عن المجزرة التي ضحيتها آل معلا
2025.05.30
د. هيفاء بيطار
لم أكتب عن المجزرة التي راح ضحيتها عدة أشخاص من (أسرة معلا). أحياناً الألم يشلني فأعجز حتى عن الكلام وعن الكتابة. لكن سأروي لكم أحبتي السوريين علاقتي بأسرة معلا التي هي وشم في ذاكرتي.
حين تخرجت من كلية الطب البشري كان علي أن أنتظر خمسة أشهر كي ألتحق بقسم (الدراسات العليا إختصاص طب العيون في مشفى المواساة في دمشق) لذا توظفت في مستوصف في قرية قريبة جداً من اللاذقية (القنجرة) قرية ساحرة الجمال وموقع المستوصف ولا أروع أمامي تمتد حقول أشجار الزيتون، وكنت أرى البحر بعيداً سعيداً ترتعش أمواجه بالنور. وكنت سعيدة جداً مع الممرضات وكان المستوصف غني بحليب الأطفال وكل أنواع الأنتي بيوتيك وعدة جراحة لخياطة الجروح.
وأحببت حباً جماً سكان القرية بسطاء مبتسمين كرماء يقولون دوماً (شكراً دكتورة، وتفضلي زورينا). أكثر أسرة أحببتها (أسرة معلا)، وكان بيتهم قريباً من المستوصف. لا أنسى مازن (أرجوكم لا تنسوه)، مازن معلا ابن خمس سنوات دخل إلى غرفتي في المستوصف يحمل منديلاً فيه ست حبات تين أخضر ينز عسلاً، وقال: "هدون من أمي". شكرته وقلت له: "وينها أمك؟"، قال: "عم تفصفص فول"، ثم أكمل: "بتقول لك أمي (يلفظها أمة) لوزاتي هابطات". ضحكت قلت له: "برافو أمك شخصت المرض"، وفحصته وأعطيته الدواء، قلت له: "مازن قل لأمك تجي لأعلمها كيف يجب أن تأخذ الدوا، فإنتفض، وقال: "أنا بعرف، قولي لي".
تطورت علاقتي مع أسرة معلا في القنجرة، وأحببت الطفل الذكي مازن، ودوماً أتذكر عبارته (بتقول لك أمي لوزاتي هابطات).. مازن معلا، طفل الفرح، كانت هوايته تسلق الأشجار قرب المستوصف، فأصرخ به: "انزل، انزل"، فيموت من الضحك، ويقول لي: "أنت خويفة خالتو". أحضرت له هدايا، أكثر ما أعجبه قطاراً يمشي على البطارية، يا إلهي كم فرح.
كانوا عائلة مميزة في القنجرة، وتغديت عندهم برغلاً بحمص ولحم ولبن أطيب أكله أحبها، وكنت كل يوم بعد إنتهاء عملي وفحص حوالي 80 مريضاً معظمهم أطفال (كنا نعطي كل لقاحات الأطفال في المستوصف السل والحصبة وشلل الأطفال والنكاف)، كنا نجلس الممرضات وأنا نشرب القهوة، وأصررن أن أشرب المتة، وصرت أحب طقوس المته أكثر من طعمها.
روعتني جريمة قتل عدة أشخاص (ذبحاً من آل معلا)، وبقيت في حالة ذهول يومين، وصورة مازن معلا طفل الفرح إبن السنوات الخمس في ذهني يحمل منديلاً فيه حبات تين أخضر، وطوال الوقت صوته يدمي قلبي (بتقول لك أمي لوزاتي هابطات).
يا للقهر والعار الذي يحصل في سوريا.