام لأبكي.

وحين أنهيت تدقيق المادة، دخلت مكتب المحرر المناط به النص، وجلست في مقعد مقابل ظهره وهو يُدخل التعديلات على الكمبيوتر. خرجت من عنده مثقلاً بذكرى الأسابيع الماضية، أستعيد مراراً عمليات الاستجواب التي أجبرت مصادري على إعادة تمثيل صدماتهم من دون أي جدوى. وفجأة، شعرت بيد على كتفي، ثم بدفعة قوية. تعثرت وارتطمت بالرصيف.

قالت زميلة لي: «لقد كدتَ تُدهس بتلك الحافلة!»

التفتُ ورائي، فرأيت حافلة ضخمة تندفع عبر تقاطع «تشرش ستريت» حيث كنت واقفاً قبل لحظات. ما زلت مذهولاً، شكرتها لأنها أنقذتني، ثم اتجهت إلى محطة قطار رقم إف في «إيست برودواي» بدلاً من المحطة الأقرب، آملاً أن يصفّي المشي الطويل ذهني.

خطر في بالي فجأة، كما يخطر للشخص هاجس القفز كلما وقف على شرفة: يمكنني أن أستقيل. في أي وقت، أستطيع أن أرحل ببساطة. كنت أعلم أنّه إن واصلت هذا الطريق ــ أتابع بالتفصيل، سطراً بعد سطر، إبادة شعبٍ كامل من دون أن أفعل شيئاً لوقفها، فسوف تفقد الحقائق معناها عندي. كنت واثقاً أنّه سيأتي يوم، بعد سنوات أو عقود، حين تظلّ نصف غزّة ركاماً والنصف الآخر أبراجاً إسرائيلية، ستنشر المجلة اعتذاراً متأخراً. ربما سيعتبر أحدهم الأمر أكبر خطأ ارتكبه في حياته المهنية.

سرت جيئةً وذهاباً على رصيف المحطة، وأنا أتساءل كيف سأعيش من دون راتب إن تركت العمل. ومع ذلك، غمرتني نشوة: لن أعود أبداً إلى ذلك المكتب. لن أضطر بعد الآن إلى لفّ قناعاتي بطبقات من التحفّظ، ولا إلى الإصغاء في صمت لعبارات مقزّزة تُقال بنبرة ودودة. شعرت بحرية مطلقة.

* النص الأصلي: https://bidoun.org/articles/house-arab

الأخبار