كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

التوبة

محمد سعيد حسين

أنا لا شيء يعنيني..
سوى عملي،
ودخلٍ بائسٍ بالكاد،
قوت اليوم يكفيني..
وأوراقٍ أقلّبها
وأنفث فوقها "سمّي"
وأرميها..
لترجع في سلال القهر
ترميني..
سنوّ القهر تسحقني..
ويسلخُ رقبتي سوط
السّلاطينِ..
فأدركُ أنّني المنفيّ في وطني
ولا.. لا شيء يعنيني...
المواطن الصالح جدّاً: صالح الصّالح
ـ 1 ـ
... ربّما كان عليّ أن أحترم نفسي أكثر..
ـ مكبّرات الصوت، ليست لعبة بيد الأولاد.. !! قال أبي..
ـ المنابر لها رجالها... قال المدير..
ـ مالك ولهذه الورطة الّتي أوقعت نفســك فيها ؟!! قالت تلك الّتي كانت صديقتي..
وقيل الكثير؛ الكثير ممّا لم أسمع، لكنّ الوجوه.. النّظرات، كانت تفصح عن كمٍّ كبيرٍ من الدّهشة، والشّفقة، والشّماتة، والتّشفّي، و....
مشاعرُ، وانفعالاتٌ متناقضةٌ، ومختلفةٌ، قرأتها في الوجوه الّتي تسنّى لي أن أنظر إليها آن وقوع الواقعة.
في الواقع، أنا لم أحترم نفسي حينذاك، كما لم يتسنّ لي أن أحترمها من قبل..
ـ 2 ـ
بمنتهى الأدب، وقفت أمام الرّجل الذي أدخلَني إليه شابّان هائلا الحجم، بيد أنّ وجهي ارتطم بأرض غرفته آن دخولي، لأنّ أحد الشّابّين دفعني برفقٍ من الباب باتِّجاه الداخل، وهو معذورٌ في هذا، فأنا كنتُ أسير ببطءٍ، وهو يريد إنجاز عمله بسرعةٍ، ليلتفت من جديد إلى مهمّةٍ أخرى تتطلّب سرعةً قصوى في إنجازها..
نهضتُ؛ لم أحاول تجفيفَ سائلٍ حارّ أعتقد أنّه غطّى جزءاً من وجهي، وقفتُ كالصّنم،عيناي جامدتان، تنظران أفقيّاً لتقعا على لوحةٍ معلّقةٍ تمثِّل معركة ً، عرفتُ فيما بعد أنّها تدعى "معركة حطّين" ثمّ عرفت لاحقاّ أنّ أبطالَها المنتصرين عربٌ ومسلمون، فرحتُ كثيراً.. مازلت أفرح حتّى الآن.!!
في غمرة فرحي تذكّرت المعركة، وتذكّرت صلاح الدّين الأيـّوبيّ، ما زالت ملامحُه الرّصينةُ وسحنته الجادّة، مرسومةً في مخيّلتي كما رأيتها للمرّة الأخيرة، حتّى تفاصيل المعركة، والسّيوف الّتي أتلفتُها في رقاب الأعـداء آنذاك.. تذكّرت الكثير.. مازلتُ أتذكّر حتّى الآن... !!
على بعد حوالي مترٍ من الّلوحة، باتّجاه الأسفل، ثمّة رأسٌ بشعرٍ كثيفٍ جدّاً، حسدتُ صاحبَه عليه، متّصلٌ مباشرةً بكتفين هزيلتين، وجسدٍ ضئيلٍ يختفي ثلاثة أرباعه خلف منضدةٍ تعلوها يدان ناحلتان بأصابع طويلةٍ، إحداهما "اليسرى على ما أذكر" تمسك قلماً، والأخرى لفافة تبغٍ مشتعلةٍ، وعلى المنضدة أيضاً، بضعة أقلامٍ، وأوراقٌ، وجهاز هاتفٍ بقرصٍ معدنيٍّ، ولوحةٌ نحاسيّةٌ كتب عليها "رئيس القسم".
طبعاً هذا الهبوط الاضطراريّ لمستوى نظري، حتّى لامس المنضدة وما فوقها، لم يكن قلّة أدبٍ منّي، بل استجابة فطريّة لصوتٍ هادئٍ رحّب بي بكلِّ مودّةٍ قائلاً:
أهلاً بك.. عدم المؤاخذة يا أخ صالح، أعدك بأنّني سأعاقب ذلك "البغل" الّذي "رفسك"، يا لهؤلاء البغال، قلتُ لهم ألف مرّةٍ أن يرفعوا مستوى التّعامل مع "الضيوف"، وهم كما ترى، هذا أقصى ما يستطيعونه من تهذيب، على كلٍّ حقّك علينا، سجّل علينا واحدة...
