كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

محاولة تجديد اللغة.. ضوء على كتاب الطواسين للحسين بن منصور الحلاج

عبد الكريم حمزة عباس- فينكس

 المراد بمحاولة الحلاج تجديد اللغة هو سعيه للتخلُّص التام من أسـاليـب الصياغة اللغوية الشائعة فى عصره، وطموحه الكبير إلى استبدال اللفظ الذى اهترئ من كثرة التداول، بلفظ يتخلَّق بحرية خلال السياق الجديد، وقد تجلَّى هذا التجديد للُّغة السائدة، كما تجلَّى اكتشاف الحلاَّج لمعدن اللغة الصوفية الجديدة، فى النص الوحيد (الكامل) الذى بقى إلى اليوم من مؤلفاته. وهذا النص، الذى كتبه الحلاج فى سجنه ــ وهرَّبه تلاميذه ــ والذى يعدُّ واحداً من أروع النصوص الصوفية على الإطلاق؛ هو: كتاب الطواسين.

فى كتاب الطواسين، يحدد الحلاَّج كل التراكمات اللغوية والدلالية، ليعود إلى أصل اللغة: الحرف، وإلى التجلى الأتم لها: القرآن.

أراد الحلاج أن يغوص نحو الحروف، التى هى المادة الأولية فى اللغة، فجعل فصول كتابه (طواسين) أى أن كل فصل منها (طاسين)، مستفيداً فى ذلك من الدلالة الصوتية العميقة، الناشئة من جمع حرفى الطاء والسين؛ وناسجاً فى الوقت ذاته على منوال النص اللغوى الأقدس (القرآن) باعتباره المجلى الأصلي لصياغة الكلام الإلهى صياغةً عربية، فقد بدأت بعض سور القرآن بذكر الحروف، ومن بينها الطاء والسين، اللذين بدأ بهما الحلاج، وهذه السور هي سورة الشعراء ورقمها (26)، وسورة النمل ورقمها (27)، وسورة القصص ورقمها (28)، وسميت الطواسين لابتدائها بحرفي الطاء والسين.
ثم يأتى الحلاج بما يجلو الحرف، وذلك عن طريق الإضافة ليكشف عن مفهومٍ صوفى، يساوق الجمع اللغوى بين لفظين.
هذا المفهوم الصوفى هو باختصار: إن الحقيقة لاتدرك إلا من حيث النسب والإضافات، فلا توجد حقيقة إلا من حيث نسبتها وإضافتها. بعبارة أخرى: لن تصير حقائق الوجود قائمة بالفعل، إلا بعد إضافة هذا الوجود لله.
وإضافات الحلاج للطاء والسين، تكشف عن مستوى آخر من مستويات اللغة الصوفية عنده، وهو مستوى الترميز، فقد أراد الحلاج أن يبين للصوفية أنه لايمكن التحدث عن حقائق الطريق إلا رمزاً، فأضاف للحروف رموزاً، بحيث صارت فصول كتابه كالآتى: طاسين السراج، طاسين النقطة، طاسين الدائرة.. إلخ، أما النقطة والدائرة، فهما من الاصطلاحات التى سوف تستقر فى اللغة الصوفية، حتى يأتى ابن عربى ــ فى الفتوحات المكيــة ــ فيجوس فى مفاوزهما، ويكشف عن دلالاتهما الخاصة بالجدل المعرفى (الابستمولوجى) الكاشف عن العلاقة الوجودية (الانطولوجية) بين الله والإنسان الكامل.
ومن الحروف، تتألف الأسماء التى هى الظهور الخاص لحقائق الأشياء، كُلٌّ على حدة، ولذلك فحين أراد الله تعالى أن يتميَّز آدم، علَّمه الأسماء كلها، ثم أظهره على الملائكة، إلى آخر ما ورد فى الآيات القرآنية، ولذا واصل الحلاَّج غوصه، فى محاولةٍ لكشف حقيقة الأسماء، بوصفها مركبة من حروف، وضرب لذلك أمثلة فى سياق كلامه، منها قوله فى (طاسين الأزل والالتباس) ما نصُّه: اشتقَّ اسم إبليس من رسمه (يقصد: لأنه التبس عليه الأمر فى الأزل) فغيِّر عزازيل، العين لعلق همته (يقصد: لأنه تعلَّق بالله على التجريد فلم يسجد لغيره) والزاى لازدياد الزيادة فى زيادته (يقصد: لأنه أزاد على كونه طاووس الملائكة، كونه الوحيد الذى لم يسجد لغير الله) والألف إزادة فى أُلفته، والزاى الثانية لزهده فى رتبته، والياء حين يهوى إلى سهيقته، واللام لمجادلته فى بليَّته، قال له: ألا تسجد يا أيها المهين؟ قال: محب، والمحب مهين.
و أكتفي بهذا القدر لكي لا يتسرب الضجر إلى القارئ.