من التاريخ السوري في حماة.. الانتقام والحشيش
2025.11.04
علي سليمان يونس
في 3 أيار 1933 م أعاد حقي العظم تشكيل وزارته إثر استقالة جميل مردم ومظھر رسلان ممثلي الكتلة الوطنية فيھا. وفي 14 تشرين الأول 1933 م عين المسيو دومارتيل مفوضا ساميا في سوريا ولبنان خلفا للمسيو بونسو، فعقد مع الحكومة السورية معاھدة صداقة وتحالف أذيعت في 19 تشرين الثاني 1933، فقادت الأقلية البرلمانية للكتلة الوطنية معارضة ھذه المعاھدة، وقامت مظاھرات وطنية صاخبة في جميع أنحاء البلاد، والتفت المظاھرات النسائية حول البرلمان تصرخ "الويل للخونة". فاضطرت الأكثرية البرلمانية التي عمل الفرنسيون على نجاحھا من الانتخابات لرفض المعاھدة، واستقال سليم جنبرت من عضوية الوزارة قبل يوم واحد من توقيعھا على الاتفاقية، رغم انه معروف بصداقته القديمة لفرنسا، ثم استقالت حكومة حقي العظم.
ألف المفوض السامي دومارتيل وزارة جديدة برئاسة الشيخ تاج الدين الحسني، بتاريخ 17 آذار 1934 م، وعين حسني البرازي وزيرا للمعارف، فاندفع البرازي للانتقام من سقوطه في انتخابات عام 1932 م وقام بنقل وتسريح واضطھاد الموظفين الحمويين، ولا سيما في جھاز المعارف، وعم البلاد جو من البطش والخوف والإرھاب أعقب تلك المظاھرات الوطنية العارمة التي انتھت برفض المعاھدة وإسقاطھا، وقد نال في ھذه المظاھرات الدكتور
نجيب عبد الرزاق من مؤسسي (حزب الشباب والحزب العربي الاشتراكي) فيما بعد وساما من رصاصة فرنسية أصابته في فكه ونفذت من رقبته.
نزل حسني البرازي الى حماة ليثبت زعامته إبان ذلك الجو الطاغي من الخوف والارھاب، فاضطر الموظفون أن يشكلوا وفودا منھم لزيارته والسلام عليه، وكان لذلك تأثير سيء على معنويات المدينة ... واقيم احتفال خاص ضد قدوم البرازي الى حماة لتكريم الدكتور توفيق الشيشكلي ألقيت فيه كلمة وطنية حماسية كما ألقى الدكتور توفيق خطابا حماسيا ألھب فيه مشاعر الناس وحماسهم ..
وقد كتب نجيب الريس ابن حماه مقالا طويلا تحدث فيه عن انتقام حسني البرازي من أبناء مدينة حماه، ذلك الانتقام الذي تحدثنا عن بدايته وأسبابه، والذي استمر وتطور الى حد جعل الصحافة الوطنية لا تطيق السكوت عنه، رغم تعرضھا لعقوبات الاغلاق والسجن والاضطھاد من حكومة الشيخ تاج المتعاونة مع الفرنسيين.
فقد استغرب الاستاذ نجيب الريس أن يبلغ الحقد والتشفي بحسني البرازي حدود الانتقام من مدينة بأسرھا رجالا ونساء وأطفالا، فكتب في جريدته "القبس":
"لقد بدأ حسني بك البرازي انتقامه من حماة ومن رجالھا المخلصين، فحل رغما عن القانون لجنة الأمناء في دار العلم والتربية، لينتقم من عدوه وعدو الاقطاعية القديم الشھيد الدكتور صالح قنباز" وبلغ به الحقد تشريد فريق من معلمي حماة ومعلماتھا الذين لم يقوَ على الانتقام من آبائھم وأخوتھم وأقاربھم بعد أن طرد بعض أطفالھم من المدارس وأحال على التقاعد مدير التجھيز عارف الرفاعي الرجل الذي أبى أن يكون مطية للانتقام، أحاله وھو في أنضج سني علمه وتربيته ولما يبلغ الخامسة والعشرين من خدمته " ... وأسھب الكاتب في تعداد أوجه انتقام حسني البرازي من حماة الوطنية الصامدة. (القبس: 15 تشرين الأول 1934).
على أنه سرعان ما أتيح لحماة أن تنتقم من حسني البرازي. فقد كان فلاحو قرية تقسيس - التي يملكھا حسني البرازي - ينقلون الى معارفھم في حماة أنباء المساحات الواسعة من الأراضي التي زرعھا حشيشا في تلك السنة، وتربص البعض الى أن تم نقل الحشيش من البساتين الى بيت حسني البرازي في القرية، فدسوا خبرا بذلك الى ضابط الدرك الفرنسي في حمص، فداھم مع رجاله قرية تقسيس، ودخلوا "قصر الأغوات وكبسوا الغرف فوجدوا غرفتين ملآنتين بحشيش لا يزال في ورقه لم يُدق ولم يُنخل، ووجدوا في القبو الكبير حشيشا مدقوقا وآخر معجونا بعد الدق، وعلم قائد الدرك من الفلاحين أن الحشيش للأغوات.
وقع المستشار الفرنسي - حاكم حماة الاداري - في حرج كبير ومع ذلك فقد حاولت السلطة ستر فضيحة وزير المعارف الذي قال فيه الشاعر الكبير شفيق جبري:
أيبيت الحشيش ھم وزير.. يرتع النشء في حمى آدابه؟
وحاولت سلطة الانتداب محاصرة أخبار الفضيحة، فضغطت على الصحف لعدم نشر الأسماء والتفاصيل، ولكن الفضيحة ھزت البلاد ھزا. فقد "كان الخبر قد سرى في مدينة حماة خلال ساعة واحدة، اذ وزعت 50 الف نشرة على 50 الف شخص قرأوھا وفھموھا في ساعة واحدة". وعقد الوطنيون في حماة الاجتماعات والندوات، وزارت وفود منھم "المتصرف" و " المستشار " للاحتجاج على ھذه الوصمة الشنيعة، بل إنھم فضحوا الوزيرعلى مستوى عالمي ببرقيات الاستنكار التي أرسلوھا الى الحكومة الفرنسية بباريس وإلى عصبة الأمم المتحدة في جنيف.
وما لبثت قصة "حشيش معالي الوزير" ان أصبحت الشغل الشاغل لتعليقات الصحف وغمزاتھا ...
وبذلك انتقمت مدينة حماة من حسني البرازي، وانتقم الوطنيون في سورية عموما من المتعاونين مع الانتداب، الذين كان الشيخ تاج الدين الحسني على رأسھم, وفيه قال ايضا الشاعر شفيق جبري يصف عمامته البيضاء:
لف بالدس والنفاق قفاھا.. ما أرى اللهَ مستحٍ مع عقابه.