كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

"حضرة التاريخ".. عملاء الأطلسي في مشتى الحلو.. وقضايا للتفكير والتدبير

أحمد حسن- فينكس

" في أربعينيات القرن الماضي اختلفت امرأتان في بلدة مشتى الحلو على نتيجة حملة يانصيب قام بها الشيوعيون هناك على طقم شراشف وأغطية غرفة نوم، فتلاسنتا وتعاركتا، ووصل الأمر إلى شد الشعر وغيره... بعد أيام قليلة وصلت جريدة النور الشيوعية من دمشق وفيها أخبار المعركة تحت عنوان: "عملاء حلف الأطلسي في مشتى الحلو يعتدون على المناضلة أم حكمت".

وبقدر ما تبدو تلك الفقرة من كتاب "حضرة التاريخ حوار مع عدنان بدر حلو"، إعداد وحوار الكاتب "أبي حسن"، مضحكة ومسليّة، بقدر ما أنها محزنة ومدعاة للتفكّر والتدبّر، ليس في تاريخنا ووقائعه فقط بل في حاضرنا الذي لا يبدو، من أيّ زاوية نظرت إليه، سوى استعادة مكررة لذلك الماضي "السعيد" الذي لم يخرج منا ولم نخرج منه بعد.

ذلك تحديداً هو معنى، ومغزى، استعادتنا لهذه القصة وتصديرنا هذه "القراءة" بها، فإذا كان الحوار الذي ضمته ضفتي هذا الكتاب "يسلط الضوء على مرحلة زمنية مفصلية وهامة من تاريخ سوريا وبعض الأحداث التي عصفت بالإقليم.. في عقود خمسينيات وستينيات وسبعينيات وبعض ثمانينيات القرن الماضي"، كما قال المحاور في "توطئة" الكتاب، فإنه، -وهو يستعيد، عبر استدراج ذكي ومدروس من محاور مثقف ومعروف، ذكريات كاتب ومناضل انخرط فعلياً في قضايا بلاده- يحدّد ويفسّر بعض أسس وأسباب ما وصلنا إليه وما نعيشه اليوم، وذلك تحديداً ما يمنح هذا الحوار قيمته وأهميته البالغة.

وكي لا نصادر سلفاً رأي القارئ المفترض لهذا الحوار الثرّي، فسنكتفي في هذه "القراءة" بإيراد بعض القضايا التي حفل بها والتي لا زلنا نعيش بعضها بحذافيره أو ندفع أثمان بعضها الآخر، فمثلاً يكشف الكاتب عن حصول تعاون انتخابي بين القيادة المحليّة للحزب الشيوعي وبين عائلة اقطاعية معروفة في أربعينيات القرن الماضي، في الوقت الذي كان فيه الصدام، الدمويّ أحياناً، بين "القومي السوري" و"الشيوعي" –وهما القوتين الوطنيتين الوحيدتين حينها في المنطقة- يستهلك جلّ نشاط شباب الحزبين!

وفي مفارقة أخرى وذات دلالة بالغة يقول "بدر حلو" أنه حين تعرض للسجن والتعذيب في زمني الوحدة (السورية –المصرية) والانفصال اكتشف أن "المحققين الأمنيين" الذين عذّبوه أيام الوحدة هم ذاتهم أيام الانفصال! كما كشف في لفتة أخرى عن تخلّي بعض العناصر الوطنية عن أحزابهم "بسبب الموقف المتعالي للقيادات".. وفي الحالتين لا حاجة للتعليق.

أمّا زبدة الكتاب، من وجهة نظري، فهي تلك المتمثّلة بفقرتين لافتتين، أولهما ما كتبه في ذلك الوقت المبكر عن "دور الرأسمالية العالمية في إخضاع البنى الرأسمالية الجنينية في العالم الثالث لشروطها، بحيث تبقى تلك البلدان أسواقاً لمنتجاتها ما يقلص الدور الإنمائي للبرجوازيات الوطنية في بلداننا إلى مجرد وكيل تجاري للمنتجات الرأسمالية الخارجية"، مضيفاً ما يفسّر للقراء واقعنا اليوم بالقول إن "هذا التقليص في الدور والمهمة التاريخيين للرأسمالية الوطنية كانا السبب في عجزها عن إقامة الدولة الوطنية.. وبالتالي في انكفائها إلى تحالف هجين وهزيل وهش مع طبقة عقيمة من التجار المستوردين للبضائع الأجنبية، ومع بقايا الاقطاع وزعماء العشائر في الريف والبادية".

والفقرة الثانية تتعلق بتاريخ حزب البعث العربي الاشتراكي، حيث يعتبر، أي بدر حلو، أن أكبر خطأ وقع فيه "أكرم الحوراني" هو توحيد الحزبين العربي الاشتراكي والبعث العربي في حزب واحد ويضيف "لقد أدى هذا الاندماج إلى الحاق الضرر بكليهما وإعاقة مسار التطور لكل منهما، وإرباك بنيتهما المختلفة فكرياً وطبقياً، بالإضافة إلى أنه أورث للحزب الموحد كماً كبيراً من المشكلات الفكرية والسياسية والتنظيمية أضرت كثيراً بدوره ومساره ..فقد كان الحزب العربي الاشتراكي ذا بنية طبقية فلاحية.. وكان مباشراً بقيادة ثورة شعبية حقيقية في الأرياف السورية".. أما بالنسبة لحزب البعث العربي فكان هو الآخر يحقق انتشاراً واسعاً في أوساط مثقفي الطبقة الوسطى وطلاب الجامعة والمدارس الثانوية في عموم أنحاء سورية.. وكان "يتطور باتجاه التحول إلى حزب اشتراكي ديمقراطي على غرار الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية".

والحق فإن هذين الأمرين السابقين وإن كانا يعبران عن رأي شخصي للمناضل "بدر حلو" إلا أنهما "قول" هام وجدير بأن يوضع أمام الباحثين الجادين ليس فقط للنقاش والحوار، تأييداً ملغوماً أو اعتراضاً مصلحياً/"قبليّاً"، بل للتفكّر والتدبّر والاستفادة والتجاوز، فتلك هي الغاية الأهم والأجدى من استعادة التاريخ وما سوى ذلك ليس إلّا قبض ريح.