كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

فستق حلبي

محمد صباح الحواصلي
26 تشرين الثاني 2013
سمعت صوتاً خافتاً من خلفي فيما كنت أضعط على مقبض حاوية الفستق في سوبرماركت كبير هنا في سياتل:
"أنا من قرية تزرع الفستق في المكسيك."
هكذا بدأ كلامه بود وعفوية وكأني أعرفه.. وذكر لي اسم قريته، لكنني لا أذكرها. كانت لغته الإنجليزية ضعيفة، لكن إحساسه كان قوياً، وحضوره، رغم بساطته، قوي أيضاً. عبأت كيساً صغيراً من الفستق وقلت له:
"نسميه في بلدي فستق حلبي نسبة إلى المدينة التي يزرع فيها الفستق." وقلت له: إن حلب مدينة قديمة جداً، مثل الفستق الحلبي.."
فسحت له مكانا نحو حاوية الفستق، ففهم قصدي، فقال:
"لا.. أنا لا أريد أن أشتري فستقاً.. إنه باهظ الثمن هنا في أمريكا.. فوق طاقتي."
ورأيته وهو يُسْلم نفسه للصمت.. ليس أي صمت.. صمت فيه شوق وحنين إلى مرابع الأمس البعيد. تابعت ما عندي من معلومات عن الفستق الحلبي بلغة بطيئة وواضحة، وكنت أتخير الكلمات البسيطة.
"زُرع الفستق في حلب منذ أكثر من ٣٥٠٠ سنة.. ولا يزال هناك بعض الأشجار المعمرة من أيام السيد المسيح في القلمون ببلدة اسمها (عين التينة)."
ردد اسمها: "عين التينة.. اسم جميل.."
"في سورية الملايين من شجر الفستق الحلبي.."
قال بدهشة: "هذا كثير.. إذن الإنتاج السنوي هائل أليس كذلك؟"
قلت بصوت فاتر:
"لم يعد هائلا.."
"ولكن ملايين أشجار الفستق تجعل الإنتاج هائلا.."
"صحيح.. لكن ظروف الحرب الأهلية.."
"آه.. صحيح.. تعطل الإنتاج والتوزيع والتصدير.. إنها الحرب.. دائما لعينة."
ثم غاب في الماضي وتابع من هناك:
"كنت صغيراً عندما كنت أذهب إلى مزارع الفستق في شهر أيلول لكي اسمع صوت تفلق الفستق.. تسمع مع الليل تفلق ملايين حبات الفستق.. من كل جانب.. البعيد والقريب، أصوات موزعة تأتي كثيفة أحيانا ومتفرقة أحيانا أخرى.."
ثم بغتة قلت له وأنا أضحك.. "إنك تحدثني بالإسبانية.. لم أفهم إلا القليل مما قلت.."
ضحك واعتذر وتابع بما لديه من كلمات بالإنجليزية: "كنت أقضي وقتا طويلا في مزارع الفستق.. مع الليل والقمر وتفلق الفستق والهدوء."
ثم قال إنه يعتذر لإضاعة وقتي.. ابتسمت وقلت له بل اسعدني لقاؤك وكلامك. سألته: ما اسمك؟
"باكو.. كلنا في المكسيك باكو.." وضحك.
"اسم سهل.. كنت اسكن منذ أكثر من أربعين عاماً في لندن مع طالب مكسيكي اسمه باكو.
قال: "أرأيت.. كما قلت لك كل المكسيكيين اسمهم باكو.. وضحك ثانية.
قلت له: "وأنا اسمي محمد.. كثير من السوريين اسمهم محمد."
ضحكنا.. وودعني:
"إلى اللقاء.."
قلت له: إلى اللقاء.
وكنت في سيري في السوبرماركت، اسمع تفلق الفستق الذي لم يسبق أن سمعته من قبل.