سينصفنا التاريخ
2025.04.05
جهاد نعيسة
أواخر عام1981م ، ردَّاً على واستنكاراً لفعلٍ استفزازي مشين قامت به مِظَلِّيات سرايا الدفاع، بأمر من قائدها "رفعت الأسد"؛ وهو النزع القسري لأغطية الرأس النسائية في شوارعَ وأمكتةٍ عديدة من مدينة دمشق... رداً على هذا الفعل الاستفزازي البذيء شكلاً ومضموناً أصدر حزبنا (حزب البعث الديمقراطي الاشتراكي العربي) بياناً جماهيرياً يدين هذا الفعل ويُعَرّيه دوافعَ وأسلوباً وممارسةً، وهو ما دفع النظام إلى إطلاق حملة اعتقالات واسعة جداً ضد حزينا طاولت كلَّ مؤسساته في القطر، قضينا بموجبها سنوات سجنٍ طويل تراوحت بين تسعة أعوام وخمسةَ عشرَعاماً. في سجون "فرع التحقيق العسكري" و"تدمر" و"المزة "و"صيدنايا" و"القلعة" وسواها من سجون العهد الميمون. ولأضف: إن حزبنا، وكما هو حال كل الأحزاب الوطنية قد ضمَّ كل المكونات الطائفية والمذهبية للشعب العربي السوري.
في المهجع الرابع، في الطابق الثاني من سجن المزة العسكري الذي تراوح عدد مقيميه تبعاُ لمواسم السجن وخيرات نتاجه الوفير والدائم بين السبعين والمئة وعشرين سجيناً أمضبتُ قرابةَ خمسة أعوام من سجنٍ استمرَّ عشرة أعوام ونِّيّف، المهجع الذي كان يضم مثل كل المهاجع الأخرى مساجين موقوفين عرفياً غالباً، استمر بعضهم وعلى الرغم من إصدار الحكم ببراءته عشرة أعوام سجن خارج كل قوانين الكون وأنظمته وأعرافه...!!! وكما كل المهاجع الأخرى فقد شكَّل سجناءُ المهجع المذكور خليطاً بشرياً متعدد الجنسيات العربية ومتعدد الاتجاهات والانتماءات السياسية والطائفية والمذهبية والإثنية...
في المهحع المذكور وسط مجموعة من الرفاق تراوح عددها بين الأربعة عشر والستة عشر رفيقاً، عشنا عائلةً واحدة متكاتفة ومتحابة على نحوٍ انتزع احترام كل شركاء المهجع من الاتجاهات والانتماءات الأخرى، مهما تباعدت اتجاهاتُهم السياسية، أو اقتربت منا، فالعيش مجموعةً في نمط ممارستنا كان يعني الحياة المشتركة طعاماً وشراباً ولباساً ومواقفَ وقراراتٍ على الأصعدة كافة، وسأضطر- ويا لشديد الأسف- إلى تحديد انتماءات رفاق المجموعة الطائفية والمذهبية للمرة الأولى في حياتي، فسامحوني أيها الأحبة:
رفيق من الموحدين الدروز من "السويداء".. رفيق من الشيعة من"نبّل"، وثلاثة رفاق إسماعيليين من "السَلَمِيَّة" و"دمشق"، وثلاثة رفاق علويين من "اللاذقية" و"جبلة"، وأربعة رفاق مسيحيين من "درعا" و"اللاذقية"، وخمسة رفاق سنّيين من "درعا" و"إدلب" و"حلب" و"الزبداني" و"حمص"...
خلال وجودي في المهجع المذكور كنا نتعرض لإزعاجات وملاحقات كثيرة بسبب مواقفنا من تعامل إدارة السجن الغارقة في الفساد وسرقة مخصصات المساجين وأغراض زياراتهم. هل أذكر مثلاً حين أحضر لنا زوّار رفيقنا الراحل الحبيب "وديع إسمندر" صينية سمك مشوي في الفرن، فلم يصل إلينا منها سوى رؤوس السمك وهياكله العظمية..؟ أم زيارة شاب لبناني ثري أعلمه أهله أن ما أحضروه في زيارتهم من ملابس وأطعمة يكاد يحتاج إلى شاحنة... أما ما وصله منها...!!! وأما ما تبقى من أسماكنا وأغراض زميلنا اللبناني المنكوبة فيبدو أنه قد وجد طريقه بغير تردد إلى بطون وخزائن مدير السجن سيء الصيت " ومعاونَيه آنذاك...
