كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

تلفزيون الصيف وسينما الشتاء!

سامر محمد اسماعيل

 لا أذيع سراً إذا قلت إن ذلك كان أمراً مدهشاً بالنسبة لي وأثار العديد من الأسئلة، خصوصاً وأنا أشاهد انهمار كل هذا المطر في معظم أفلامنا السورية، بينما تحتفي مسلسلاتنا التلفزيونية بصحوها الدائم، طبعاً مع استثناءات نادرة تؤكد القاعدة ولا تنفيها، ففي بلادنا المشمسة ثمة تغريب مقصود بين فنين مختلفين في شروطهما وطبيعتهما، فبنية الفيلم السينمائي بنية زمنية في الأصل، والزمن السينمائي ذو الكثافة العالية في أحداثه واستثنائية شخصياته، هو منافٍ تماماً للزمن التلفزيوني الذي يكاد لا يحدث فيه شيء تقريباً، بل غالباً ما يعتمد على ثرثرة مطوّلة تمتد نحو ثلاثين ساعة وساعة، مع نقلات بطيئة على صعيد الحدث والصراع وتطور أفعال وردود أفعال الشخصيات، وهذا أيضاً يحتمل الاستثناء مع أعمال مصرية وسورية، حاولت صياغة ما عُرِف برواية تلفزيونية، حققت عوامل جذب للمشاهد العربي.
المهم أن المطر في السينما السورية، مطرٌ لا يتوقف، ولا ينضب، ولا يتباطأ، بل إن ميزانيات كبيرة تخصص دائماً لمضخات المطر ولصنع أجواء شتوية في الأفلام، بينما بالكاد نعثر على عمل تلفزيوني يتساقط فيه المطر، بل كل أجواء المسلسلات لدينا تذهب نحو هذا السطوع الدائم، رغم أن بعضها يصوّر في فصل الشتاء.
إن هذه المفارقة تعكس فهماً ومغالطات في وظيفة الفن نفسه، فأن تمطر في الأفلام وتشمّس في المسلسلات، هذا ليس بالشيء الرهيب أو الخطير، لكن في العمق يمكن أن نلاحظ هذه العلاقة مع الطقس، وتلك المخيلة الشرقية التي تعتبر المطر شاعرياً وسينمائياً، بينما تصبح الشمس (راكوراً) دائماً في مسلسلاتنا، فكم هي المشاهد التي صوّرت أبطال وبطلات أفلامنا السورية يركضون ويرقصون تحت المطر في لقطات ذاب معها الجمهور، ومال مع كل شهقة برد تحت أعاصير الأفلام وعواصفها الرومانسية!
أجل إنه مطر لخطاب الجمهور، وللعزف على حساسيته وذائقته التي على الأغلب أن الشِّعر قد رباها في ثقافتنا العامة، ودرّبتها حواسنا ومخيلتنا لتصبح تلك اللقطات والمشاهد الممطرة جانباً أساسياً من جمالية السينما، وعلى رأس خيارات مخرجينا وهوامات كتّابنا الأشاوس، فمن منا لا يتذكر (أنشودة المطر) قصيدة بدر شاكر السيّاب التي درستها أجيال وأجيال في مقررات الكتب المدرسيّة والجامعية، من لم يذُبْ مع هذا النص الملحمي العابق بالمطر منذ العتبة النصية الأولى في عنوانه؟
المثير هنا أنه وحين تمت ترجمة قصيدة السياب إلى الإنكليزية، وجد المترجمون الإنكليز صعوبةً في نقلها إلى لغتهم، لا من باب سياقها اللغوي وصورها البديعة، بل لأن المطر كما هو معروف ليس شاعرياً إطلاقاً في بلاد الضباب التي لا يتوقف فيها المطر عن التساقط، مما جعل من طلوع الشمس في شمال القارة الأوروبية لحظةً شاعرية، تختلف تماماً عن لحظة نزول الغيث على بلادنا الحارقة الحرّاقة، ما حدا بالمستعربين الإنكليز إلى ترجمة أنشودة السياب الخالدة لتصبح (أنشودة الشمس)! ومنذ ذلك التاريخ والمطر العربي ضائع في الترجمة..