كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الحي العربي

محمد صباح الحواصلي
كاليفورنيا ٢٧ أيلول ٢٠١٧
إنها الظهيرة، وقد وصلنا إلى الحي العربي في شارع (بروك بيرست) في مقاطعة أورنج بكاليفورنيا. دخلتْ فريال وكاترين إلى محل (الفرح للازياء الإسلامية)، ومشيتُ أنا مع حفيدي صباح الصغير، وعبرنا الإشارة الضوئية إلى الطرف الآخر من الشارع لنقضي وقتَ الإنتظار في مكان ما ظليل. كانت الشمس حادة والنسمات التي من شأنها أن تلطف الحرارة كانت واهنة. دخلنا ساحة تجارية فيها مطاعم ومحلات عربية. قلت لصباح الصغير:
"علّنا نجد مكتبة تبيع كتباً عربية.."
سألني:
"ماذا تريد أن تشتري جدّو؟"
"لا شيء على التعين. إنها العادة أن أبحث عن المكتبات في المدن التي أزورها.. أريد فقط أن اقرأ عناوين الكتب فربما أجد ما يهمني."
"ألم تقرأ الكتب كلها التي في العالم يا جدي؟!"
ضحكتُ وقلتُ:
"لم اقرأ الا القليل. إنها كثيرة جداً.. تكاد لا تحصى."
"أنت تحب الكتب العربية أكثر، أليس كذلك جدو؟"
"أحب الكتاب الجيد."
"وأنا أيضاً أحب الكتاب الجيد.. لكنني لا أحب الكتب الجيدة المملّة التي تحبها أنت."!
"سوف تحبها عندما تكبر أكثر."
"لا أعتقد ذلك يا جدي، فنحن في زمن الأكشن."
مشينا على طول رصيف ضيق في الساحة التجارية، وعلى يسارنا محال ومطاعم خاملة، أحدها فارغ برسم البيع، وآخر مغلق للصيانة، وسمعنا في طريقنا وديع الصافي، وسمعنا فيروز، وقال لي حفيدي بدهشة وسرور:
"إنها فيروز."
وسألته:
"تحب فيروز."
"كثيراً.. فأنا لا أعرف غيرها."
ومررنا بملحمة الهدى، ومطعم حلب، و(فرن الحارة: مناقيش زعتر، لحم بعجين، سبانخ.) ولا بد أن تقرأ في لافتة المحل أو المطعم أن اللحم حلال.. ومررنا بصالون زينة للتجميل، ومحل عالم التدخين والنراجيل ولوازمها، سألت رجلاً سحنته عربية:
"هل يوجد مكتبة عربية هنا؟"
أجاب وقد عقد حاجبيه متفكراً:
"لا عربية ولا إنجليزية. أقرب مكتبة تجدها في مدينة (أناهايم).. تبيع الكتب الدينية والتراثية."
"شكراً.."
وسرت مع صباح الصغير، وقلت له:
"لا يوجد مكتبة هنا."
قال:
"إذاً نذهب إلى (أناهايم)"
"بعيدة عن هنا.. ثم أنني لا أريد كتباً دينية أو تراثية."
فقال:
"على كل حال يا جدو، أنتَ لست بحاجة إلى كتب. أنتَ كاتب."
قلت له:
"الكاتبُ أكثر الناس حاجة إلى قراءة الكتب."
"لماذا؟"
"لكي لا ينقطع عن المعرفة والأساليب. هل تتصور كاتباً من دون معرفة؟"
"لا، طبعاً."
"وهل تتصور كاتباً من دون أسلوب."
"ماذا تقصد؟"
"كل واحد منا له أسلوب في الحياة يميزه عن الآخرين، والكاتب أيضاً له أسلوب في الحياة وفي كتاباته يميزه عن غيره من الكتَّاب."
رأينا مطعمَ (شجرة الزيتون) عند ناصية شارع (بروك بيرست)، مقابل محل (الفرح للأزياء)، قلت لحفيدي:
"تعال ندخل هذا المطعم، أريد أن أحتسي فنجانَ قهوة. وأنتَ هل تريد شيئاً؟"
قال:
"أنا سآكل بطاطا مقلية."
دخلنا المطعم. عند المدخل، على الرصيف المسقوف، كان هناك رجل مسن، قصير، جالس وأمامه على الطاولة دلة قهوة صغيرة وفنجان وعلبة سجائر، وكان يدخن، وسمعنا مع دخولنا عمرو دياب يغني"أيام حلوة الأيام.. يا حبيبي معاك ولا في الأحلام." رحَّبَ بنا الرجل الذي يحتسي القهوة ويدخن:
"أهلا وسهلاً.."
"أهلاً.."
وقفَ وتقدمَ مني قليلاً، سألته:
"هل بإمكاني تناول فنجان قهوة تركية دون تناول وجبة طعام."
"تفضل يا مئة أهلا وسهلا."
سألته:
"من لبنان حضرتك؟"
"لا، من فلسطين." وتابع: "كلنا واحد."
جلست إلى طاولة أمام النافذة الزجاجية المشرفة على الشارع ومحل (الفرح للأزياء) لكي أراقب خروج فريال وكاترين، وجاءت النادلة ووضعت على طاولتي دلة قهوة صغيرة وفنجان قهوة. صبّتْ لي فنجاناً وقالت: "بالهنا والشفا."وطلب صباح الصغير بطاطا مقليه، وكنتُ، بين الرشفات، أنظر إلى مدخل محل (الفرح للأزياء)، وإلى الشارع العريض وحركة السيارات المسرعة. كنت أفكر أن الحي العربي بناسه ومحلاته ومطاعمه واحدٌ لم يتغير. شمسه واحدة، وسعيه واحد، وخموله واحد، وأفقه واحد، وتراوحه واحد. وأن حاصل التغير، وحتمية المأساة هي نفسها. كان حفيدي يأكل البطاطا المقلية - أو (فرنش فرايز) كما يحب أن يسميها- يغمس الواحدة منها بالكاتشب ويضعها في فمه، وكنت اسمع (قرمشتها) بين أسنانه.

وعندما خرجنا من مطعم (شجرة الزيتون)، كان عمرو دياب لا يزال يغني، ومررنا قرب قرقرة نرجيلة عند باب المطعم. تابعنا سيرنا في شارع (بروك بيرست)، وكنت أقف قليلا التقط أنفاسي حيثما أجد ظلاً.. وفي سيري قرأت لافتة عالية، خطها كبير وواضح:California Girls, Gentlemen's club (بنات كاليفورنيا - نادي للرجال) وليس بعيداً قرأت اسم مطعم: (مأكولات عربية وخليجية - حلال).