كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

ذكريات من جراح الوطن

معن حيدر

بعد انتهاء نشرة أخبار التلفزيون الرئيسية في الثامنة والنصف ليلا بحوالي ساعتين، وكان يوم الأحد 10 تموّز 2011، جاء إلى مكتبي ضابط في القصر، كما عرّف عن نفسه، بلباس مدنيّ.
كان طلبه غريبا نوعا ما، وهو أنْ أنسخ له مقطعا محددا من كلمة نائب رئيس الجمهورية فاروق الشرع في مؤتمر الحوار السوري الذي عُقد صباح ذلك اليوم في مجمّع صحارى، عدّة نسخ على سي دي CD.
وطلب أنْ يكون التسجيل عن النسخة الأصلية دون أي مونتاج..
وأكّد على ذلك مع إيحاء بأهميّة ذلك (عن النسخة الأصليّة دون مونتاج) وعلى مسؤوليتي الشخصية.
وأن أسجّل بعدها الخبر الذي أذيع في نشرة الأخبار عن المؤتمر.
وأنْ أقوم أنا بنفسي بذلك دون أن يدري أحد، وأيضا على مسؤوليتي الشخصية.
طبعا كان في لهجته، التي لا تُخفى على لبيب، تهديد مبطّن بلطف شديد، باستخدام كلمة حضرتك.
وللتوضيح فإنّه في النقولات التلفزيونيّة الخارجيّة، وخاصة السياسية منها، يتمّ تسجيل الفعاليّة في عربة النقل على نسختين، تُسمّيان ماستر، وعلى نسختين في مبنى التلفزيون تُسمّيان نسختا العمل، وهما النسختان اللتان تُستخدمان لأعمال المونتاج.
تُسَلّم نسختا الماستر حين الانتهاء إلى مكتبة الأشرطة، بإيصال رسمي، لتحتفظ بهما بعد ترقيمهما.
وصدف يومها أنّي طلبتُ أنْ تُسلّم الأشرطة لي شخصيّا، بعد إيداعها في المكتبة، واحتفظتُ بهما بمكتبي، نظرا لأهمية المؤتمر في تلك الأيام العصيبة، وتحسّبا منّي لأي طاريء.
أريتُ زائري الأشرطة والكتابة المسجّلة عليها من أمانة المكتبة، واصطحبته ومعي الأشرطة إلى غرفة النسخ، حيث قمتُ بفصل كابلاتها عن باقي غرف المونتاج، أغلقتُ الباب ونسختُ له عددا من النسخ للمقطع الذي طلبه تحديدا،
وهو عندما تحدّث فاروق الشرع عن المادة الثامنة من الدستور، ولا تتجاوز مدّته دقيقة على ما أذكر.
وسجّلتُ بعدها الخبر الذي أذيع في نشرة الأخبار عن المؤتمر، حيث كانتْ العادة أنْ يتمّ تسجيل (استديو الهواء) على مدار 24 ساعة.
أخذ الأقراص وغادر.
وبعد ساعة تقريبا جاء شخص آخر بلباس مدنيّ، وعرّف عن نفسه أنه ضابط في القصر، وطلب الطلب نفسه وبالسريّة التامّة نفسها.
أعتقد أنّهما يتبعان لجهتين مختلفتين.
خامرتني شكوك كثيرة، حول شخصيّة الضابطين، فأنا، بحكم عملي، أعرفُ أغلب ضباط القصر الذين يتعاملون معنا في هكذا مواضيع، وفي مثل هذه الحالات كان يتواصل معنا المكتب الصحفي للقصر.
وأكّد لي رئيس مفرزة الأمن عند البوابة أن سيارتيهما تابعة للحرس الجمهوري.
راحت شكوكي أنْ يكون هناك في القيادة فئة (أو منظومة) تُحاول أن تقوّل فاروق الشرع ما لم يقوله لإبعاده عن المشهد، بسبب مواقفه ضد استخدام الحلّ الأمني.
واستطرادا أنّ هناك من يسير باتجاه التصعيد الأمني، خاصة بعد أحداث مدينة درعا التي بدأتْ بمجزرة الجامع العمري، ثمّ محاصرتها من قبل قوّات الأمن، ثمّ المجزرتين اللتين قامت بهما تلك القوّات باليوم نفسه. الأولى عند جسر صيدا بحقّ أهالي المحافظة عند توجّههم الى المدينة لفكّ الحصار عنها، والثانية عند مدخل درعا الرئيسي.
حيث سقط في ذلك اليوم عشرات القتلى والجرحى.
وقد أكدّ شكوكي تلك ما حصل لاحقا:
من إقصاء فاروق الشرع ووضعه في الإقامة الجبرية،
ولا ننسى التضييق الأمني وملاحقة منْ حاولوا تقديم مبادرات سلمية للحلّ، مثل: محمد سلمان ولؤي حسين والمشاركين في مؤتمر فندق سمير أميس
والموقّعين على بيان نقطة حليب لفك الحصار عن مدينة درعا، وعلى بيان الفنّانين الأول.
واعتقال كثيرين غيرهم.
هي منظومة إجرام، ليست من مكوّن واحد أو طائفة واحدة، بل من كلّ المكوّنات تحكّمتْ بمصير البلاد والعباد أمنيّا واقتصاديا، فأوغلتْ دمارا وتخريبا وتشنيعا وقتلا وتهجيرا وتجويعا في حق السوريين كلّهم.
ولم تكتف بذلك، بل سرقتْ أموالهم وفرّتْ كالجرذان.
وأيضا لم تكتف بذلك، بل تقوم بتحريض بعضهم على بعض بخلق فتن طائفية بغيضة.
وتستخدم بذلك أدواتها الإعلامية ممّن باعوا ضميرهم مقابل حفنة دولارات.
ولا ننسى أنّ تلك المنظومة هي نفسها منْ اخترعتْ تلك الطائفية وغذّتها على مدى سنوات.
وبالنسبة لها: هي (تعيش وتتبرتح في الخارج.. و.. فخّار يطبّش بعضو)
فاتّعظوا يا أولي الأالباب.