إحدى عقوباتي تذرعت بالتحية التي كنت أتبادلها مع شقيقي الراحل الحبيب "عادل" خلال ساعة التنفس المخصصة لمهجعنا وللمهاجع عامةً. ومن أسفٍ أن المُخبِر الذي كان يتولّى إيصال إخبارياته إلى إدارة السجن كان سجيناً هو الآخر. لكنه -على مايبدو- قد باع ضميره منذ الأيام الأولى لاعتقاله متوهماً أنه الطريق المضمون لإخلاء سبيله، لكنه لم يفز بما كان يعتقد وأمضى مثل السجناء الآخرين سجناً طويلاً، بقي فيه فاقداً لاحترام معظم المساجين.
كانت العقوبة أشبهَ بنفيٍ إلى الطابق الأول للسجن، حيث غالبية المساجين من الموقوفين القضائيين، بعيداً عن الرفاق المتواجدين في مهجعي(الرابع) وبقية مهاجع الطابق الثاني. لقد بدا لي آنذاك أن العقوبة دائمة وأنه بات من المستحيل لقاؤهم ولقاء كل ذلك العالم الحميم الذي استطعنا توكيده عبر خمسة أعوام لم نتشارك فيها الخبز والملح والملبس والقرار فحسب، بل تشاركنا فيها حياةً كاملة حفلت بكل مفردات العيش العائلي الوطيد القائم على الحب والاحترام والتعاضد والتكاتف وتقاسم الأفراح والأحزان والهموم والأوجاع... ويا لَلعَيش.. ! يا للعيش المشترك الذي انتصرنا بقيمه االإنسانية والوطنية والرفاقية الأصيلة وسط مجموعتنا ووسط زملاء المهحع من الاتجاهات السياسية الأخرى على السجن والسجان وعلى كل أقانيم الشر، التي سعت إلى كسر وحدتنا وتفتيت قوانا وعزائمنا...!
وإذ اعتقدتُ آنذاك أن إبعادي عن المهجع كان نهائياً وانني قد فقدتُ إمكانية العيش وسط الرفاق والمهجع عامة، أو لقاءَهما طيلة المدة المجهولة المتبقية من سجني، ذلك العيش الذي كان يخفف إلى حد بعيد وطأة سنوات الجمر وقسوتها، إذ اعتقدتُ ذلك فقد أحسست حينها أن السجن الحقيقي هو ما كان عليَّ أن أعيشه بعد إبعادي وليس قبله... الآخرون هم بلسم جراحنا الدائم، وإلا فكيف كان لنا أن نحتمل جحيم السجن، أو سواه من شروط العيش المتجبرة...؟ وهل الوطن إلا ذلك الرابط العميق بين أبنائه..؟ وكيف يمكن لوطنٍ أن يكون حين يفقد أبناؤه لغة الحب التي تجمعهم ...؟
إذ امتد النفي الكيدي قرابة الشهر فقد كان يوم إعادتي إلى مهجعي الرابع في الطابق الثاني عيداً حقيقياً لا يمكن نسيانه ولا يمكن وصفه أبداً... نعم لقد عدتُ إليهم .. ولَو خُيِّرتُ يوم العودة، بين هذه العودة وإخلاء السبيل لما ترددتُ لحظةً واحدة باختيارالعودة.
أتذكر الآن الكثير من مفردات ذلك العيش المشترك الجميل وأحن إليه، على الرغم من مضي قرابة أربعين عاماً عليها، وخاصةً حين أتأمل في شرطنا الوطني الراهن والتمزقات المريعة التي يسعى البعض إلى إلحاقها بلحمة أبنائه.. و.. و..
ويا سوريةُ أين أنتِ...؟! وما الذي يحري تحت قبة سمائكِ التي كانت أبداً مرصعةً بكل ألوان النجوم ووحدتها... يا سوريةُ يا وطني إني لأشتاقكِ وأحنُّ إليمِ وأنا لا زلت فيكِ.
ويا سوريا... ياسوريتَنا.. يا سوريّانا...!!!