كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الطمس بالتعميم عن الإبادة العلوية، والخذلان السوري العام

في عالم المنطق واللغة، يعد "الطمس بالتعميم" إحدى الحيَل الخطابية الأكثر استخداماً في التضليل والتعتيم على الحقائق. ويُقصد بها اختزال حدث أو ظاهرة شديدة الخصوصية في إطار عام، بهدف تجريدها من خصوصيتها وطمس دلالاتها وسحب بعدها الإنساني والتاريخي.
وتتجلى هذه الحيلة بصورة ساطعة في حالة الإبادة الجماعية المرتكبة بحق الطائفة العلوية، والمستمرة منذ كانون الأول 2024 وحتى هذه اللحظة، والتي راح ضحيتها الآلاف من الأرواح البريئة بطرق وحشية تثبتها الفيديوهات والصور والشهادات الميدانية، فرغم مرور أشهر طوال على هذه الكارثة الإنسانية والاجتماعية الكبرى، ما زال الضباب كثيفاً - لا بسبب غياب الحقائق- بل بسبب طمسها المتعمد باستخدام هذه الخدعة الكلامية.
كيف يحدث هذا إذاً؟
تسارع أصوات عديدة إلى تعميم هذه الإبادة، لا لتحوّلها إلى قضية جامعة، بل لتُفرغها من معناها، كأن تُقال الجملة القاتلة: "كلنا تأذينا"، فيُصبح القاتل والمقتول، والجلاد والضحية، أبناء المأساة نفسها… لا فرق. ولا يُقال من الذي حُمّل صليب الانتماء، ومُزّق جسده على مرأى من العالم لأنه فقط وُلِد في مكانٍ ما، لأسرةٍ ما، وتحت سقف طائفةٍ ما.
أو أن يُقال إن "كل السوريين تعرضوا للإبادة"، أو إن "ما جرى هو امتداد لما فعله النظام"، أو تُسحب المفردة نفسها -الإبادة- من التداول خوفاً من اتهامٍ بـ"الانحياز" أو "التفريق".
ثم يُقال: "لكن العلويين استفادوا سابقاً!"
ومن قال إن الطفل العلوي الذي قُتل، كانت له حصة من الامتياز؟
ومن أعطى أحداً الحق أن يحاكم الناس بأسماء طوائفهم، لا بأفعالهم؟
هل هذا فكرٌ سياسي، أم تبرير جديد لعدالة السكين؟
بكلمات أخرى، ما يجري اليوم من محاولات لتذويب الإبادة الجماعية التي تعرض لها أبناء وبنات الساحل السوري وأرياف حمص وحماه في سياق أوسع يضم كل المآسي السورية، ليس إنصافاً بل هو تشويه وعدمية.
القضية الآن ليست مقارنة مآسي، ولا سباق أرقام، ولا منافسة على الضحايا. القضية الآن أن أبناء وبنات لطائفةٍ بعينها قُتلوا لأنهم منها، وبدلاً من التضامن معهم، نُصبت لهم محاكم الماضي.
وهنا الجرح الأعمق:
لا أحد يفرّق بين النظام المخلوع السابق وبين الطائفة، لا في الحرب ولا في السلام.
وفي هذا الخلط، يُذبح العلوي مرتين: مرة لأنه متَّهَمٌ بأنه من النظام، ومرة لأنه مرفوض حتى حين يُقتل خارج النظام.
القوى التي تسعى لتثبيت سلطتها الآن، تتهرب من الاعتراف بالجريمة الواقعة بحق العلويين، لا لأنها تنكر المأساة، بل لأنها لا تريد أن تعترف بأن الطائفة العلوية ليست النظام، وأن أبناءها ليسوا امتداداً للطاغية المدعو بشار الأسد، بل بشر مثل غيرهم يستحقون العدالة والكرامة والاعتراف بآلامهم، وهم أفراد متمايزون لكل منهم حياته وتجربته وآراؤه وأحلامه.
وهنا تكمن الخطورة:
أن يتم التعامل مع طائفةٍ بأكملها وكأنها "ملحقة" بمرحلة سياسية، بدلاً من رؤيتها كمجتمع له تاريخه وثقافته وحقوقه، بشكل يجعل من العدل مسألة انتقائية، ومن المصالحة ساحة مشروطة بالإذلال.
لا يمكن لأي مشروع وطني سوري جاد -إذا افترضنا جدلاً وجود هكذا مشروع- أن يُكتب له النجاح ما لم يُقر أولاً بالفصل التام بين النظام السياسي السابق وبين الطائفة العلوية، تماماً كما يجب الفصل بين التطرف الديني الحالي وبين الطائفة السنية، وبين الجرائم المرتكبة وبين المكونات الدينية أو القومية التي ينتمي لها الجناة. وإلا فإن هذا الشرخ الاجتماعي المهول بين مكونات "الشعب السوري" سيزيد اتساعاً وعمقاً.
كنا نرجو أن نحظى بوطن يتّسع للكل، لا وطناً يبتلعنا جميعاً ويقول لنا إن لا فرق بين من يحمل السكين وبين من يُذبح بها.
كرّسوا الفرق من فضلكم،
سمّوا الإبادة إبادة،
واستعملوا الذاكرة للعدالة لا للمحو،
لأن النسيان جريمة أخرى،

والتعميم سكينٌ يُعاد به ذبح الضحية ببرودة مضاعفة.

أنصار حركة الشغل المدني في سوريا