كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

مقتل شاعرين..

علي سليمان يونس

ما أَنصَفَ القَومُ ضَبَّه ***وَأُمَّهُ الطُرطُبَّه
رَمَوا بِرَأسِ أَبيهِ ***** وَباكَـــــوا الأُمَّ غُلبَه
وَما عَلَيكَ مِنَ العار *****ِ إِنَّ أُمَّكَ قَحبَه
وَما يَشُقُّ عَلى الكَلب أَن يَكونَ اِبنَ كَلبَه..
إنها الأبيات الأولى من قصيدة مالئ الدنيا وشاغل الناس الشاعر أبو الطيب المتنبي، التي هجا بها بنو ضبة، وكانت السبب في مقتله وابنه وأصحابه. وقيل أيضا أن سبب قتل أبو الطيب المتنبي هو خلاف حدث بينه وبين الأمير عضد الدولة بسبب انتقاد أبو الطيب له ووصفه بالبخل وأن سيف الدولة أكثر كرما منه. مما أوغر صدر عضد الدولة عليه فأرسل له قوماً قاموا بقتله، وقيل غير ذلك... مع أن الرواية الأقرب إلى الصحة هي ما أجمع كثير من المؤرخين على ذكرها من أن قاتله هو شخص يدعى فاتك بن جهل الأسدي والرواية تقول:
أن ابن أخت فاتك الأسدي ويدعى ضبه بن يزيد العتبي كان مسافرا إلى الكوفة هو وعائلته وبينما هو في الطريق اعترض له قوم من الأعراب من قبيلة كِلاب، ودارت بينهم معركه قُتل على أثرها والد ضبة وسُبيت أمه. كان ضبة العتبي مشهورا ببذاءة اللسان وبالغدر حتى بضيوفه ولعل ما حدث له هو نوعٌ من الانتقام منه بسبب ذلك، وفي يوم من الأيام مرّ قوم من أشراف الكوفة من أمام مضارب ضبة بن يزيد العتبي الذي كان متحاملاً على أهل الكوفة بسبب مقتل والده فتعرض لهم يشتمهم بأقذر الألفاظ وجاهر بذلك الشتم وكان لذلك التصرف أسوأ الأثر في نفوس أشراف الكوفة الذين لجأوا إلى أبي الطيب المتنبي لرد اعتبارهم فأنشد قصيدته المشهورة، ((ما أنصف القوم ضبة)) فكانت من أفحش القصائد التي قالها أبو الطيب المتنبي في حياته، حتى قيل أن أبي الطيب كان يكره سماعها إذا رويت له، وقد تعرض فيها لوالدة ضبة فوصفها بأقذر الصفات وأسوأها وكانت هذه القصيدة السبب الرئيسي لمقتله. حين علم خال ضبة المدعو فاتك بن جهل الأسدي داخلته الحمية لكون القصيدة تعرضت لأخته بالقبيح فأضمر الشرَ لأبي الطيب وأقسمَ بالانتقام منه. كان أبو الطيب في ذلك الوقت في مدينة "شيراز" وفي طريق عودته إلى "بغداد" كان معه بِغالٌ محملة بالهدايا والطيب والكتب الثمينة والخلع النفيسة، وحين اقترابه من منطقة تسمى "دير العاقول" خرج عليه فاتك بن جهل مباغتة ومعه جنده فهاجموا أبو الطيب المتنبي وعملوا تقتيلا في صحبه، ويقال بأن أبو الطيب المتنبي حاول أن يغادر ساحة المعركة لما أحس بالهزيمة لولا أن أحد غلمانه جابهه بقوله: سيصفك الناس بالجبن لو هربت وأنت القائل:
الخيل والليل والبيداء تعرفني.. والسيف والرمح والقرطاس والقلم.
فعاد أبو الطيب إلى المعركة فقُتل مع ولده محمد وكثير من جماعته ونُهبت أمواله. وكان مقتله في عام 354 هجرية، الموافق لسنة 965 م، وكان عمره خمسين عاما..
*** بعد عشرة قرون من مقتل المتنبي.. كانت نكسة حزيران 1967م، التي مرت ذكراها الأليمة منذ أيام قليلة، والتي لا نزال نعاني من آثارها وتبعاتِها حتى يومنا هذا… فوجدها بدوي الجبل فرصة سانحة ليبصق في وجه الحاكمين كل أوجاعه وأحزانه فيتهكم على تقدميتهم وعلى إشتراكيتهم وأسلوب حكمهم وينتقدهم انتقاداً عنيفاً في قصيدة جاوزت ال 150 بيتا قال فيها:
رملُ سيناءَ قبرنا المحفورُ وعلـــــــــــى القبر منكرٌ ونكيـــرُ
أغرورٌ على الفرار لقد ذاب حياءً مــــــــــن الغرور الغــــرورُ
لم يعانِ الوغى (لواء) ولا عانى (فريق) أهوالها و(مشير)
