الفيدرالية.. “حلم 2013” لفتاة كانت تتهم بالخيانة لأنها فكّرت
2025.12.17
ريتا خير بك
فكرت بالفيدرالية وأنا في الثانية والعشرين. لا لأنني كنتُ خبيرة سياسة، ولا لأنني كنتُ أقرأ الدساتير وأفهم خرائط القوى. كنت فقط أملك شيئاً واحدا في تلك السنوات: أن أسمح لعقلي أن يعمل.
في ذلك الوقت كان التفكير تهمة جاهزة: “طائفية”، “خيانة”، “تفتيت”، “تآمر على الوطن”. الوطن كان كلمة تُستعمل كسكين؛ من يعترض على مسار الدم يتهم بأنه يكره الوطن. ومن يصرخ “توقّفوا” يُطلب منه أن يصمت كي لا “يحرج” أحداً. كانت البلاد تُدار بمنطق واحد: لا تسأل، لا تُفكّر، لا تقترح، فقط صفق أو ادفع الثمن.
حين كتبت عن الفيدرالية لم تكن “نظرية” عندي؛ كانت صرخة ضد الدم. كنتُ أرى كيف يساق العلويون إلى الحرب كأنهم مادة خام، وكيف يُقتلون في كل الجبهات ثم يُشتمون بعد موتهم أيضاً كفطائس. كنتُ أرى مجتمعاً يُستنزف ديموغرافياً وأخلاقياً ونفسياً، ثم يُطلب منه أن يبتسم باسم “الدولة” و”الوطن” ومرة بكل خسة باسم القائد.
وكأن المطلوب أن نموت مرتين: مرة بالرصاص، ومرة بالمعنى.
واليوم، بعد سقوط النظام، لا أرى “مرحلة انتقالية مربكة” كما يحبّ البعض أن يكتبوا كي يناموا مرتاحين. أرى حمّامات دم جاءت مع السقوط، وأرى إبادة تتقدّم وتتعلم وتُحسن التبرير. أرى مجزرة العلويين، ومجازر الدروز، وإبادات يومية تتغذّى من الإفلات من العقاب ومن لذة الإذلال. من يريد لغة حيادية هنا إما لا يرى، أو يرى ويختار أن يغسل يديه بالكلمات.
لا حاجة أبدا للحياد حين يصبح القتل هو السياسة اليومية. الحياد ليس “عقلانية” عندما تكون الجثث في البيوت. وتخطف النساء ويتم بيع اجسادهم في أسواق ادلب
الحياد يصبح شراكة صامتة: ورقة توت لمن يجرّب أن يجعل الجريمة قابلة للتطبيع، وأن يحوّل الرعب إلى “أحداث مؤسفة”.
لهذا أصر اليوم على الفيدرالية أكثر مما أصررتُ عليها وأنا شابة. لأن ما حدث أثبت شيئاً واحداً: أن الدولة المركزية في سوريا ليست جهازا لحماية الناس، بل جهاز لتسليمهم مرّة لآلة المؤسسات الفاسدة، ومرة لميليشيات القاعدة، ومرّة لمن يأتي بعدها. المركز في سوريا ليس ضمانة؛ هو سلاح. ومن يملك السلاح يقرر من هو المواطن ومن هو الهدف.
الفيدرالية بالنسبة لي ليست شعاراً ولا خريطة طائفية. هي محاولة لوضع أقفال على باب الإبادة. محاولة لإعادة توزيع القوة بحيث لا يستطيع أي مركز أن يفتح مجزرة كاملة بقرار واحد، أو يغلق التحقيق بقرار واحد، أو يطلق ماكينة الإذلال بقرار واحد. هي محاولة لبناء حماية دستورية قبل أن نبني “أغاني وطنية”. لأن الوطن الذي لا يحمي ناسه ليس وطناً؛ هو فخّ كبير.
وما يثير غضبي حقاً ليس اختلاف الناس على الفيدرالية، بل منعهم من التفكير بها. الذين يقولون لنا “لا تفكروا” لا يدافعون عن سوريا؛ يدافعون عن حقهم في إدارتنا. يريدوننا مجرد “خصوصية ثقافية”: دبكة، مقام، جبال، طقوس… شيء يصلح للصور، لا يصلح للحقوق. يريدوننا طائفة “مفيدة” حين يحتاجون جنوداً، و”مُدانة” حين يحتاجون كبش فداء.
لكننا لسنا فولكلوراً. نحن شعب. ناس لهم ذاكرة وخسارات ومصالح وأرض وعائلات وأحياء وقرى ومقابر. لنا الحق في السياسة لأن لنا الحق في الحياة. وأعمق من ذلك: لنا الحق في أن نطالب بحقوقنا دون أن نُجلد بتهمة “الخيانة”. من يسلب جماعة هذا الحق يجرّدها من إنسانيتها قبل أن يجرّدها من أمنها.
الفيدرالية كانت فكرة فتاة في الثانية والعشرين لأن الواقع كان يصرخ بها، لا لأن الفتاة كانت عبقرية. واليوم صارت ضرورة لأن الواقع صار أكثر وضوحاً: الإبادة ليست حادثة وتنتهي. الإبادة عملية. تبدأ بخطاب يجرّدك من الشرعية، ثم تتحول إلى قتلٍ رخيص، ثم إلى إذلالٍ يومي، ثم إلى تعوّدٍ عام: “عادي… يحدث”. وحين يصل المجتمع إلى “عادي”، تكون الجريمة قد ربحت نصف المعركة.
لهذا أكتب الآن بلا حياد وبلا تجميل: نحن عراة أمام ماكينة القتل. لا أحد يحمينا بالقدر الذي يكتبون عنه في الخطب. ولا أحد سيحميك إن لم تبنِ أنت أدواتك: وعيك السياسي، لغتك القانونية، تنظيمك، مشروعك، وضماناتك.
الفيدرالية ليست حلا سحرياً. لكنها إعلان إرادة: أننا لن نعود مادة خام. أننا لن نقبل أن تُختصر حياتنا في “رمزية” أو “خصوصية”. أننا سنفكر حتى لو كانت التهمة جاهزة لأن الشعوب التي تُمنع من التفكير تُدفن وهي حيّة.