كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

انطباعات مغترب قضى عطلته الصيفية في سورية

د. جوليان بدور- فينكس:
لم يكن قرار قضاء العطلة الصيفية في ربوع الوطن مع أولادي (شاب وصبية) سهلاً على الإطلاق بعد انقطاع دام لسنوات. فبالإضافة الى الصعوبات التقنية التى فرضها الحصار الجائر على سورية (أي عدم وجود إمكانية حجز بطاقة طائرة او فندق عن طريق النت) والصورة القاتمة التى تنشرها وسائل الاعلام المٌغرضة، تساؤلات عديدة كانت تدور في مخيلتي.
- كيف سيكون حال البلد والناس بعد أكثر من اثنتى عشر سنة من الحرب الكونية القذرة والحصار الجائر على بلدنا؟ كم من الأشخاص سأشاهد على الأرصفة ينامون او يتسولون كما هو الحال الآن في أغلب الدول الغنية؟ هل ما زالت أسعار المواد الغذائية الأساسية (الخبز مثلًا ) في متناول الجميع أم أنها أرتفعت بشكل جنوني وأصبحت خارج القدرة الشرائية لغالبية الناس؟ كيف سيكون حال الطقس وهل سنعاني، مثل ما عانت بعض الدول الغربية (ايطاليا أو كندا) هذا الصيف، من موجات الحر الشديد؟ هل عاد ألأمن والأمان الى سورية كما كان في الماضي؟
من الصعب جداً الإجابة على هذه المجموعة من التساؤلات. ولكن بعد قضاء ما يقارب الشهر في ربوع الوطن مع أطفالي سأحاول الإجابة بأختصار شديد على هذه الاسئلة.
١- من الناحية الاقتصادية: لا يمكن لأي مراقب ان ينفي وجود الأزمة الاقتصادية التى تعاني منها سورية والتدني الكبير في القوة الشرائية للرواتب وتراجع معدل صرف العملة الوطنية والمستوى المعيشي للناس وأزمات البنزين والنقل والكهرباء وغيرها من الأمور. ولكن السؤال الذي يطرح هو: هل هذه الأزمة هي نتيجة طبيعية لحرب دامت اكثر من ١٢ سنة ولم تنته بعد أم لا؟ قراءة تاريخ الدول التى عانت من الحروب (وخاصة المانيا وروسيا في الحرب العالمية الثانية) تشير الى أن أي بلد يتعرض لحرب بهذه الضراوة ولمدة زمنية بهذا الطول، ولحصار بمثل هذه القساوة، لا يمكن أن يتجنب تدني مستوى المعيشة للسكان وآثاره الاقتصادية والبشرية والاجتماعية.
- بالرغم من الأزمة الاقتصادية الحالية يمكننا القول بأن الأمور ليست قاتمة وسوداوية لهذه الدرجة كما تحاول نقله وسائل الأعلام المغرضة، اذا ما أخذنا بعين الاعتبار العناصر والحقائق التالية:
- سورية جريحة لكنها منتصرة حيث ما زالت الدولة قائمة وتقوم بواجباتها وتحترم المواعيد الدستورية….
- ما زال سعر رغيف الخبز (المادة الغذائية الاساسية للسوريين) من بين الأرخص في العالم، إن لم تكن الأرخص ، بفضل الدعم الكبير للدولة لهذه المادة الأساسية
- ما زالت اسعار الفواكه والخضر والمواد الغذائية الاخرى الأرخص مقارنةً بالدول المجاورة والبعيدة والتى لم تعاني من اي حرب.
- بالرغم من قساوة الأزمات التي مرت على الشعب السوري والحرب الكونية عليه، ما زالت البسمة تعًمر على وجوه أغلب السوريين وما زالوا محتفظين بنعومة التعامل وكرم الضيافة مع السواح والأجانب.
٢- من ناحية المناخ والطبيعة
منذ زمن طويلا لم أستمتع بمناخ وطقس كالذي قضيته في قريتي الجبلية ولَم أر هواء بهذه النقاوة والصفاء وبيئة بهذا التنوع والغنى كالذي رأيته في بلدنا (مع الاشارة مع ذالك الى ظاهرة الانتشار الواسع والمحزن لأكياس النايلون والمواد البلاستيكية في بعض الأماكن)
- حرارة معتدلة في النهار وطقس ماءل للبرودة ليلاً. سماء زرقاء صافية لا تشوبها طبقة من الغازات الملوثة (كما هو الحال في أغلب الدول الغنية) ولا يعكر صفاؤها سوى الظهور الآني للضباب عند المساء وفي الصباح الباكر.
- وأما عن غروب الشمس وشروقها فحدث بلا حرج، غروبها في كل مرة يقدم لك لوحة فنية بمنتهى الجمال تتغير من دقيقة الى أخرى تنعش النفوس وتوقف الأنفاس.