قال عبارتَه الأخيرةَ مادّاً يدَهُ إليّ بورقة محارمَ بيضاء..!
ـ انسَ ما حصل، امسح وجهك، واجلس "لنتسلّى" قليلاً...!!
بكلّ أدبٍ جلستُ، وبمنتهى الامتنان تقبّلت هديّته، ومسحتُ بها وجهي، ولشدّة ما دُهشت، عندما استحال لونُها ـ بقدرة قادرٍ ـ إلى أحمر قانٍ.
تبادلنا حديثاّ ودّيّاً للغاية، لم تمض دقائقُ؛ حتى أخذ حديثُنا طابع المزاح، طبعاً من جانبه هو،
لأنّني كنت ـ كعادتي ـ مهذّباً جدّاً، مازحني كثيراً ذلك الرّجل، وكان مزاحُه نوعيّاً وشاملاً، لم يفُت لسانُه الفصيح، ذكرَ أمّي وأبي وعائلتي بما يستحـقّونه مـن الألقاب والنّعوت، دهشت كثيراً.. ما زلت أدهش حتّى الآن...!!
انتشلني الشّابان من دهشتي، بأداتين طويلتين مرنتين، ما برحا يداعبانني بهما، حتّى أغمي عليّ من شدّة الضّحــــك.
ـ 3 ـ
بعد ما لا أذكر من الزمن، أدخلني الشابان إلى الرجل ذاته، كانت اللوحةُ معلقةً في مكانها، تماماً كما تركتُها، العربُ الأبطالُ ينتصرون، وصلاحُ الدّين يبتسمُ بحنان بالغٍ، وهو ينظر إلى جنوده البواسـلِ يُعمِلونَ سيوفَهم في رقاب الأفرنج...
يا لها من لحظةٍ تاريخيّةٍ، تلك الّتي أخرَجَني فيها ذلك الرّجل ذو الشعر الكثيف الّذي أحسده عليه، من قلب المعركة بصوتٍ غطّى على قعقعة السّلاح بنبرته الحانية:
ـ ألم تسمع ؟ كلّ ما تعرف.. كلّ من تعرف.. وإلاّ...!!!
ونظر إلى الطّودين الرّابضين خلفي، فأدركْتُ بيسرٍ وسهولةٍ قصده، وسرّه ذلك، سرّه جدّاً أن أفهم قصده بهذه السّهولة..
ـ إذاً لنبـدأ من جديد، اطلع فيها؛ ومن الأوّل.
وبدأت أقصّ عليه الحكاية...
ـ 4 ـ
"كنت شاهداً وغير شاهدٍ، أعرف ولا أعرف، نائماً وغير نائمٍ..!!
صلاحُ الدّين كان عابس الوجه مقطّباً، ينظر باتّجاهٍ واحدٍ ـ بيت المقدس ـ الفرسان عن يمينه وعن شماله تجندل الفرسان، السّيوف تبري الرّؤوس والأذرعَ ورقابَ الخيل...
هكذا؛ بغتةً؛ انجلَتِ المعـركةُ عن نصرٍ فظيعٍ.، انتصرنا..! لا زلنا ننتصر حتّى الآن..!
الآن، بعد هذه الانتصارات الكثيرة والكبيرة، ما زلت نائماً أحلم، أحلم أنّنا انتصرنا، ثمّ أحلم بأنّنا نداوي جراح من جَرحْنا من الأعداء، أنا لا أحلم.. إنّها الحقيقة.. الأعـداء هم الأعداء.. والجراحُ هي الجراح.. لا فضل لعربيّ على أعجميّ.. لا نصر لأعجميّ على عربيّ.. العرب كانوا.. العرب استحقّوا هذه الكينونة.. العرب تفرّقوا في بقاع الأرض، ينثرون الورد، وأقراص الحلوى احتفالاً بنصرهم، العرب انتشروا في أصقاع الدنيا، يوزّعون على الأمم حصصها من كعكة النّصر...!!
مازلت أفتّش منذ بعض الوقت، منذ حطّين، عن بعض أقربائي الّذين استهوتهم لعبة التّوزيع
تلك...
هكذا أصيبوا بلعنة الدّخول في عالم الكرم الموروث عن جدّهم حاتم الطّائي، وزّعوا الكعكة كلّها، مازلت أنتظر عودة أقربائي، ما زلت أحلم، أحلم وأنتظر..! أنتظر حصتي من تلك الكعكة...!!
أنا ـ يا سيّدي ـ أقصّ عليك الحكاية كما سمعتها؛ أو قل كما شهدتها؛ كنتُ شاهداً على ذلك النّصر، وها أنت شاهدٌ على فقدان حصّتي منه، لا أريد شيئاً، لا أطلب شيئاً، هذه السّيوفُ الّتي تعانق رقبتي الآن، لا أراها تشبه تلك الّتي انتصَرنا بها في حطّين، هذه سيوفٌ مثلومة يا سيّدي، لا تبري الرّقاب.. لا تجرحها حتّى... ولكنّها تؤلم.. تؤلم كثيراً.. لو أنّك شحذتها يا صلاح الدّين، منذ حطّين لم تُشحَذ، لذلك فهي تكسر الرّقاب بدل أن تبريها... آآآآآآآه...."
