كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

بعد ٤٢ عاماً على رحيل سلطان باشا الأطرش حادثة المصرف الزراعي تعود للذاكرة

معين حمد العماطوري- فينكس

يصادف السادس والعشرين من شهر اذار يوم رحيل القائد العام للثورة السورية الكبرى سلطان باشا الاطرش، وبهذا اليوم نستحضر ما جرى مع الراحل الكبير في المصرف الزراعي قبل عقود من الزمن، هذه الحادثة التي حملت شجوناً وطنية، مفادها:
في واحد من أيام منتصف سبعينيات القرن الماضي، وضمن المصرف الزراعي في مدينة "صلخد" كان قسم التسليف في المصرف، منهمكاً في تدقيق المعاملة، والتأكد من كافة البيانات والضمانات المطلوبة لها، استعداداً لحضور صاحبها للتوقيع عليها، واستلام مبلغ القرض الممنوح له، إضافة لبقية المعاملات التي حل دًوْرُ أصحابها لاستلام مبالغ القروض الخاصة بهم.
تمت التحضيرات النهائية، بانتظار مدير المصرف الأستاذ "سليم الجرمقاني"، الذي كان عليه أن يتوج المعاملات بالتوقيع النهائي قبل التسليف ومن بينها معاملة خاصة وملفتة، بل ومثيرة، تعود لـ"مواطن" له وضع اعتباري مفترض، ومكانة خاصة.
الموظفون في المصرف، تعاطوا مع تلك المعاملة، كأية معاملة أخرى، وحددوا دوراً لصاحبها للمثول والتوقيع، ومن ثم استلام مبلغ القرض، وقد صادف، أن أحد المدرسين كان قد عُيِّنَ له ميعادٌ، "وهو من دون هذه الحادثة"، لاستلام القرض الخاص به في ذلك اليوم أيضاً، حضر بدوره ليتأكد من موعد الصرف، تُليتْ عليه قائمة بأسماء الذين حل دورهم للاستلاف، بعد استكمال إجراءاتهم، ومن بينهم صاحب المعاملة المذكورة، حيث تُليَ اسم ذلك الرجل مع باقي الأسماء، وكان دوره السابع، أو الثامن في الترتيب.. إنه المواطن (سلطان ذوقان الأطرش)!
صُدم المدرِّس المذكور عند تلاوة الإسم، أحس بدويِّ ما في داخله، كما القنبلة، تبع ذلك سيلٌ من التساؤلات ازدحم في رأسه: معقول؟.. شيخ الثوار.. قائد الثورة السورية الكبرى.. من لم يترجل لعدة عقود عن حصانه.. ونام في العراء واصطحب المنافي مُلاحقاً ومطلوباً للإعدام من قبل المستعمر ..من ملأ اسمه كتب التاريخ.. يقترض من المصرف الزراعي؟
عَبَرَ كل ذلك في مخيلته.. وحدَّث نفسه:
كل شيء توقعْتُهُ، إلّا أن أرى اسم هذا الرجل الأسطورة في لائحة المستلفين لقرض زراعي..!
وقال في نفسه يا ترى لو كان الشاعر "القروي" رشيد سليم الخوري حياً، ورأى ما أرى الآن ما الذي كان سيقوله من شعر؟
وهو القائل مخاطباً سلطان:
وأي دريئة تعصي حساماً … تعوَّد في يمينك أن يطيعا؟
ألا أنزلْتَ إنجيلاً جـــــديداً …. يعلمنا إبـــــــاءً لا خنوعا!
ويا لك من اطرش لما دعينا ..... لحرب كنت اسمعنا جميعا
هل كان "القروي" يقوى على مشاهدة ما أراه اليوم بأم العين؟
وتابع: لقد تقدمتُ بطلب للمصرف وأنا خَجِلٌ، بسبب حاجتي لمبلغ من المال، لعدم كفاية راتبي... الآن استطيع الحصول على القرض دون تردد أو انقباض، أو حرج!
فها هو سلطان الأطرش…! الذي ملأ التاريخ بأفعال هي أقرب إلى الأساطير، يقترض من المصرف كغيره من الفلاحين البسطاء!!..
سرعان ما ازدادت دهشته، عندما سمع المدير يقول: سيِّروا المعاملات على عَجَلْ، إلا معاملة سلطان الأطرش، وافوني بها إلى مكتبي دون دعوة صاحبها..
تسلم المدرس المذكور مبلغ القرض، لكنه لم ينصرف، بل دفعه الفضول إلى البقاء لتقصي أمر هذه المعاملة، بعد نحو ساعة، أمر المدير بنقل سجلات التسليف، والصندوق، إلى سيارة المصرف، قائلاً للموظفين:
سننقل المصرف لمدة ساعة فقط إلى منزل صاحب هذه المعاملة ـــ وأشار إلى المعاملة الخاصة بسلطان الأطرش.
لماذا؟ قالها رئيس قسم التسليف بدهشة بادية!..
رد عليه المدير: سنسلمه مبلغ القرض في بيته.. وتابع وسط دهشة موظفيه: إن من حمل قضية وطنه يوماً.. وافترش القفار والتحفَ السماء، لمدة تزيد عن ثلاثة عقود وخاض الملاحم الأسطورية ضد المستعمر.. ولم يساوم.. أو يتلقف المكاسب.. يستحق أن نحمل إليه "مصرفنا" لمدة ساعة فقط.. إن ذلك فخر للمصرف..
انصرف المدرس بعد أن استحوذت عليه مفارقة صادمة.. وحدَّثَ نفسه: المرحوم والدي، عاصر سلطان الأطرش أيام الثورة، وشاركه فيها مع الكثيرين، عاصره فارساً تَحْسِبُ له الدول حساباً في ذلك الزمان.. وها أنذا أعاصره!.. وأشاركه، ليس ثورة أو ملعب تضحيات، بل مديونية للمصرف الزراعي.. فحسب .
فيا للمفارقة!
في "القريًّا" وفي مبنى "هيئة الأركان العامة" آنذاك (مضافة سلطان الأطرش) وفي المكان الذي التأم فيه يوماً معظم رجالات الثورة السورية الكبرى. ولاذ َ بِهِ الكثيرون طلباً للأمان والحماية... وتحت ذاك السقف عينه استقبل سلطان "هيئة المصرف" مرحِّباً.. وبتلك اليد التي امتشقت السيف.. ووقعت على النداء الشهير: (إلى السلاح.. إلى السلاح.. أيها العرب السوريون.. يا أحفاد العرب الأمجاد) وقَّع سلطان باشا الأطرش على مديونية المصرف، وعلى التعهد بسداد الدين بانتظام. تحت طائلة الحجز وموجبات قانون جباية الأموال العامة!
لعل السؤال فأيهما الدائن وأيهما المدين يا ترى؟
والسؤال الأهم من بعتبرون أنفسهم قادة ثورة اليوم في أي فندق خمس نجوم يقيمون، ورصيدهم دولاري بالبنوك كم؟
للعلم هذه الحادثة جرت فعلا وصاحبها ما زال حيا يرزق... وهو يتألم في هذا اليوم يوم رحيل سلطان باشا الاطرش... لكن الرموز يقينا لم يرحلوا بمأثرهم وإن رحلوا جسدا..