رتبٌ صنعة الدواوين ما شارك فيها قرّ الوغى والهجيـــرُ
جبُنَ القادةُ الكبارُ وفرّوا.. و بكى للفرار جيــــــــــــش جسورُ
هُزمَ الحاكمون والشعب في الأصفاد فالحكم وحده المكسورُ
هُزمَ الحاكمون لم يحزن الشعب عليهم ولا انتخى الجمهورُ
وتحدى الشاعر الظلمَ ممجداً بالحرية وقال بانه رغم الهزيمة الحالية فالغزاة الصهاينة هم المهزومون في الأخير. وتفجعَ على القدس وعلى الأماكن المقدسة فيها، كما تعرض لمأساة اللاجئين ولدور هيئة الامم، وعاد للتبشير بأن النصر المباغت الذي حققه العدو الصهيوني لا مستقبل له كما عاد ليصور حالة الشعب المقهور في ظل الأنظمة المهزومة فقال:
كلُ فردٍ من الرعية عبــــــدٌ.. ومــــــــــــن الحكم كل فردٍ اميــــــــــرُ
نحن موتى وشرُ ما ابتدعَ الطغيان.. موتى على الدروب تسيرُ
نحـــــــــن موتى وإن غدونا ورحنا والبيوتُ المزوّقات قبــــــــــورُ
نحــــــــن موتى يسرّ جارٌ لجارٍ مستريباً, متى يكون النشــــــــــورُ
بقيت سبةُ الزمان على الطاغي ويبقى لنا العلا والضميـــــــرُ
ويتساءل عن اشتراكيتهم فيقول:
إشتراكية تعاليمها: الإثراء والظلم والخنا والفجـــــــــــــــــــورُ
كيف يغشى الورى ويظفر فيها حاكمٌ مترفٌ وشعبٌ فقيرُ؟
محنةُ العربِ أمة لم تهادن فاتحيها، وحاكـــــــــــــــــــم مأجورُ
ثم يختم قصيدته بالنصيحة فيقول:
كل حكمٍ له وإن طالت الأيام يومان: أولٌ وأخيـــــــــــــــــــــــــرُ
كل طاغٍ مهما استبدّ ضعيفٌ كل شعبٍ مهما استكانَ قديرُ
وقامت الدنيا ولم تقعد ضد البدوي… ووجد بعض من أصابتهم هذه القصيدة بسهامها من لا يتمتع بالأفق الواسع والسجية السمحة ولا يقيم وزنا لعبقرية الفن وللإبداع الشعري -وكان في موقع المسؤولية-.. وبدلاً من أن يعتبرَ القصيدة غضبة شعرية من شاعر كبير، هدرتْ وقرتْ، نراه يترصد الشاعر البدوي ليردَ له التحية بأحسن منها ولكن ضرباً ولكماً وخطفاً.. حيث أنه اُختطفَ من قبل ملثمين بينما كان يتمشى أمام بيته في أحد شوارع دمشق، فقاموا بضربهِ ضرباً مبرحاً على أنحاء جسمه وأهووا بحديدة على رأسه، وكسروا يده اليمنى. واخفوه لعدة أيام. ولم يُظهِروه إلا بعد أن وجه السيد الفريق حافظ الأسد وزير الدفاع آنذاك (طيّب الله ثراه)، إنذاراً شديدَ اللهجة إلى الخاطفين لإطلاقه، وحصل الأمر، فعُثر على بدوي الجبل مرمياً في أحدِ شوارع دمشق ينازع بين الحياة والموت، ثم نُقل إلى المستشفى. بقي يعاني من أمراض النطق والمشي وباقي النشاطات الجسدية، نتيجة ضربه على رأسه وكسرِ يده اليمنى.…
هذا ما جرى.. وهذا هو أحد وجوه التشابه العديدة بين ما حدث للمتنبي والبدوي بسبب قصيدتين لهما في الهجاء؟ فالمتنبي كما ذكرتُ ثأرَ لقومه وهجا ضبة الكلابي بكلام فاحش عن أمه فتصدى خالُ ضبة هذا مع مجموعة من أعوانه للمتنبي وقتلوه. وفي المقلب الآخر قام بدوي الجبل بعد اكثرِ من الفِ عام من حادثة المتنبي بهجاء الحكام المهزومين في حرب حزيران 1967 فتصدى له أحدهم وكاد يودي بحياته.. مات المتنبي بسبب قصيدته، ومع أن البدوي وإن لم يمت مباشرة بسببها فهو قد حمل من (نعيمات) آثارها ما عجل بموته في سنة 1981م.
هكذا هم فحول الشعر.. وهكذا يكون الشعر بليغاً محرضاً ومعبراً عن آمال وآلام الناس مهما كان الثمن غالياً…
ودمتم بخير..
ملحوظة: (لمن أراد المزيد من أوجه التشابه العديدة بين البدوي والمتنبي الرجوع إلى كتاب: "الشاعران بدوي الجبل والمتنبي" للكاتب عبد اللطيف محرز (أمد الله في عمره).