ـ 5 ـ
الطّودان يحملانني من جديد، هما يجرّانني في الواقع.. فقدت الكثير من أدبي الفطريّ، تخلّيت عن تهذيبي بالكامل، وصرتُ لا أنصاعُ لأمرِهما بالمسير؛ لا أقدر أن أنصاع.. جرّاني إليه، إلى ذلك المتمترس خلف مكتبه، تحت معركة حطّين بحوالي متر، ذلك الّذي يملك شعراً أحسده عليه... وسألني:
ـ هل تذكّرت..؟!
ـ أجل تذكّرت.. تذكّرت جيّداً..
"في ميسلون كنّا بضعة رجالٍ فاقدي الأهليّة، قرّروا الانتحار تحت حديد المجنزرات، جاء الفرنسيّون في نزهةٍ إلى بلادنا، لم نكن كريمين كما يجب.. لم نكن كريمين إطلاقاً.. تخلّينا بسهولةٍ عن موروثنا الحاتميّ.. شاغبنـا على السّائحين.. أحدثنا بعض الفوضى، فقرّروا أن يرتاحوا منّا...!
لكنهم لم يرتاحوا بالكامل، لم يرتاحوا بتاتاً، وصار من الصّعب على الرّجال المهذّبين جدّاً، أصحاب العيون الزّرقاء، والشّعور الصّفراء، والأحذية الطّويلة اللاّمعة، أن يستمرّوا في نزهتهم هنا، فذهبوا...
وغورو اّلذي سلّم على صلاح الدّين لدى وصوله قائلاً: (ها قد عدنا يا صلاح الدّين) لم تطل زيارتُه، لم يفاجئنا بالرّحيل، كما فاجأنا بالحضور...
هل سيعود غورو يا سيّدي؟!!
غورو عاد ... عاد غورو ... أنا أخافه ... نجوت منه بأعجوبة في ذلك الزّمن...!!
لا..!! أنا لم أنج منه..!! قتَلَني آنذاك، لا يزال يقتلني حتّى الآن.. ياسيـّ....... آآآآآآخ..."
ـ 6 ـ
في ذلك المكان المظلم، ذي الرّائحة العفنة، كان صلاح الدّين يتابع سردَ حكايته عليّ، وعنترة العبسيّ، يقـرأ شعرَه على أنغام سيمفونية السّيوف، وعبلة تبكي قـدَرَها المحتوم، وصوت ارتطـام دموعها ببركة الدّمع، أو الدّماء، رتيباً، هادئاً , مشكّلاً إيقاعاً لتلك السّمفونيّة...
نهَرَتْهم أصواتٌ كثيرةٌ من الصّراخ والعويل والتّوسّل، سكتَ صلاح الدّين، ما زال ساكتاً حتّى الآن ...!!
وسكـت عنترة العبسيّ، ما زال ساكتاً حتّى الآن...!!
دموع عبلــة لم تتوقّف، صوت ارتطامها دمعةً دمعةً، ببركةٍ.. بحيرةٍ.. بحرٍ..؟! من الدّمع والدّم.. يا لهذا الصّوت، الإيقاع المستفزّ.. أكاد أجنّ، ارحموني.. يا شياطين الأرض... آآآآآه..... آآآآي ......
لو قليلاً تستطيعون تصديقي.. أنا ما قتلت أحداً، أنا ما سلّمتهم مفاتيح غرناطة، ولا بكيت عليها آن سقوطها.. أنا ما ضاجعتُ القدسَ قبل رحيلها، ولا كان هولاكو من أصدقائي، أنا لاااااااااااااااااااااااا....
ـ 7 ـ
في المكان المظلم ذاتِه، حيث الرّائحة الكريهة،
ثمّة سيوفٌ مرنةٌ مثلومةٌ، تعانقُ جسدي بأقصى ما تستطيع من قـوة العاطفة، وبعد كلّ نوبة عناق، يهطل المطرُ، ويتبلّل جسدي بسكاكين الماء، ثمّ يصعقني البرق؛ أنا الّذي لا برق لي ولا بريق، أنا المواطن العربيّ الصالح جدّاً، صالح الصّالح، النّابح دوماً: أطيعوا.. وأطيعوا... وأولي الأمر منكم..
أنا وريثُ الحطيئة..أنا حطيئةُ هذا الزّمان... أنا...
من استباحني...؟!!!!
ـ 8 ـ
..................
........................
من مجموعتي القصصية "مكاشفات زهرة الدّفلى