كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الحياة الريفية في سورية.. أمهات قديسات وآباء مُعطاؤون وطفولة سعيدة

د. جوليان بدور:
حتى ولو أن الأحداث وقعت في عقد الخمسينيات من القرن الماضي، إلا إن الظروف المعيشية السائدة في الغالبية العظمى من قرى سورية خلال تلك السنوات كانت مشابهة جدًا لظروف العيش الصعب في قرون خلت، الغياب الكلي للبنى التحتية من طرق وكهرباء ومدارس ووسائل النقل بين القرى والمدن جعل من التجمعات السكنية والقرى الريفية البعيدة عن المدن تعيش في أجواء مغلقة ومعزولة عن بعضها البعض.
انزواء القرى وعزلتها ترك أيضاً أثراً كبيراً على أنماط عيش القرويين وطرق تنظيم عملهم وحياتهم، فمثلًا من أجل التزود بالمواد المنزلية والنسيجية والغذائية كالسكر والملح والملابس والأحذية التي لا يمكن إنتاجها محليًا، كان على تجار القرية (أصحاب الدكاكين) قطع مسافات طويلة للوصول إلى الأسواق التجارية في المدن القريبة، صاحب دكان القرية (المرحوم أبو نظير) كان يستقل حماره للذهاب إما إلى اللاذقية التي تبعد حوالي ٤٥ كم عن القرية أو إلى جسر الشغور التي تبعد أكثر من ٥٠ كم للتزود بالمواد التي كان يبيعها لأهل القرية.
كما أن انزواء القرى لعب دوراً رئيسياً في انعدام فرص التجمع والمخالطة والتعارف بين مختلف سكان قرى المنطقة، مما جعل من احتمال زواج أهالي القرى من أشخاص من خارج القرية ضعيفا جدًا، هكذا أصبح الاقتران ما بين الأقارب والجيران (أولاد العم والخالات وأبناء القرية) هي العادة السارية بالقرى الريفية.
الخاصة الأخرى التي أنتجتها عزلة القرى وبعدها عن المدينة هو أن الزواج المبكر كان التقليد المتبع والسائد عند الشباب لأسباب عديدة:
أولاً: فقر الحياة من أي أنشطة تعليمية وثقافية واقتصادية غير الزراعية.
ثانياً: ارتفاع مستوى الوفيات وقصر متوسط العمر المتوقع للناس في ذالك الوقت.
ثالثاًًًًًًًًًًً، وأخيراً: ضرورة إنجاب عدد كبير من الأطفال من أجل القيام بالأعمال الزراعية والعناية بالأهل المسنين. مجمل هذه الأسباب جعلت من الزواج المبكر وإنجاب أكبر عدد من الأطفال ضرورة ملحة لا مفر منها في تلك الحقبة من الزمن.
أبي وأمي لم يستطيعا الإفلات من هذا القانون، حالما بلغت والدتي سن الرشد، تقدم أبي بطلب يدها وحسم أمر زواجهما بسرعة فائقة وتزوجا في عام ١٩٤٨ نظراً لكونهما أولاد عمْ، الزواج لم يكن قط مُكلفاً إذ اقتصر تجهيز العروس على صندوق مزخرف وجميل.
طموحة وذكية، قلب كبير وعقلية منفتحة، تزوجت والدتي وهي صبية يافعة في سن السادسة عشرة، أما والِدي فكان بقامة كبيرة وبجسم صلب، أشقر وحنطي اللون، قاسي الملامح و له هيبة كبيرة، تزوج وكان عمره ثلاثة و عشرين عاماً، تسلح والديّ بحبهما وعطائهما وإخلاصهما لبعضهما البعض، كان عليهما القيام بمهام عديدة قاسية ومتنوعة كتأسيس عائلة مع الكثير من الأطفال، إعانة جدي وزوجته المسنين، والاعتماد على الزراعة حصرياً لتأمين مصدر دخل يسمح بإطعام الأطفال وتربيتهم ورعايتهم.