- وفيما يخص الطبيعة والبيئة والنباتات والزهور البرية والجبال والوديان فهي من الجمال والتنوع البيئي أعجز من أن توصف حقاً بكلمة او جملة… لم أستمتع بحياتي بهذا الكم من الإعجاب والتقدير كما أستمتعت هذه المرة، ولم أر هذا الكم من التنوع والجمال في الزهور والورود البرية العذراء (وخاصة شقائق النعمان وزهور أو شوك الجمل…) كما رأيته هذه المرة.
٣- من ناحية المناطق السياحية والأثرية
- تعتبر سورية من بين أغنى الدول بالمناطق السياحية والأثرية بالعالم. فإذا كنت من هواة الشواطئ والسباحة، فستجد شواطئ بمنتهى الجمال في اللاذقية أو طرطوس على الساحل السوري. أما إذا كنت من هواة مناطق الاصطياف الجبلية أو الدينية أو الأثرية، فما تجده في سورية لن تجده باي بلد آخر بالعالم
٣- من ناحية الأمن والامان:
من وجهة النظر هذه يمكننا القول بأن الأمن والأمان قد استتب من جديد في المناطق التى توجد تحت سيطرة الدولة. بعكس الاقتصاد وتحسن المستوى المعيشي للناس، اللذان يتطلبان، وفقاً للقوانين الاقتصادية الأساسية، وقت طويل للعودة الى مجراهم السابق، فإن الأمن والأمان استتب من جديد كما كان الأمر في الماضي. هذا الإنجاز لا يقدر بثمن. كيف بإمكان دولة، ما زالت في حالة حرب منذ أثنى عشر عاما وعانت ما عانت من دمار طال كافة اوجه الحياة الاقتصادية والاجتماعية والبشرية، أن تتمكن في وقت قياسي من فرض الأمن والأمان على كافة المناطق التى تقع تحت سيطرتها؟ ألا يعتبر الأمن والأمان عنصر هام أو سر من أسرار السعادة والراحة النفسية التى يتميز به السوريون عن غيرهم من الشعوب. ما الفائدة من امتلاك الثروة والمال إن لم تشعر بالأمن والأمان؟
- في طريق العودة توقفت في دمشق وتجولت في سوق الحميدية المزدحم بالناس، لم أشعر قط ولو لثانية بأنني في حالة من عدم الأمان او أنني معرض للنشل والسرقة. شاهدت البسمة على وجوه أغلب الناس والأطفال وكل من طرفه يبذل الجهد، مع الابتسامة طبعًا ، من أجل جذبك وإقناعك بشراء منتجاته.
- الدليل الآخر على استتاب الأمن والأمان هو محلات ًبيع الذهب. فبالإضافة ألى أن الواجهة غير مزودة بزجاج ضد الكسر، أبواب محلات بيع الذهب تترك مفتوحة طوال وقت العمل كغيرها من المحلات، لا كميرات للمراقبة ولا حرس خاص كما هو الحال في البلدان الغربية. ومع ذالك من النادر جدًا ان تسمع خبر سرقة لمثل هذا النوع من المحلات (على عكس ما يجري في البلدان الغنية)!
٤- من ناحية النوم والغذاء. في سورية يوجد جميع أنواع الفنادق من فئة الخمس نجوم الى فنادق النجمتين بالإضافة الى الشقق السكنية. الأسعار معقولة ومقبولة. وإذا لم تكن من هواة الفنادق، فبامكانك ان تجد ما تبحث عنه في الشقق السكنية وخاصة في مناطق الاصطياف. وأما عن الطعام والغذاء فحدث بلا حرج. ليس فقط من ناحية النوعية والجودة والتنوع، وإنما ايضاً من حيث الأسعار. لا شك بأن المطبخ السوري هو من بين أغنى المطابخ بالعالم وأكثرها تنوعًا وطعم ونكهة. في إحدى المرات ذهبنا الى مطعم مشهور باللاذقية، سعر وجبة طعام لخمسة أشخاص (كيلو مشوي مشكل عجل، مع صحنين بطاطا وصحن حمص وجاط سلطة ومياه ومشروبات غازية وكريم التوم) لم بتجاوز ٢٠٠٠٠٠ ل. س. أي اقل من ٢٠ دولار. وأما عن الفواكه والخضروات والحلويات، الجميع، سواح ومغتربين، وبدون أستثناء يعترف بان طعم ونكهة وسعر الفواكه السورية لا مثيل له بالعالم.
٤- وأخيراً يمكنني القول: بأنني أنا وأولادي ، قضينا عطلة صيفية سعيدة وممتعة في سورية الحبيبة. والدليل هو ان أولادي قالوا لأمهم عند عودتهم الى البيت بأنهم يودون العودة الى سورية في السنة المقبلة لقضاء عطلتهم الصيفية.

لطافة الناس ومعاملتهم وخفة روحهم ودمهم، كرم الناس وضيافتهم ، جمال الطبيعة وعبقها، روعة الطقس واعتداله ، تنوع البيئة وغناها ، جمال الزهور وعطرها، نكهة المطبخ السوري وتنوعه، كل العناصر التي تجعل من عطلتك الصيفية عطلة ممتعة وشيقة كانت مجتمعة . واذا ما أضفت الى كل هذا بإن سورية هي عبق التاريخ ومهد الحضارات والأديان ، فلن تجد صديقي السائح أو المغترب، أجمل من بلدنا ، بلد الشمس والأبجدية الأولى.