معظم الناس آنذاك لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، صغيرو السن وقليلو الخبرة، كان عليهم، وبمفردهم، مجابهة ظروف حياة عائلية ومعيشية، أقل ما يمكن أن يقال عنها بأنها قاسية إن لم تكن تلامس حدود المستحيل، فبالإضافة إلى بناء مجمع سكني كبير من البيوت لهم ولعوائلهم وحيواناتهم الأليفة وضرورة القيام بالصيانة السنوية لمنازلهم الترابية ذات المساحة الواسعة (إضافة طبقة من الطين اللزج على السطح لمنع تسرب مياه الأمطار) كان عليهم أيضاً حراثة عشرات الدونمات من الأراضي وزراعتها وجني المحاصيل وتخزينها، كما كان عليهم العناية بقطيع من الماشية مؤلف من سبعة رؤوس، وتربية وتعليم خمسة إلى سبعة أطفال في الوقت نفسه، بالإضافة إلى تحمل وزر ومتاعب قدوم طفل جديد كل سنتين.
والديّ بعد ست سنوات من زواجهما، رزقا بثلاثة أطفال ابنتين وصبياً أسمياه "وهيب"، إلا إن وهيباً ولسوء الحظ توفيّ بمرض الحصبة، مما دفع جدي بتوجيه إنذار إلى ابنه الوحيد بأنه سيزوجه من امرأة ثانية أن لم تلد والدتي صبياً في المرة القادمة، بعد سنة حملت والدتي بي ودعت لله بأن ترزق بطفل، من حسن حظها أنجبتني في عام ١٩٥٧ وأطلقت عليّ اسم وحيد، لكن كأخيه وهيب، أصيب وحيد بدوره بالمرض القاتل نفسه الذي أصاب شقيقه، لا شك بأن إصابتي بمرض مميت في مثل هذا المناخ العائلي المتشنج، قد تسبب بمعاناة وضغوطات نفسية ومعنوية هائلة على والدتي، لأنها كانت تدرك تماماً فيما لو أن الموت حصدني، كأخي وهيب، فإن خطر زواج والدي مع امرأة ثانية كان محتماً، مما سيغيّر حياتها رأساً على عقب (لاسيما وأن الزواج في ذلك الوقت من أكثر من امرأة كان دارجاً).
لحسن الحظ قاومت المرض ونجوت منه بأعجوبة. فمجيئي إذاً إلى الحياة ونجاتي من الموت كان له أثر ووقع خاص على الحياة الزوجية لوالديّ وخاصة على والدتي، ولهذا السبب نشأت منذ تلك اللحظة علاقة خاصة وفريدة من نوعها بيني وبين والدتي، تعلق والدتي بي وحبها لي كانت تعبر عنه من خلال الطريقة التي كانت تناديني بها.
فبينما كان الآخرون ينادوني بصوت جاف وقصير، يا وحيد، والدتي هي كانت تناديني بإطالة النطق “يا وحيييد، يا قلبي وضوْ عيوني تعى لعندي"، لكنها ماتت وراحت وهي تردد هذه الجملة حتى آخر رمق بحياتها. لإدراك القيمة الحقيقية لهذا التعبير نطرح السؤال التالي: هل من قيمة للحياة بدون قلب حنون وضوء عيون؟
من بعدي، أنجبت والدتي الحنونة ابنتين وخمسة ذكور توفي منهم اثنان. الشيء الواجب ذكره هو أن والدتي حملت وأنجبت أحد عشر طفلاً وطفلة دون مساعدة قابلة التمريض أو الذهاب إلى أي مشفى! الأنكى من ذلك، نساء عديدات في القرية، وَلدْنّ في الحقل أو على الطرق المؤدية إلى الحقول.
لكن ما يزيد في القلب حرقة، هو أنه إذا حصلت الولادة بالصيف، موسم العمل الشاق والدؤوب وجني المحاصيل، كما حصل معي، فإن والدتي، كبقية نساء القرية، لم تكن تنعم بالراحة ولو ليوم واحد، لا قبل الولادة ولا بعدها. إذ كان عليها طهي الطعام وجلبه، مشياً على الأقدام لمسافة بعيدة وفي عز دين الحرّ، إلى والدي الذي كان يحصد ويعمل بالأرض وحيداً منذ طلوع الفجر.
معاناة المرأة الريفية لم تكن تتوقف عند هذا الحدْ. فإذا كان هناك تَعْسر بالولادة، كما حصل أكثر من مرة لامرأة في القرية المجاورة، كان أهلها يضعانها على سلم خشبي، وتحمل على أكتاف الرجال من الأقرباء والجيران (اثنان في الإمام واثنان في الوراء) ويمشون على الأقدام أكثر من ساعتين بالوحل والعتم والبرد والصقيع، بالليل أو في وضح النهار، تحت المطر أو الثلج ، حتى الوصول إلى قرية عرامو التي كان يبيت فيها المكروباص من أجل نقلها فيما بعد إلى المشفى باللاذقية.
هذه هي نبذة قصيرة عن طبيعة الحياة الريفية لأمهاتنا وجداتنا وأهلنا في حقبة الخمسينيات والستينات من القرن الماضي. الصعوبات والمشقات كانت حقيقة وصحيحة، وقد تثير الشفقة والحنية عند الكثير من الناس وخاصة في الوقت الحاضر. لأن مهام وواجبات المرأة الريفية كانت متعددة وقاسية. فبالإضافة إلى قيامها بحراثة الأرض وجني المحاصيل ونقلها جنباً إلى جنب أزواجهن، كان على المرأة الريفية القيام أيضاً، بعد العودة إلى البيت مساءً، بطهي الطعام والخبز على التنور وحلب البقرات وإطعام الأطفال وتنظيف البيوت، أي أن عملها في الصيف كان يبدأ حقيقة منذ طلوع الفجر حتى منتصف الليل.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو التالي، هل كانت المرأة الريفية تعاني فعلاً من الكآبة والحزن والتشاؤم والتعاسة كما يظن الكثيرون، أم إنها كانت راضية عن عيشتها وسعيدة مع أطفالها وعائلتها؟ ليس من السهولة بمكان الإجابة على هذا السؤال. لكن تجربتي الطويلة والغنية والمتنوعة في الحياة (٢٥ سنة في سورية، ١٥ سنة في فرنسا و ٢٥ سنة في جزيرة ريونيون الاستوائية بالمحيط الهندي) تسمح لي بالقول وبكل ثقة، بأن أمي كانت راضية ومسرورة ومرتاحة في حياتها معنا ومع زوجها، للأسباب التالية:
أولاً: طوال حياتي معها لم أسمعها تصرخ بنا أو تشتمنا، بل كانت تنادينا بكثير من الرأفة والمحبة والحنان.
ثانياً: لم أرها يوماً رفعت يدها لا عليَّ أنا ولا على أخوتي، فلو كانت تعبة وتعيسة وغير راضية من حياتها لتعاملت معنا بطريقة أكثر خشونة ورعونة.
ثالثاً: الضحك والبسمة لم يغادرا وجهها يوماً، وطيب الكلام ومزاولة الغناء لم يفارقاها قط. رابعًا، لو كانت أمي حزينة وغير مرتاحة في حياتها، لِما أصرت وعملت كل ما بوسعها من أجل تعليمنا، أنا وأخوتي، على روح التسامح والتواضع والسعادة والعفة وتمني الخير للآخرين.
والسؤال الآن ما هي الأسباب التي قد تفسر سعادة والدتي وحبها للحياة الريفية بالرغم من صعوبات الحياة الريفية ومشقاتها؟ برأينا هناك عدة أسباب:
الأول: هو أن المرأة الريفية لم تكن أنانية أو فردية أو تعاني من حب الذات والنفس، كما هو الحال في الوقت الحالي، بل كانت تعتبر سعادتها وفرحها مرتبطين ومشروطين بسعادة أطفالها وزوجها.
الثاني: المناخ العائلي الريفي كان مناخا صافيا وخاليا من قصص الغدر والخيانة الزوجية مما ساهم في زرع الطمأنينة والثقة في نفوس القرويين.
الثالث: سكان الريف كانوا يعيشون في بقعة من جنة الله على الأرض، حيث البيئة النظيفة والطبيعة الساحرة والهواء النقي والطعام الصحي الخالي من الهرمونات والتلوث، والمناظر الخلابة، والسكينة والطمأنينة الذين كانوا يخيمون على القرية.
فتحية حب وتقدير إلى أمي الحنونة، القديسة أم وحيد، وإلى جميع الأمهات السوريات، عفواً القديسات السوريات، اللواتي برهن، كما برهنت الأمهات السوريات من جديد في الأزمة الحالية، بأن الأم المشرقية وبخاصة السورية ليست كغيرها من الأمهات، لأنها بكل بساطة رمز العطاء اللامتناهي والصبر اللامحدود والتفاني الكبير والمحبة العارمة، والعفة والطهارة وجمال الروح والخلد.

*باحث وأكاديمي فرنسي من أصل سوري – جامعة ريونيون الفرنسية.

صحيفة الثورة